ايمان عبد الحسين - قراءة ما لم يُقرأ في القصّ العراقي.. الطرق

لكي ينتزع القاص موسى غافل الشطري في مجموعته فناءات قزحيةً الصادرة عن دار الشؤون الثقافية العامة لمسة من الحنان وفرحة من ألق الماضي راح يستدعي الطيور المحلقة والاشجار الوافرة والمرايا الصقيلة وأغاني فيروز الشجية، فما بين عتمة الحياة ورفض الروح لهذه الرؤية وما بين الرغبة في التحرر من قيود الحاضر والمسير نحو مستقبل أكثر أملا وما بين التغلب على قلق السكون والوحدة والرتابة لم ينفق القاص جهداً بأن يجد لأبطاله نمطاً يرتبطون به في علاقة خاصة بالاشياء المحيطة بهم من جهة وباحلامهم وذكرياتهم من جهة اخرى.
وبهذا مزج القاص بين الواقع الوهمي والحقيقة الواقع المعيش أعتمد في رسم أحداث أغلب قصصه على الرمز والايحاء والتي يبدو فيها ان علاقة الشخصيات مع الواقع هي علاقة مع الفضاء المحيط بها من حيث ما يكونه من مناظر طبيعية من جماد ونبات إذن فان اغلب الاشياء هنا تمتاز بدلالتها الرمزية هي اكثر منها شيء جامد فالقاص لا يرى هنا الطائر مجرد طائر ولا يرى الطائرة الورقية مجرد لعبة لاطفال وانما هما رمز للحرية والانعتاق من أسر الموت والفقر وكذلك لا يرى الاشجار الوافرة هي مجرد اشجار وانما أخضرار الاشجار هنا رمز للسعادة والامل ولكن وجود هذه الدلالات في سياق دلالات أخرى متناقضة من يباس الاشجار وضبابية المرايا وانسدال الستائر يوحي بلوجه النقيض أو ربما يمكن القول بهذا السياق ان هذه المكونات بقدر ما تمنح الاحساس بالامل والحياة بقدر ما تعطي معنى الذبول والنهاية فنرى هنا ان المرموز يمارس الفعل على الرمز وذلك لتسويغه معنى جديداً كأن يتجدد رمز الاشجار من دلالة الحياة وهي وافرة الى دلالة الموت وهي متجردة.
وهذه الثنائية التي تتعلق ما بين الماضي والحاضر وما بين الاسى والفرح والغنى والفقر تقابلها ثنائية أخرى هي ثنائية التغير والسكون وهي أشبه بالخيط الذي يمتد على طوال المجموعة فالماضي يرتبط بالحياة والحركة والصحة والحاضر يرتبط بالسكون والمرض هكذا يظل الماضي قائما في اذهان أبطال قصص فناءات قزحية.
كما في قصة رحيل خريفي”كم تغيرت الاشياء؟ كانت - حينذاك - فتاة رقيقة، ناعمة. هادئة الطبع. وكانت... تستلقي على ذراعه، أيام الدفء . وتتلفع بدفئه ايام البرد.
وفي قصة مواسم”فتذكرت الاب - ايام زمان- كيف ينط - هو - الجدار برشاقة.
والكلب يفعل هذا. يقعي فوق الجدار. مقرفصاً بتحفز.
متحرباً بعينين عدوانيتين، فناءات القرية. عله يعثر على منازل “.
وبما أن اهمية أي عنوان يأتي من كونه ممرراً يلتقي في في بعديه الدلالي والرمزي بحيث لا يمكن لاي قارئ ان يدخل عوالم النص القصصي ويدرك دلالته البنائية دون معرفة وادراك هذا الممر فالعناوين سواء كانت عناوين الغلاف الخارجي او عناوين القصص الداخلية تعتبر منطلقات مهمة للقراءة بالنظر الى الوظيفة التي تؤديها فنرى هنا ان فناءات قزحية تنتمي الى عنوانها بأمانة اذ تمثل اكثر من لون مثلما يتخللها الكثير من أرهاصات الاحلام ولكن بقدر ما يمثل طرح هذه الاحلام فاصلة ما بين الحقيقة والايهام التي راح القاص يلقي من خلالها الحاضر بكل قسوته من فقر ومرض الى الخلف ليترك الباب موارباً على الماضي لما يحتويه من أمن واستقرار لكونه طرحاً مثالياً يعتمد الانزياح عن المعيار الحقيقي نحو الخيال لكن تمكن ملاحظة ان هذا الطرح يمنح ايضاً احساساً ولو بسيطاً في الحركة نحو الامل وذلك من خلال عدة ادوات سنتناول هنا فعل طرق الذي من خلاله ننفتح على تأويلات عديدة.
ان التسليم بأهمية التغير هو وجه اخر من التسليم باهمية الطرق، وذلك فالطرق هنا هو اللحظة الزمنية التي يقف عندها الاحساس ما بين الامل واليأس وهو الحد الفاصل ما بين الحقيقة والخيال فالطرق على الباب في قصة”يوم ممطر “ عقب فاصله آنهماك حسي وشعوري من شخصية المرآة الكسيحة يمكن ان يمنح احساساً في البداية والامل وهو معنى أيحائي يمكن ان يشير الى التواشج مع مجموعة من المعاني اللغوية الاخرى التي تتوزع على امتداد القصة والتي تتمثل في”الاشياء تتململ من سكونها - بقي المشط يسرح مواساة تلك الاصابع... التي بدأ عليها ذلك الارتعاش الخفيف “- ومسحت بقايا المرآة- رفعت قامتها وابتعدت - وأخيراً في الطرق على الباب.
ولكن في قصة”ترتيلة لاربعة من طيور الحب “ يحاول القاص ان يعطي صورتين متناقضتين الفاعل بينهما لا يكاد يكون سوى طرقه على الباب فالاول جسد فيه عالماً جميلاً متناغماً من خلال رسمه للوحة وفي الآخر جسد عالما سقيماً تعيش فيه عائلة خائفة على فقد أبنائها نتيجة إصابتهم بمرض انعدام البايوتين الذي يؤدي الى التشوه والموت ليعود في النهاية الى العالم الجميل من خلال الرسم ايضاً: بهذا مزج القاص ما بين الخيال الذي يمثل اللوحة الواقع الذي يمثل العائلة فهو يؤمن بأن السعادة لا تكون إلاّ من خلال الخيال.
وبما اننا نجد ان الطرق في القصتين السابقتين ينحو باتجاه الواقع نجد ان صانع الطائرات الورقية في قصة”فناءات قزحية “ التي سميت المجموعة باسمها وهو يطرق ابواب الليل ينحو نحو الخيال ونرى من خلال هذا التقسيم القاطع بين العالم السفلي الذي يمثل الواقع والعالم العلوي الذي يمثل الخيال فعلى امتداد هذه القصة يحاول القاص استخدام امكانيات التوازي وسيلة لاضاءة عالم شخصياته المتناقضة، فان الطفل بالمه وفقره يتوازى مع صعود الطائرة الى الاعلى وهكذا من خلال هذا التراتب ما بين الاسفل والاعلى يصبح الاسفل مجسداً للفقر ويصبح الاعلى مجسداً للغنى كما تبدو من خلال هذه الثنائية المتقابلة ما بين الطيران والانحدار بمثابة المقياس الذي يبين الصراع الطبقي.
ومن الواضح ان موضوع الطرق في قصة”طارق الليل “ هو تنويع على عزف اخر فقد تم على نحو معاكس عن القصص السابقة اذ نرى ان في القصص السابقة سواء أكان ينحو نحو الواقع او نحو الخيال فهو بات مرادفاً لمعنى التغير ولكنه في قصة”طارق الليل “ نرى العكس من ذلك فقد اعطى هنا احساساً باللاجدوى وعصاه ذات العقب الحديدي، تقرع وجه الاسفلت. وتصدع صمت الليل. فيوحى للسامع اللائذ بثقل دثاره ايقاع عصا قيس الرتيب. الذي ما استطاع ان يرسم على اديمه.. بيت شعر واحد. او حرفاً يناجي به ليلاه. فاستعاض عنه بالقرع.
نجد في هذا المقطع من القصة ان حالة البطل الداخلية اتت موازية للواقع الخارجي المحيط به متفاعلة معه منعكسة عليه فالوصف هنا يشكل بعداً نفسياً لبطل القصة يصور فيه نوزاع الوحدة ولا جدوى.
واخيراً نستطيع ان نخرج من كل ذلك بنتيجة موداها ان فعل الطرق وغيره من الادوات الاخرى سواء وظفت باعتبارها معادلاً للتغير من الخيال الى الواقع او من الواقع الى الخيال فانه من الواضح ان القاص من خلاله استطاع التعويض عن الفضاء المفتقد ما شكل وافداً مهماً في تحديد رؤيته الى الواقع الرؤية التي اراد بها السعي نحو الامل والتغير.



تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى