فكري عمر - أبيض وأسود

الطواويس الجميلة تخاف على حياتها، والطاووس الأسود، لا أعرف كيف كان لونه أسود هكذا، لا يخاف. لا بد أن نعمة الجمال قد سلبت منه؛ ليدافع عن رفاقه فقط، دون أن يأبه لحياته التى لا تساوى شيئًا فى عالم الطواويس.

كنت أشاهد عن قرب تلك العيون البراقة التى تنظر بخوف إلى شىء مجهول. المجهول صار فهدًا أسود يجرى باتجاههم. استداروا للجهة الأخرى مطلقين سيقانهم للريح. وقف الطاووس الأسود بتحد أمام الفهد الأسود مانعًا تقدمه. حرك جناحيه بقوة. ارتفع بضعة سنتيمترات أمام الفهد الذى ارتكز على قائمتيه الخلفيتين وأشهر مخالبه الأمامية. سلط الطاووس منقاره فى عين الفهد اليسرى فثقبها. زأر الفهد زئيرًا رعديًا اهتزت له أوراق الأشجار، ودفنت الأعشاب رؤوسها الهشة فى نتوءات الأرض.

جرى الطاووس الأسود فى الاتجاه الآخر وجرى الفهد خلفه، حتى قبض عليه بين أنيابه البيضاء. المقاومة دفعت باقى الطواويس لأن يتخلصوا من نرجسيتهم ويتجهوا صوب الفهد الذى كان يجرى قابضًا على منقذهم بين أنيابه.

شعرت فجأة أننى أتخلص من دور المراقب غير المرئى وأدخل قلب المشهد. قدمي كانت تدب بقوة على أرض الغابة. الخوف كان ثلجًا جافًا بحلقى. أمامى الفهد يجرى بفريسته وورائى صف طويل من الطواويس التى تهرول وراءهما. ضج المكان بالنعيق والهدير الوحشى. غابت الأجساد شيئًا فشيئًا، ثم اختفت الغابة تمامًا، وحلت مكانها شوارع المدينة، وبناياتها الأسمنتية والزجاجية العالية. النيل عن يمينى يرقص تحت نور الفجر الغامض. فوقه مراكب تهتز بغناء العشاق، لما نظرت مرة أخرى وجدت المراكب فارغة! أتى شاب من بعيد، وتجاوزنى. كان يحمل شابًا مصابًا على كتفه؛ ليضعه فى سيارة الإسعاف. انتهزت خلو الطريق من السيارات القليلة فى هذا الوقت وعبرت إلى الناحية الأخرى، ثم صعدت سلالم الرخام البيضاء لأعلى مواجهًا المحلات المغلقة.

كانت المدينة وحشًا مُنْهَك القوى بعد وجبة ليلية دسمة. على دكك الطوار تناثر بعض الشبان والفتيات، ما الذى أتى بهم فى هذا الوقت المبكر؟ وكيف لم يلتفت أحد منهم للغابة التى تجلت أمامى منذ لحظات؟ ولسرينة الإسعاف الموجودة فى الأسفل؟ لم أُرجع بصرى إليهم مرة ثانية. اتجهت للجانب الآخر لأقرأ العناوين الرئيسية، حيث يفرش البائع جرائد الصباح. وجدت صورة الفهد الأسود ممزقًا على الصفحات الأولى لكل الجرائد.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى