د. محمد عرفات حجازي - الملابس بين الحياء والحرية ـ قراءة فلسفية

تُعدّ الملابس بطاقة هوية حضارية تعكس حال الإنسان من البداوة والحضارة ، الاسترجال والخنوثة، والحياء والبجاحة. كما أنّها حامية وضرورية ودّالة في ذات الوقت.
بين الحين والآخر، تستعر المعركة، بين الملابس الساترة للجسد وأعدائها، الذين مالوا عليها ـ في وقتنا الراهن خصوصًا ـ ميلة واحدة، مُستخدمين كافة أساليب التقنية الحديثة، فقطّعوها من الأعلى، ومزّقوها من الأسفل، فسقطت الملابس إلى الأرض.. وانهمرت منها دماء الحياء.. بكت الملابس على نفسها، وبكى أهلها عليها، بعد أن أصبح الجسد يسترها ولا تستره.
ولو تساءلنا: ما هو باعث الإنسان على ارتداء الملابس؟ هل هو داعي الحياء؟ أم حُبّ الزينة؟ ثمّ هل اختيارنا لملابسنا يتمّ بحرية مُطلقة، أم تحكمه أخلاقية دينية واجتماعية؟
إنّ الملابس مصدر ومنشأ فضيلة الحياء، ذلك الهيكل الظليل المُحجب الذي يضمُّ بين جوانحه كلّ مُقدّس في الإنسان. وهي التي جعلت لنا شخصياتٍ مُستقلّة، ومُميزات نتفاضل بها، وسياسة نجري عليها.
ذهب الفيلسوف تومي كاريل إلى أنّ الإنسان لا يجري مع الصدفة العمياء لا في سنّ الشرائع ولا في خياطة الملابس. وإنّك لتجد فكرةً فنيةً كامنةً في كلّ ما يُبتكر من الملابس على اختلافها، وفي كلّ ما يُبذل من المساعي في سبيلها.
ثمّ تأمّل أيّ معانٍ جليلة تنطوي عليها ألوان الملابس، فمِن الأسود القاتم إلى الأحمر الوهاج: أيّ خصائص روحانية وصفات نفسانية يكشفها لك اختيار الألوان! فإذا كان التفصيل يشي عن طبيعة الذهن والقريحة، فإنّ اللون يُخبرنا عن طبيعة القلب والمزاج.
ولكن، إذا كُنّا نرتدي الملابس بدافع الزينة، فهل من ضرورة لمراعاة واحترام الآخرين في اختيارنا ملابسنا؟!
يقول ابن الوردي: “أما الطعام فكُلْ لنفسك ما تشاء واجعل لباسك ما اشتهاه الناس”، وهذا يعني أنّنا لا نملك مطلق الحرية في اختيار ملابسنا؛ إذ الحرية تدور حول الفرد وعلاقته مع غير ذاته، سواء كان الغير فردًا آخر يتحكم فيه خارج ذاته، أو قوةً طبيعية تستعبده من الداخل ـ بحسب عبد الله العروي ـ وهذا يُحيلنا إلى مجالين هما: الفقه الذي يُحدّد كيفية تعامل الإنسان، والأخلاق التي تصف علاقة العقل بالنفس في ذات الإنسان.
ولكن، مقولة ابن الوردي السابقة ـ والتي ورد معناها في العديد من الأمثال الشعبية؛ لا تعني التعرِّي إرضاءً لبعض الناس، بل ينبغي للعاقل أن يختار من اللباس ما لا تحسده عليه العامة، ولا تحتقره فيه الخاصة.
إنّ أسباب انتشار موضة الملابس الفاضحة والمُحدّدة لمُقدّسات جسدنا مُتعدِّدة، ومن أبرزها: تهاوننا في ارتداء أطفالنا الملابس العارية، فيألفوها وينشؤوا عليها. وبعض الفضائيات الهابطة، والتي غرست لدي البعض الاعتقاد بأنّ اللباس العاري من الرُقِّي. أيضًا تجرؤ بعض الإناث بجواز لبس العاري للمرأة أمام المرأة. وكذلك الصحبة السيئة، وضعف الشخصية، والتقليد الأعمى. إلى جانب حبّ الظهور والرغبة في لفْت الأنظار. أضف إلى ذلك غياب التناصح أو الذّم بيننا؛ إذ قد يتخلّى الفرد عن تلك الموديلات العارية خشية اللوم من الناس. ناهيك عن غياب مادة التربية الأخلاقية في مؤسساتنا التعليمية وقنواتنا الفضائية.
ولدعم موضة العراء، ذهبت مصمّمة الأزياء الأمريكية الشهيرة ـ بيتسي جونسون؛ إلى أنّ النساء لا يرتدين الملابس للرجال، فالمرأة ترتدي الملابس لنفسها، وبالتأكيد لأجل النساء الأخريات، وإذا كان سبب ارتداء النساء الملابس هو الرجال لما ارتدين شيئًا، ولظللن عاريات طوال الوقت.
كذلك، فقد ذهب قطب عالم الأزياء الفرنسي، بيير بيرج ـ الشريك المؤسس لشركة إيف سان لوران ـ خلال مقابلة إذاعية له مع الواشنطن تايمز، إلى أنّه يرغب بتعليم “النساء المسلمات للتمرّد على وضعهن، وخلع ملابسهن، ليتعلمن العيش مثل معظم النساء في بقية العالم”. كما انتقد ووبّخ بعض ماركات الأزياء لتضمينها “الزيّ الإسلامي” المُحتشم ضمن مجموعة خط إنتاجها، قائلًا: بأنّ تلك الماركات تُشارك في “استعباد النساء”.
وفي مقابلة منفصلة، انتقدت وزيرة حقوق المرأة في فرنسا، لورانس روسينول، ماركات الأزياء التي أدخلت الأزياء المُحتشمة إلى خطّ إنتاجها، ونعتت تلك الملابس بـ “غير المسئولة”، مُردفة بقولها: “مهما كانت تافهة أو ضارة، إلا أنّك لا تستطيع أن تتجاوز حقيقة أنّ الماركات العالمية الكبرى تستثمر في السوق الذي يضع النساء المسلمات في حالة اضطرار لارتداء هذه المنتجات”. ولهذه الآراء، دلالة رمزية على المناخ السياسي المسموم والإسلامو فوبي السائد في فرنسا.
وفي مقابل ذلك، تبنّت العديد من الماركات الشهيرة اتجاه “الموضة المحتشمة” بشكل كبير، ففي عام 2014م، تحوّلت الملابس المُحتشمة من النظرة التقليدية التي تنظر إليها على أنّها رثّة أو ذات طراز قديم، لتصبح شيئًا عصريًّا وأنيقًا بشكل ملحوظ. وبدلًا من ظهور هذا الاتجاه أولًا لتعتنقه النساء بعدها، حدثت الأمور بشكل معاكس؛ حيث خلقت النساء الراغبات في ارتداء الملابس المحتشمة، الطلب على هذا النوع من الموضة.
وقد أوضح الصحفي الأمريكي ديريك بلاسبيرغ، والمُتخصّص في شئون الموضة، في كتابه “Classy” أنّ الفتيات اللائي يرتدين ملابس لائقة وأنيقة وتتحلّى بالوقار، هُنّ فقط اللائي يجذبن الأنظار إليهنّ. وأوضح بلاسبيرغ في مقابلة مع وكالة الأنباء الألمانية “”DPA القواعد الأساسية التي ينبغي على المرأة اتباعها من أجل الحصول على مظهر أنيق يخلو من أخطاء الموضة، ويبتعد عن الملابس المثيرة التي تكشف مفاتنها بشكلٍ يُثير استفزاز الناظرين. وأردف قائلًا: ينبغي ألا يتّسم الإنسان بالغباء فيرتدي ملابس مُثيرة من أجل جذب الأنظار.
وهو ما يؤكده أحد الأمثال الشعبية اليابانية، إذ ينصّ على أنّه “يكاد حياء المرأة أن يكون أشدّ جاذبية من جمالها”.
وإذا كان ابن خلدون ذهب قديمًا إلى أنّ المغلوب مُولع أبدًا بالاقتداء بالغالب في شعاره وزيّه وسائر أحواله؛ والسبب في ذلك أنّ النفس أبدًا تعتقد الكمال فيمن غلبها وانقادت إليه. فإنّ مصمّم الأزياء الإيطالي جياني فيرساتشي يقول: “لا تنساق للموضة، ولا تجعل الموضة تمتلكك، ولكن عليك تقرير مَن تكون، وما الذي تُريده، وذلك عبر الملابس التي ترتديها، وبالطريقة التي تحياها”.
إنّ التعرّي فطرة حيوانية، ولا يميل الإنسان إليه إلا وهو يرتكس إلى مرتبة أدنى، كما أنّ رؤية العُريّ جمالًا هو انتكاس في الذوق البشري قطعًا. والعُريّ النفسي من الحياء هو ما تجتهد فيه بعض الأقلام والأصوات ووسائل الإعلام، هو النكسة والردّة إلى الجاهلية، وليس التقدّم والتحضر كما يزعمون.
ومن أضراره، الإصابة بالعين والحسد، خصوصًا الإناث في حفلات الأفراح، وسبب ذلك رؤية العائن والحاسد لمفاتنها. والتعرّض للتهمة وسوء الظنّ، بل وربما نسج الآخرون حول النساء العاريات الأقاويل واتهموها في شرفها، ما قد يؤدي إلى الطلاق. إلى جانب المعاكسات والابتزاز، وانتشار الشذوذ الجنسي (السحاق/ اللواط). ناهيك عن انتشار زنا المحارم، والتحرّش الجنسي بينهم..
إنّ ارتداء الملابس الفاضحة أمام الأطفال، تمزيقٌ لِحَيائهم، وصدمة في قُدواتهم، وهدمٌ للحياء في نفوسهم. حتى إذا ذهب الحياء، حلّ البلاء. وهنا، يتجلّى بوضوح، رأي الفيلسوف الفرنسي فولتير، من أنّ “اللباس يُغيّر الأخلاق كما يُغيّر الشكل”.
إنّنا قد نُمسك عن أداء واجب الاحترام للإنسان، ولكن نؤدي هذا الواجب لثيابه المطروحة.. غير أنّ عبادة الثياب وهي على أجسام لابسيها لا تكون خالصة لوجه الثياب، بل ممزوجة بشيء من النفاق والخديعة؛ لأنّ الجسم يتعدّى، في كثير من الأحوال، على حقوق الثياب فيغتصبها ما كان مُوجّهًا إليها.
ولنتساءل، لماذا لا يرتضي هؤلاء الذهاب إلى دور العبادة ـ المساجد أو الكنائس ـ بنفس تلك الملابس؟، هل هو الحياء من دُور العبادة، أم من التجمّع البشري فيها، أم من الإله المُقدس؟، أفلا ترتبط أماكن العبادة بالإله المعبود، أنخجل منه في بيته المُقدّس ولا نخجل منه في سائر يومنا؟
لعلّ الوصف الحقيقي لعصرنا هذا الثائر المُتمرّد أنّ الإنسان قد تخلىّ بتاتًا عن رذيلة الخوف، ولكنه لم يتحلّ بعد بفضيلة الخشوع..



***************************************************
– مراجع
– تومي كاريل، فلسفة الملابس، ت/ طه السباعي، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 2001م.
– سيد قطب، في ظلال القرآن، دار الشروق، بيروت، ط9، 1978م.



--------------------

اتحاد الفلاسفة العرب


تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى