نزار حسين راشد - رغبات صغيرة.. قصة قصيرة

صباح كل عيد، كانت تستقبلني بابتسامة مشرقة، تقف على بعد خطوة، تتأملني قليلاً بنظرة ماسحة، من أعلى راسي إلى ما تحت قدمي، تعلن على أثرها بحماس:
- ماذا أقول؟ كل شيء فيك جميل، تسريحة شعرك، قميصك، بنطالك، حتى حذاؤك مشع وجميل، ثُمّ تمدّ يدها للمصافحة وأنتشي برقّة كفها الأنثوية، لم أعرف أبداً إن كان هذا الغزل الصريح، يخفي وراءه حُبّاً عميقاً، ام أنها طبيعتها المرحة المجاملة، وكنت أردّ هذا الإطراء بالنظر إلى غرّة شعرها الكستنائية التي لا تكفُّ عن ردّها عن جبينها بين حينٍ وآخر، وأقول:
-أحلى غُرّة في العالم!
لتردّ بحياءٍ حقيقي تنطق به قسماتها:
-لا تضحك علي!ليت لي مثل جمالك!
وأحار مرّةً أخرى في تفسير هذا الإفتتان الذي لا حدود له، وأُعقّب:
- أنا لست سيدنا يوسف!
تنطق عيناها بالاحتجاج، وتجيب بلا تردّدُ:
- لا تكفّرني، لولا خوفي من الله لقلت إنك أجمل منه، وتستدرك: أو على الاقل مثله تماماً!
حين كانت أمي تغيب لزيارة أهلها في الضفة الغربية للأردن " فلسطين"، كانت تجيء في عز الظهيرة بعد عودتي من المدرسة لتعدّ لي الطعام، ولم يكن ليثنيها عن ذلك شيء، ولكنها كانت حريصة على ترك باب البيت مفتوحاً على مصراعيه دفعاً لسوء الظن!
في الحقيقة لم يكن هناك شيء لتخشاه ، كانت تلك الأيام تفيض بالنبل والنوايا الحسنة، وكأن الشيطان ذهب في إجازة تاركاً تلك المساحة من الود بريئة تماماً، في محيط ذلك المجتمع الصغير المتآلف، بعد أن تنتهي من إعداد الطعام، تظل واقفة وتقول بدلال مغوٍ:
- كل! كم أنت جميل وأنت تأكل! ثم تسأل وأنا أمضغ: هل طعامي لذيذ؟
- ألذّ طعام في العالم، يكفي أنه عمل يديك!
وبدلالٍ طاغٍ تجيب:
- يا إلهي على كلامك المعسول كم يجعلني سعيدة!
ثم تستدير وتغادر،وكأنها تهرب من خطرٍ وشيك الوقوع!
مرّة واحدة احتضنتُ وجهها بكفيّ للحظات، وكأنني أنقل إليها مشاعر عجزت عن أدائها الكلمات، لم تنفر وأبقت كفي هناك حتى نزعتُهما من تلقاء نفسي ، وعلّقت وهي تهز سبابتها متصنّعةً التهديد، دون أن تفارق ابتسامتها الآسرة وجهها كاشفة عن صف أسنان أنيقة:
- لو رآك أهلي لذبحوك! وسنّت حدّ كفها فوق الآخر في إشارة للذبح، وهرولت خارجة دون تمهّل!
تمادت السنون،وتفرّق الأحبّة وارتحلتُ أنا إلى غربة بعيدة،وعدت بعد سنوات،لأسأل أمي عنها أوّل ما أسأل،لتجيبني مطيلة مدى الكلمات، وكأنها تتأسى على ما فات:
- لقد تزوّجت وسافرت منذ غادرتَ أنت! وأهلها عادوا إلى قريتهم، لم ترقهم حياة المدينة كثيراً، وخاصة بعد تقاعد والدها.
تتالت الأيام بإيقاعها الرتيب وتتابعت، وكأنها تزين لي العودةللإغتراب من جديد، لأقطع هذه الرتابة المتطاولة، إلى أن فاجأتنا ذات يوم بزيارة على غير موعد وبصحبتها أربعة من الأولاد، متراتبين في السن، وكأنها أنجبتهم على عجل واحداً بعد الآخر، قبل أن يفرّ الشباب وتشيب اللمة، استقبلتها أمي بحماسٍ وترحابٍ بالغين، وأنا بابتسامة عريضة ومصافحة حارّة بلا خجل، فبالنسبة لكلينا هي أيقونة من الزمن الجميل الذي نحنُّ إليه بلا حدود، وكأننا نمسك به في حضورها من جديد!
عاث الأطفال فساداً في أنحاء البيت وقلبوا كل شيء دون ان تنهرههم أمي بكلمة واحدة، حفاظاً على مشاعر الجارة العزيزة، أما هي فظلت ساهمة تتأملني، وانتهزت غياب أمي خارج الغرفة لتهمس لي همساً حتى لا يسمعنا الأطفال ربما، أو ربما لتشيع تلك العذوبة الناعسة، التي تطلق الأحلام من مهاجعها، كدخان بخور محترق،تشتاق إليه الأنفاس:
- لم ينقص من جمالك شيء!يا إلهي كل ما فيك جميل!
وتكمل مستمهلة الحروف: يا يوسف!
قالت وهي تغادر مودعة بعد أن شاركت أمي في إعداد الغداء، ربما لتجعلني آكل من عمل يديها وفاءً لتلك الأيام الجميلة:
-في المرة القادمة سأصطحب زوجي لأعرفكم عليه! إنه رجل أمير، لقد حدثته عنكم، وقلت إنكم أحب الجيران إلينا وأنني أفتقد تلك الجيرة العزيزة، ولا بُدّ أن أزوركم فأذن لي!

نزار حسين راشد

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى