أمل الكردفاني - التأتأة المفاهيمية.. وسلسلة الأستاذ إبراهيم محمود..

سعدت جداً -وتخوفت أيضاً- عندما تبنى الأستاذ إبراهيم محمود سلسلة نقدية لأعمالي. فهذا (مهما كان نقده) إعتراف من الآخر بأحقيتي في الوجود، وبأن وجودي هذا يحمل قيمة ما (تصغر أو تكبر)؛ بحيث تستحق أن تُناقش وتُختبر، وتُنقد، وتقوَّم، وقبل كل شيء أن تُحلَّل. وهذا منتهى ما يرومه أي كاتب كفَّنَه الغمر في اللاشيء دهراً، فبات ينحت وجوده بسن الحرف، ليتنفس قليلاً ذلك المعنى الغائب فيه..
ربما رفض الأستاذ إبراهيم موت المؤلف، ورفض البنيوية، وجال بمنهج التحليل النفسي جولات واسعة؛ فأفهمني من نفسي بعض ما كنت جاهلاً به. فكأنني منفصل عن كينونتي، أراها رأي الحالم لجسده، والروح الصاعدة لجثمانها المسجى، وهذا في ذاته ذكاء لا يُقدح فيه بشائبة. وأعتقد أن هذا التحليل قد تجنب المآخذ (العديدة) طبعاً، أو ناور فيها مناورة المحترف بالكلمة، متلطفاً من عنف اللغة. ولا أخفي سعادتي بإخفاء مآخذي، فلست ممن يملكون قلباً حديدياً لتحمل النقد، بل إنني غالباً ما لا أحبذ الحجاج إثباتاً أو نفياً. إنني أفعل ما أرغب أن أفعله، فقط. أي أنني لا أبحث عن دوافعَ للكتابة. بل ولا حتى لتجويد هوسيٍّ لما أكتب، إلا في حالات نادرة، ليس ذلك عن عجرفة، وكبرياء مزيف، وإنما، لأسعد بحريتي النسبية عندما أكتب. إنني لا أخجل من التأتأة المفاهيمية. بل على العكس، إن هذه التأتي تمثل لي إنفتاحاً على الإختبارات النقدية كلها، وأكتشف النقص، وأبدِّل مواقفي التي لم تبلغ يوماً حداً عقائدياً. التأتأة هنا هي أقرب للبوهيمية، التصابي والنزق، والإنحلال، والتمرد، والرفض، والأمل، والحلم وأكثر من ذلك أو ربما أقل، لا أكذب ولا أتجمَّل. كما لا أنصِب أي محكمة لمقاضاة الآخرين. وربما كان ذلك اللا عقَدي هو عقيدة وقد لا يكون، آيدولوجيا أو مجرد موقف نفسي مَائِه، غير معياري، المهم أنه كذلك.
أسعدني أن يُعترف بوجودي، وأنا أكرر ذلك، لأن هذا مربط الفرس بالنسبة لكل من يجاهد نفسه ليكتب. ويكتب عن عمىً كامل بما بعد الكتابة: لا يعرف موئلها ولا كيف ستُقرأ، هذا إن قُرأت أساساً، وإلى ماذا ستفضي إليه هذه الكتابة؟ إن الكتابة تضحية بالعيش اليقيني، والفعل المنجز بدراسة جدوى مخبرية، ولذلك يتبارى عليها الأمل والقنوط، تارة ينحشي الوجود بالمعنى وتارة يضحى عبثياً، لا يتغلب هذا على ذاك، ولا ذاك على هذا. لذلك فالتأتأة جزء من ذبذبة اللا وضوح واللا وثوق في الزمن. وليس هذا تبريراً بل سبباً.
أسعدتني سلسلة الأستاذ إبراهيم، لأنها أيضاً جاءت منه هو تحديداً، ربما ما كانت لتكون ذات قيمة لو تداعت من عقل آخر، أقَلَّ حِكمة وعلماً وخبرة وتاريخاً. وهذا ما تشهد به سيرته الذاتية المثقلة بالمعرفة والإنتاج المعرفي على حد سواء.
وأود أخيراً أن أرفع الستار عن القليل من توجهاتي الكتابية، والتي تنقسم لقسمين، قسم أراه مستقبلاً لي، وقسم أراه مشبعا للَّحظة الآنية فقط. وكلاهما له أهميته. إنني كتبت بالفعل الكثير الكثير، وربما لو احتسبت عدد الورق الذي لونته بالكتابة منذ الصغر لبلغ الملايين، وظلت الكتابة ثانوية رغم ذلك. حتى تغيَّر ذلك لأسباب (سلبية جداً) أجبرتني وتجبرني على أن أضع الكتابة كأساس لمشروع قادم، أعمل بجد للملمة شتاته بقدر المستطاع. فأما الكتابة المستقبلية، فهي الكتابة القانونية والأدبية وخاصة (المسرح والقص). وأما المحفزات اللحظية فهي ما سوى ذلك، لا أضع لها اعتباراً إلا ما يشبع الرغبة، كالوجبات السريعة، والتي إن لم تسمن، فهي تغني من جوع، وتسد خمصاً عابراً؛ ولذلك فلا مندوحة من القول، أنها مما تحلو فيها التأتأة، لأنها اكتشافات شذرية للعقل، ومضات، مشاكسة للإغتراب في فراغ الزمن.
أشكر أيضاً، الإخوة بإدارة أنطولوجيا السرد العربي، لخلقهم هذا النادي المعرفي الأدبي، فتعرفت فيه على كبار الكتاب الكاتبين باللغة العربية، وأيضا تم تعريف أعمالي لهم، وهذا كسب كبير، لا يفوقه إلا المودة الخالصة..أدامها الله بيننا.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى