عبدالسلام بنعبدالعالي - صورة..

aylan (2).jpg


لا نستطيع أن نفهم الوقع الذي خلّفته صورة الطفل الكردي، الذي قذفته مياه البحر على الشواطئ الأوروبية، على كل من شاهدها، وعلى الرأي العام الأوروبي، وكذا التغيير الذي أحدثته على مواقف القادة الغربيين، ما لم نتوقّف- أولا- عند مفعول الصورة في عالمنا المعاصر، ثم عند مضمون هذه الصورة على وجه الخصوص.

قيل: إن ما كان لهذه الصورة من وقع يفوق مفعول آلاف الكلمات. ترجع القوة الإقناعية للصورة في عصرنا إلى ما تدعوه حنة آرندت «المصداقية ذات الأصل الاختباري». فعصر الصورة يقترن- أساساً- بهوَس الالتصاق بالواقع المباشر. وقد سبق لآرندت أن بيّنت «أنّ إنسان عصر الصورة، الذي يقدّس الشفافية، قد تخلّى عن كل مثل أعلى قد يكون بالنسبة إليه مصدر ردع وإكراه، فانطوى على نفسه بعيداً عن أيّ انفتاح على الخارج، وصار مكتفياً بعالمه الضيّق، ملتصقاً بالمألوف الذي يعج بتمثلات تلتصق أشد الالتصاق بالواقع المباشر». هنا، يغدو «البعد الاختباري» «EMPIRICITÉ» أبلغ من أيّ تعبير، وأكثر قدرة على «الرّدع والإكراه»، وأقوى الحجج إقناعاً، وأكثر الخطابات بياناً.

أوَّل تجلٍّ لهذا «الالتصاق بالعالم الضيّق» كون صورة الطفل آيلان ردّت كل من شاهدها إلى نفسه، وإلى «واقع الحال». تجلّى هذا أكثر ما تجلّى في تصريح وزير الخارجية البريطاني الذي انقلب رأيه في قضية المهاجرين رأساً على عقب، فاعترف: «أنا أيضاً أب لأطفال، ولا أريد أن أرى ابني على هذه الحال».

صرّحت الصحافية التركية التي ألتقطت الصورة بأنها رأت الطفلين الأخوين معاً وقد ألقى بهما البحر على الشاطئ، إلّا أنها أخذت صورة منفردة لكل منهما. لقد دفعها حسّها الصّحافي أن تدرك أن وحدة الطفل آيلان لغة جديدة ومغايرة للتعبير عن واقع الهجرة. فقد عوَّدتنا الوسائط الإعلامية في هذا الشأن تعبيرات عددية كمّيّة تحصي كل يوم ضحايا «الحرائق» البحرية، وقد ألفنا تلك الأعداد إلى حدّ أن فروقها لم تعد تعني، بالنسبة إلينا، شيئاً كثيراً. ولا شكّ أن كلاً منا رأى أكثر من مرّة، على الشاشات العالمية، الجثث العديدة التي لا يفتأ البحر يلقي بها على مختلف الشواطئ الأوروبية، غير أن التعبير الكميّ غالباً ما يُخفي قوّة «الكيف» ويحجبها. ولا شك أن صورة طفل وحيد مُلقى به، دون حِراك، في شاطئ امتلأ صيفاً، صخباً ، وحركة، وحياة، طفل لا نستطيع أن نحدّد، من خلال الصورة، هويّته ولا وطنه ولا دينه ، لا شك أنها تلخّص، بكثافة أكثر، هول مأساة الهجرة، وتبرز للعيان الخلل العميق الذي يطبع العلاقات الدولية، وتجسد بعمق وكثافة، عجز الذين يتشدّقون بقيم المساواة وحقوق الإنسان عن مدّ يد المساعدة لمن يعلّق آماله على العبور نحو العالم المتحضّر.

رغم الحِراك الأوروبي الذي خلّفته صورة طفل بلا حِراك، يظهر أن الأمر لا يعدو ردود الفعل المباشرة، وأن الضرورة قائمة للتعلّق بـ«مَثَل أعلى يكون مصدر ردع وإكراه حقيقيَّيْن»، بحيث لا نقتصر على «الالتصاق بعوالمنا الضيقة»، والاكتفاء بـ«المصداقية ذات الأصل الاختباري»، وإلّا فلن ننفك نرى البحر يقذف بأطفال لا يملكون حِراكاً يُولونا ظهورهم، ويمتنعون عن أن ينظروا إلينا وجهاً لوجه؛ غضباً ويأساً من الإنسان فينا.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى