عبد السلام بنعبد العالي - ر. بارث والكتابة الشذرية

للكتابة الشذرية تاريخ غير قصير. البعض يُردَّه إلى عصور قديمة فيرى في كُلّ كتابة مفصولة كتابة شذرية. آخرون يشترطون، لإمكانية الحديث عن تلك الكتابة، ظهور فلسفة مؤسّسة مُصاحبة ومُبررة لها، فلسفة لا تتوقّف عند شكل الكتابة المفصولة، وإنما تتقصّى البعد الأنطلوجي لمفهوم الانفصال ذاته. لذا فهم يُقرنون ظهورها بالرومانسيين الألمان، وخصوصاً جماعة «الآتيناووم». لهذا المذهب يذهب موريس بلانشو الذي يرى أن التأسيس الفلسفي لهذه الكتابة مقرون بتلك الجماعة. وبطبيعة الحال، فإن ذلك التأسيس لم يتوقّف عند هؤلاء، وإنما وجد امتداده الأساس عند نيتشه، ثم عند غيره فيما بعد، إلى أن نصل إلى شيوران وبارث.
ما يهمنا هنا، بمناسبة الذكرى المئوية لميلاد صاحب كتاب «بارث بقلم بارث»، هو محاولة التوقّف عند موقفه من فلسفة الكتابة الشذرية هذه، إبرازاً للإسهامات النوعية التي أسهم بها في هذا المجال.
يؤكد بارث، على غِرار سابقيه، أن هذه الكتابة ليست مجرد شكل. وهو إذ يذهب مع بلانشو بأن «الانفصال وحده يمكن أن يوحّد الكلام والصمت، الجدّ والهزل، الرغبة في التعبير وتردّد فكر موزّع لا يقرّ له قرار، ورغبته في أن يعمل وفق منهج ونظام مع نفور من المنظومة والنسق»، فإنه يؤكد أن الانفصال إذ يوحّد كل هذه الثنائيات المتنافرة، فهو يوحّد الشكل بالمضمون، ومن هنا تغدو الكتابة الشذرية كتابة المفارقات بلا منازع: إنها تآلف بين الشكل والمضمون، بين اليقين والارتياب، بين الحضور والغياب، بين الامتلاء والفراغ، بين الدوكسا والبارادوكسا.
إلّا أن أهم الإضافات التي يضيفها رولان بارث إلى ما قاله الذين تقدّموه عن هذه الكتابة، هو تحديده الدقيق لطبيعة التكثيف الذي تحقّقه الشذرة. فإذا كانت إحدى المميزات الأساسية للشذرة، في نظره، هي خاصيتها التكثيفية كما قيل، «إلّا أن الشذرة ليست مع ذلك تكثيفاً لفكرة أو لحكمة أو لحقيقة». الشذرات ليست خلاصات ونتائج، وهي ليست حِكََماً وحقائق نهائية. إنها ليست حقيقة مستغنية عن كُلّ تدليل. وهي ليست بديهة لا تقطع مسافات، ولا تحتاج إلى توسّطات، ولا تسكن خطابات. الشذرة لا تُغْني عن إعمال الفكر، إنها تدعو إليه وتحثّ عليه، بل هي ما يستفزّه. إنها تضبط الفكر وهو يعمل، وتعرضه في أثناء مخاضه، موحِّدة بين منطق العرض ومنطق الاكتشاف، بين التحرير في المبيضة و التسويد، بين الخدش و«الطهارة» LE PROPRE.
بهذا المعنى، وبه وحده، ينبغي أن نفهم ما يُقال عن الفكر الذي تفترضه هذه الكتابة بأنه تفكير بـ«الخطف». فهي لا تتمّ خارج الزمان، وإنما تتحايل للانفلات من ثقل الحاضر، تهرُّباً من زمان «الحضور». لتوضيح ذلك يقرّب بارث الشذرة من أمرين: من رياضة الكاتش أوّلاً، ثم من الموسيقى، ومن موسيقى فيبرن على الخصوص. فرياضة الكاتش ليست، في نظره، مجموعة من «الوحدات»، ليس الكاتش حصيلة من المشاهد. «في الكاتش تدرك اللحظة وليس الديمومة». إنه مشهد مبنيّ على الانفصال والتقطّع. وتقطّعه و«عدم انسجامه يحلّ محلّ النظام الذي يشوِّه الأشكال»، ثم إنه يقرّب التكثيف في الشذرة من التكثيف الموسيقي ليبيّن أن الشذرة ليست استغناءً عن التحليل والاستدلال والبرهان والتفكير، ذلك أن التكثيف الموسيقي «يضع «النغمة» محلّ «الاسترسال».. إنه يومئ إلى وجهة. يتجلّى هذا في المقطوعات الموجزة لفيبرن: «غياب للإيقاع، جلال ومهارة في سرعة التخلّص».
ليست الشذرة- إذاً- خلاصة خطاب، ولا هي «زبدة» فكر، إنها ليست نظرة «خاطفة»، ولا هي توقُّف وعدم حِراك، وهي ليست «فصوص حِكَم». إنها «حاضر» منفلت، حتى لا نقول (هارب). وهي تومئ إلى وجهة من غير أن تدلّ على طريق، فتعرض المعاني إبان مخاض ولادتها.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى