دافيد معلوف - اقترب، اقترب أكثر، أكثر .. قصة قصيرة - ترجمة: د. نجمة خليل حبيب

منذ زمن ليس ببعيد كنا نرى خالي " تشارلز" مرتين في السنة؛ الأولى في عيد الميلاد والثانية في عيد الفصح. هو يعيش في " سدني" وقد يأتي، بحكم العادة، فنحن تعودنا أن نجتمع كلنا حول مائدة جدي الكبيرة بعد العودة من الكنيسة. نحن " بنتاكوستاليون" ( فرع من اللوثريين)، نؤمن أن كل ما جاء في الكتاب ( التوراة والإنجيل) واضح وحقيقي ولا يحتمل الخطأ. هذه نعمة منحنا إياها الرب لأننا عشنا كما شاء لنا، مؤمنين صادقين مخلصين لديانتنا.
أنا أدعى "إيمي"، وفي العائلة ينادونني "آي"، أمّا أخواي، "مارك" و"بن"، فيلقباني بـ"الأرنب". في السنة القادمة، عندما أبلغ العاشرة وأصبح قادرًا على التفكير المستقل وعلى مقاومة المؤثرات الخارجية، سوف أذهب إلى المدرسة كبقية الصبيان. أما في الوقت الحاضر فإن جدتي تتولى تعليمي وقد علمتني الكثير.
خالي "تشارلز" هو الابن البكر، أول مولود لجدتي. إذا ما نظرنا إلى صورة العائلة يبدو هو أكثر اشقرارًا من أمي وخاليَّ "جيمس" و"مات"، وفي عينيه بريق شديد، وتقول والدتي إنه كان دائمًا متمردًا، وتقول إن مشكلته هي في أنه لا يكبر أبدًا. هو يعيش في "سدني"، المدينة التي يسميها جدي "موربت" (صادوم). هذه هي الحقيقة الأكيدة، كعصا هارون التي رماها أمام فرعون فتحولت إلى أفعى، وكمثل ما حوَّل المسيح الماء إلى خمر. لقد دمر الله (صادوم) وها هو الآن يدمر "سدني"، إلا أنّ النار في هذه المرة بطيئة وغير مرئية. إنها تحرق الناس ولكنك لا تراها، والسبب يعود إلى أنهم يحترقون من الداخل. هذا في البداية فقط، أمّا فيما بعد، فإنهم سوف يحترقون علنًا، وسوف يكون منظر اللهب وهي تلسع وتحرق وتذيب العظام رهيبًا.
ولأن خالي "تشارلز" يعيش في "سدني"، فنحن لا نسمح له بزيارتنا، لأننا لو فعلنا لأصابتنا عدواه. إنه واحد من مارقي "إسرائيل" كما يسميه جدي. لقد مارس الخطيئة واعترف بذلك بعد ثلاث سنوات لجدي وجدتي وخاليَّ "جيمس" و"ماط" متوقعًا أن تلاقي اعترافاته استحسانا. منذ ذلك الوقت، نُفِيَ وصار مثل الماء المسكوب فوق التراب لا يمكنك جمعه ثانية. هكذا لن يصيبنا الإثم الذي أصابه. لقد منعه جدي من المجيء إلى البيت. هو في الحقيقة ممنوع من المجيء في المطلق، ولكنه يصر على المجيء في عيدي الميلاد والفصح، عندما نراه يقترب من حدود الحقل القريب من البيت ويقف خلف السياج، نقف نحن، جدي وجدتي والباقون، على الطرف الآخر فوق المنحدر العشبي أسفل البيت.
نحن نعيش في بيوت منفصلة، ولكنها كلها تقع في أرض المزرعة حيث تربّت أمي وأخوالي "جيمس" و"ماط" و"تشارلز"، وحيث لا يزال خاليَّ "ماط" و"جيمس" يعملان.
إنهما رجلان ضخما الجثتين، لهما أيادٍ منتفخة ومتفسخة جراء العمل في المزرعة، ولهما رقبتان ووجهان أحرقتهما حرارة الشمس. أقدامهما مليئة بالمسامير اللحمية الرمادية اللون نتيجة لبس الأحذية المطاطية التي يحتاجانها في عملهما في الاصطبلات. يجلسان عند الساعة الخامسة في المطبخ نصف نائمين، يلبس كل منهما سروالًا داخليًّا قصيرًا، وينتظران جدتي لتهيئ لهما الخبز المدهون بالزبدة وتسكب لهما أكواب الشاي. ثم يذهبان لحلب الأبقار وغسل الاصطبلات وسوق القطيع إلى المراعي وتقطيع البقول وتخزينها لمؤونة الشتاء. في بعض الأحيان نذهب أنا وأخي معهما. إنهما شقر البشرة كخالي "تشارلز"، ولكنهما أقل اشقرارًا منه والشعر الذي يبرز من فوق سترتهما الداخلية، عند الرقبة تحت تفاحة آدم، أسود اللون. وهما يتميزان بشخصيتين مرحتين، ويحبان المزاح والفكاهة. أمي تقول: يجب أن يتزوجا وينجبا أبناء.
العمل في المزارع أمر صحي، هو قاسٍ ولكنه مربح. أما أنا فعندما أكبر سأصبح عالم فضاء.
تربة مزرعتنا خصبة. نحن ميسورون؛ القطيع سمين، والمراعي جيدة، والبيوت القديمة في المزارع، كبيت جدي، غرفها واسعة وكثيرة العدد، ولها شرفات محاطة بأقواس من أشجار الكافور والبانياس والسرو الهرمي. "صادوم" بعيدة، تربطها بنا محطة قطار تقع أسفل التلة التي نقيم فوقها. لكن خالي "تشارلز" يأتي بسيارته، سيارة فضية اللون، فخمة، غالية الثمن، مقاعدها مغطاة بفرو النعاج، ومزودة بهاتف نقّال. يحب خالي "تشارلز" أن يعلن عن قدومه وهو في طريقه إلينا.
الهاتف يرن في البهو. تجيبه أنت. يقول هو في لهجة مازحة: إنه (Gay 437) أنا أقترب من "بولا هدلاه". الهواء المزمجر داخل السيارة يجعل صوته غريبًا كمثل رجل فضاء يكلمك من مكانٍ قصيّ. يتهيأ لك أن سفينة فضاء آخذة بالرسو. بعد قليل يعاود الاتصال: هذا (Gay 437)، الصوت يعلن أنه اقترب من "ووشوب".
يقول جدي: لا أحد يجيب.
ولكن يا جدي قد تكون السيدة "تاغارت"، يقول أخي "بن" (السيدة تاغارت هي جارتنا الأرملة).
- لا ليست السيدة "تاغارت". إنه هو.
هو غريب عنّا، كأنه لم يولد. هذا ما يقوله جدي "موربت". جدتي لا تقول شيئًا. إنه ابنها البكر. يوم ولادته عانت مخاضًا عسيرًا استمر اثنين وثلاثين ساعة. سمعت أمي تقول: لا يمكن أن يكون وكأنه لم يولد على الرغم من تنكرها له، وسمعت جدي ينهرها ويأمرها بالسكوت.
تستطيع أن ترى سيارته قادمة من بعيد، تستطيع أن تراها تقترب. هي تبدو كسفينة فضائية فضية اللون، وهي سريعة ولامعة. تستطيع أن ترى زجاج نوافذها يعكس أشعة الشمس فيما هي تنعطف في الطريق الملتوية حول جزيرة "نورفلوك" الصنوبرية القائمة بين المستشفى وملعب الغولف. عندما تتوقف على الطريق خارج بوابتنا، يُسمَع لها همهمة شيء قادم من العالم الآخر، ثم لا تلبث نوافذها الزجاجية الأربعة أن تنغلق أوتوماتيكيًّا، ثم يُفتَح بابها من جهة السائق، ثم يخطو خالي "تشارلز" خارجها.
إنه أطول من خاليَّ "جيمس" و"ماط"، حتى أنه أطول من جدي، وله، حسب تعبير الكتاب، "جدائل جميلة" جدائل شقراء تميل غالى البياض. جدي يقول: إنه ماء الأوكسجين. جسمه برونزي وله أسنان أكثر بياضًا من أي أسنان رأيتها في حياتي.
الفساد واضح، النار تحت ثيابه وفي داخله، مخبأ تحت البشرة البرونزية. تصل الكلاب واحدًا تلو الآخر وهي تتقافز وتلوح بأذنابها، تنتظر حتى يقترب من السياج لتلحس يده عندما يمدها مداعبًا.
يصرخ جدي: لا تقترب خطوة واحدة، نستطيع أن نراك من مكانك.
صوته أجش، كأنما أصابته حمى برد مفاجئة (أمر لا يصيبه مطلقًا)، أو كأن شخصًا آخر يتكلم بلسانه. لقد طرده جدي كمثل ما تبتر عضوًا من بدنك حتى يتمكن باقي الجسم من الاستمرار في الحياة، ولكنه يحب أن يراه معافى، أي أن الأمر [الاحتراق] لم يبدأ بعد. في الحقيقة هو يبدو رائعًا في كل مرة نراه فيها، لا أثر لأية ندوب.
ذات مرة خرج من السيارة وكان قد خلع قميصه فبدا فوق صدره بعض الظلال، أما كتفيه فقد كانا ذهبيين ناعمين لامعين. جسمه كله كان لامعًا. كان خالي "جيمس" أشقر أشعث، ومثله كان خالي "ماط"، أما هو فكان صدره ورقبته وذراعاه ناعمة ومصقولة كخشب الأبانوس كأنه ملاك. وعندما ينزع نظارتيه ترى بريق عينيه وشعره الأشقر، وبشرته الناعمة، ولكنك لا ترى الندوب. ربما لأنه لا يقترب بما فيه الكفاية.
جدتي تقف معقودة الكفين، ولكنها لا تتكلم، وكذلك أمي. سمعتها مرة تجادل أبي وتقول: "تشارلز" مجرد صبي كبير، إنه لا يكبر أبدًا. كان دائمًا مصدر بهجة للعائلة. أنا أعلم أن جدتي تتمنى لو أن خالي "تشارلز" يقترب أكثر، تحب لو أنه يأتي لتناول وجبة الطعام. نحن دائمًا عندنا أكل زيادة فنحن ميسورون، وجدتي تحتفظ في الدرج الذي نحفظ فيه فوط السفرة بحلقة عاجية محفور عليها الحرف "ت"، وعندما تصفّ الكراسي حول الطاولة تتظاهر بأنها أخطأت وزادت كرسيًّا بحكم العادة، المكان يبقى فارغًا في جميع وجباتنا، لا أحد يتكلم بالموضوع.
أنا أعلم أن جدي مكسور القلب، فهو يقول هذا، ولكن ألم جدتي "موربيت" هو الأكبر. هي تحب أن تلمسه، فهي دائمًا تضع يديها على هيئة من يتهيأ ليحضن شخصًا عزيزًا، ولكنها لا تتكلم.
عندما نعود إلى الداخل، ونستعد لتناول الطعام، فنفرش الفُوَط فوق ثيابنا، ونتلو صلاة الشكر، ونبدأ بتبادل الأطباق، يكون هو لا يزال هناك إلى جانب سيارته تحت الشمس الحارقة. في بعض الأحيان يتمشى جيئة وذهابًا ويصرخ: "الطقس حار". ثم نسمع باب سيارته يغلق وتنطلق مزمجرة.
لو أنه مسموح لقمت وتفرجت على سيارته وهي تلمع متلألئة عندما تتلوى في المنعطفات المحاذية للنهر وهي تقطع المستشفى وملعب الغولف. ولكن إلى حين ينتهي الجميع ويسمح لنا بالمغادرة يكون هو قد رحل ولا يبقى هنالك سوى غيوم ترسم ظلالًا فوق النهر وأشجار تلمع كالفضة وترسل همهمات كلما حركها نسيم هادئ، لولا هذه الهمهات لما كنَّا شعرنا بوجوده.
الشر موجود في العالم؛ فالإنسان ميال بطبعه إلى الخطيئة. الرجال يخطئون لذلك هنالك خطيئة. عندما يقع الخطأ لا يمكن إصلاحه، ليس في هذا العالم. جدي يقول: يجب أن نعمل ما هو صعب. يجب أن نعمل على الصعب وإبرازه لنبرهن أننا نحب الخير ونكره الخطيئة، وبقدر ما يكون الأمر صعبًا بقدر ما نبرهن له (للإله) أننا نحبه.
أنا لا افهم عن الحب أكثر مما أفهم عن الموت. يبدو أنه أصعب من أن تحتمل رؤية خالك "تشارلز" خلف السياج وأنت على الطرف الآخر. كأنه قد مات، وكأن الموت أقوى من الحب الذي هو بالتأكيد ليس كذلك.
عندما نجلس لتناول طعامنا ومكانه هناك خاليًا، يفقد الطعام لذَّته. أراقب جدي "موربيت" وهو يقطع اللحم بيديه الكبيرتين ويدفع به إلى فمه ويمضغ ويبلع، ولكنني أعلم أنه لا يأكل إلا رمادًا. قلبه مقفل على حزن عميق، وهذا هو الحب، هذا هو الموت. نحن في الداخل حول المائدة نتداول الأشياء وهو في الخارج كأنه لم يولد. ميت بالنسبة لنا، ولكنه يستصرخ. سيارته الفضية بنوافذها الدخانية التي تقفل وتفتح أوتوماتيكيًّا وآلة الهاتف المستريحة في مهدها ما هي إلا عربة الموت. الصوت يصرخ: إنني في طريقي إليكم. أنا اقترب من "غلوسستر"، أنا اقترب من "تاري". ماذا يمكن لهذا أن يكون سوى ملاك الموت!
ترن مسمعة الهاتف في البيت وتعاود الرنين. أمي وجدتي وأنا حول حوض المغسلة ولكننا لا نتبادل النظر. جدي يقول: لا أحد يرفع السماعة، دعوه يرن. بعد حين يتوقف الرنين كمثل ما توقف الصراخ.
للمرة الأولى تغيب خالي "تشارلز" عن المجيء يوم عيد الفصح. انتظرنا الهاتف لأن يرن، وذهبت أنا إلى الخارج قبل أن أجلس لتناول الغذاء. أردت أن أرى لمعان السيارة وهي تقطع المسافة عند النهر. لا شيء... كانت الفلاة الواسعة الخضراء فقط ترقد تحت أشعة الشمس الحارقة ساكنة خالية من أية حركة.
تلك الليلة رأيت حلمًا في منامي. وفي الحلم، جاء خالي "تشارلز" ووقفنا نحن تحت الشرفة وراقبنا سيارته وهي تتوقف خلف السياج، نوافذها الرمادية ارتفعت كالعادة، ولكنه عندما فتح الباب وخرج من السيارة لم يكن ما خلعه هو قميصه فقط، بل كل ما عليه من ثياب حتى حذاءه وجواربه. فقط نظاراته الشمسية ظلت مكانها. كنت تستطيع أن تراه واقفا فوق العشب، حافي القدمين، عريض الكتفين، نحيلًا، متوهجًا، مصقولاً، ناعمًا كأنه ملاك.
بدأ يسير باتجاه السياج، وعندما صار قريبًا منه وقف ساكنًا للحظة، وعقد حاجبيه، ثم بدأ يسير صوبنا. في حلمي فكرت: لطالما أن جذور النبتة الخضراء القاسية هي ذاتها على كلا الجانبين، إذا ما كانت عشبة خشنة لا تستطيع أن تعلم أكثر من أخرى أن السياج كان هناك لماذا على قدميه أن تعرفا؟
عندما أدرك ما فعله توقف، تطلع إلى السياج وضحك. بدأت تتفتح حول قدميه أزهار أقحوان صغيرة وزاهية وأزهار برسيم لامعة زهرية اللون، ولمعت التويجات لمعان المعدن الذائب في أشعة الشمس ثم انتشرت صعودًا نحو التلة حيث كنا نقف. برزت تحت أقدامنا حشرات وجنادب صغيرة غمرت المكان حولنا وراحت تتقافز. حلزونات لا يتعدى حجمها ظفر صغير، علقت بجذور الأعشاب وراحت تمتص غذاءها بأمان. خلع هو نظارتيه، نظر إليها وقهقه ضاحكًا. ثم نظر حيث كنا نقف. تملكني شعور بالخفة والفرح، شعرت وكأن عظامي تحولت إلى غيوم، تمامًا كمثل ما تحولت الأعشاب الخشنة إلى زهور.
علمت أنني في حلم، ولكن الأحلام ما هي إلا رسائل، فالمشاعر التي تصحبها هي مشاعر حقيقية، وأنك لو تشبثت بها لأمكنك أن تجعل بقية الأمر حقيقة. وهكذا رأيتني أفكر: إن لم يكن باستطاعته المجيء إلينا فإنه يتوجب علي أن اذهب إليه. وكان هذا ما فعلته. تخيلته هناك على الطرف الآخر من السياج، عاريًا، قدماه مغروزتان بالعشب، قلت له: أمدد يدك، هكذا! ومددت يدي نحوه. لو كان في قلبك إيمان، فسوف تُفتَح بوابة السياج لك كما فُتِح البحر لموسى من قبل. بدا حائرًا. لت له: لا! لا تفكر بالأمر،دعه يحدث.
إنه لم يحدث بعد، ولكنه سوف يحدث. عندها، عندما يقترب، عندما يعبر السياج إلى جهتنا، سأمد يدي نحوه وسألمسه عند الجهة اليسرى من صدره وسيكون كله. سوف يشعر ما يحصل له ويضحك. ضحكته ستكون البرهان. أريد هذا أن يحصل أكثر من أي شيء. أرغبه من كل قلبي الآن.
أنا أضطجع كل ليلة هادئًا في الظلام، أستعيد صورة النوافذ الرمادية لعربة الموت، تأرجح بابها عندما يُفتَح، خطوَه خارجها، وتطلعه إليّ من خلف نظارتيه. هو يخبرني ما كنت قد أخبرته لنفسي.
افتح قلبك الآن، دع الأمر يحصل، اقترب، اقترب أسر، أكثر. أترى؟ الآن مُدَّ لي يدك.
أعلى