عبد السلام بنعبد العالي - في الكتابة الشذرية

1. ليست الكتابة الشذرية هي كل كتابة متقطعة تفصلها فراغات. قد تكون الكتابة مفصولة الأجزاء، لكنها لا تكون “كتابة شذرية”.ذلك أن الانفصال في الكتابة الشذرية مضمون و ليس شكلا. أو قل إنه شكل- مضمون يكرس مفهوما معينا عن الزمان، و فلسفة خاصة عن الكائن، و ممارسة خاصة للكتابة، و مفهوما بعينه عن النص، ورؤية معينة لتوليد المعاني، و فهما خاصا للغة، و نظرية معينة عن المؤلف.

2 . ليس زمان النص الشذري صيرورة يفصل فيها حاضر متحرك الماضي عن المستقبل، و إنما حركة التباعد التي تنخر الحاضر نفسه، و تمنعه من أن يحضر ويتطابق.

3 . تكرس الكتابة الشذرية نسيانا فعّالا لماضيها. إنها العدو اللدود للخطاب -الذاكرة. زمانها ليس الزمان الهيجلي الذي يركب لحظاته ويضمّها في مفهوم موحَّد موحَّد. إنه ليس الزمان الكلياني، وإنما زمان الانفصال والتعدد.

4. بدل “بحر برهان” تقيم الكتابة الشذرية “جزر معان”. ذلك أن الشذرة تصدع الخطاب، وتقضي على الوصل فيه، ذلك الوصل الذي يرمي إلى بلوغ المعنى النهائي، و استخلاص “النتيجة” بعد “المدخل” و“النمو والتحليل”.

5. تلائم الكتابة الموصولة الفهم الأفلاطوني للمعرفة التراكمية، المعرفة -التذكر، التي تقوم على مفهوم الوحدة، تلك الوحدة التي ليست، في نهاية الأمر، إلا انعكاسا لوحدة الذات المتملكة للمعنى و المتحكمة فيه.

6. مقابل الانسجام الذي يشد أجزاء الخطاب و يجعلها تتساكن جنبا إلى جنب، تقيم الشذرات “نصا” متوّترا بلّوريا، و تسعى لأن تلخّص كثافة العالم في “نصّ” متصدع، و تقحم اللانهائي في فضاء محدود، و التناقض في الاستدلال المنطقي، و البرادوكسا في الدوكسا.

7. إقحام الانفصال داخل النص لا يعني تقطيعه إلى أجزاء، و إنما إقحام اللانهائية في بنائه ذاته. النص الشذري ليس هو النص الذي يتجزأ إلى وحدات منغلقة، و إنما هو النص المنفتح الذي يقطن التعدد كل وحدة من وحداته. إنه نص لانهائي، و رمزيته لا حدود لها، إنه نسيج من الإحالات اللامتناهية و من الأصداء المتوالدة.

8. وعلى رغم ذلك، فليس النص الشذري نصا فارغا، أو قل إن فراغه ليس فراغا مكانيا، وإنما فراغ زمني. فلا يتخلل الكتابة هنا بياض الورق،وإنما انفصال الكائن، و اختلاف المعاني و تصدع الذات.

9. ليس الفراغ الذي يفصل أجزاء الكتابة الشذرية هو فراغ الفيزياء التقليدية الذي لا يبتعد، في حضوره ودوامه واستقراره، عن الامتلاء. فإذا كان الامتلاء، أنطلوجيا، هو الهوية، و زمنيا، هو الاتصال والماضي الجاثم، ورياضيا هو الوحدة، وإيديولوجيا هو الدوكسا، و تاريخيا هو التقليد والتراث، فان الفراغ المقصود هنا هو الاختلاف والانفصال والتعدد والتجدد والتحديث.

10. تحيلنا الكتابة الشذرية إلى الكائن كحقل متنوع مفتوح لا يرتد إلى شفافية المفهوم، ويرفض كل تعميم وكلية. كما تردنا إلى مفهوم مواز للذات العارفة كفضاء منفتح من المنظورات، وكحقل من التأويلات اللامتناهية.

11. ليس الهدف هنا إلغاء الحد وتفتيت الهوية وإنما جعلهما حركة وليس سكونا، خطا وليس نقطة، هجرة وليس عمارة، نسيانا وليس ذاكرة، تعددا وليس وحدة، اختلافا و ليس تطابقا.

12. تفسح الكتابة الشذرية المجال لظهور ذات تفتّت نفسها عبر الكتابة، و تنسج خيوط أفكارها عبر زمنها المفصول.

13. الكتابة الشذرية خطاب الجسد، إنها تنطوي على بطانة لاشعورية تنفلت من رقابة العقل، وتحكّم الإرادة.

14. ليست الكتابة الشذرية وسيلة لحفظ المعاني أو عرضها، و إنما مجالا لإنتاجها. إنها ليست أداة تعبير، وإنما حقل إنتاج.

15. كان نيتشه يقول: “إن مرماي أن أقول في عشر جمل ما يقوله غيري في كتاب...ما لا يقوله في كتاب بأكمله”.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى