عبد السلام بنعبد العالي - الأصل - المسودة..

عندما يؤكد بورخيص على أن النص لا يعتبر أصليا إلا من حيث كونه إحدى المسودات الممكنة التي تعبّد الطريق لنص سيكتب بلغة أخرى، فهو لم يكن يريد أن يعلي من شأن النص- النسخة لينتقص من النص-الأصل، كما لو أن نص الترجمة هو النص المهذب المشذب، النقي الطاهرpropre ، في مقابل الأصل الذي ليس إلا مسودة brouillon تنتظر أن تلبس لغة أخرى كي تجد صفاءها وطهارتها.

ربما كان مسعى المفكر الأرجنتيني أن يبين على العكس من ذلك، أن الترجمة إذ ترى في الأصل مسودة، فإنها تنظر إلى كل نص على أنه دوما قبل- نص pre-texte . بهذا تغدو الترجمة نوعا من التنقيب عن مسودات الكاتب الثاوية خلف مبيضته. فكأن مسعاها هو أن تعيد إلى النص مخاض ميلاده، فتنفخ فيها الحياة من جديد، وتلبسه حياة أخرى ولغة أخرى.

لن ندرك الأمر على هذا النحو بطبيعة الحال ما دمنا ننظر إلى المسودة على أنها نص- وسخ، على أنها مجرد “توسيخ” يسبق عملية “التحرير” النهائي للنص. ربما علينا أن نتحرر نحن أنفسنا من ميتافيزيقا “البياض” فنعيد إلى المسودة قيمتها، وننظر إليها على أنها ما يجسد مخاض ميلاد النص، وما يشهد على بداياته المتكررة والمتعثرة. ونعتبر أنها هي النص وهو لم “يدفن” بعدُ بين دفتي كتاب، و أنها ما يشهد على حيويته وحركته، لكن أيضا على صعوباته وتراجعه. إنها ما يشهد على الزيادة و النمو، لكن أيضا على الحذف والخدش والتشطيب.

حينما تنظر الترجمة إلى الأصل إذن على أنه مسودة، فهي لا تحط من قيمته ولا تنزله من عليائه ولا تعكر صفو طهارته، وإنما تبعث فيه الحياة بكل ما فيها من سواد وبياض حتى لا يبدو أصلا سبق كل البدايات. ولعلنا لا نبتعد هنا كثيرا عما يرمي إليه جيرار جينيت أيضا حينما يرى أن العلاقة بين الأصل والترجمة ينبغي أن ينظر إليها باعتبار كل نص طرسا شفافا، وكائنا جيولوجيا ملطخا بالأتربة، حتى وان سعى إلى أن يبدو، شأن كل أصل، طاهرا نقيا وكأنه تحرر من كل “طبقاته” وتخلص من جميع شوائبه.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى