عبد الرحيم التدلاوي - كتابة الرفض.. قراءة في ديوان "من غدا...حتى أنا...!!!" للشاعر إدريس فكري

طالعت وأطالع هذا الديوان الزجلي الموسوم ب؛ من غدا... حتى أنا...!!! ؛ للمبدع الشاب إدريس فكري. صدر عن مطبعة بلال في طبعته الأولى سنة 2015؛. ويمتد على مساحة تبلغ ٦٤ صفحة؛ تتضمن مقدمة بقلم حسنة أولهاشمي؛ وعشرة نصوص كلها مركبة باستثناء نص واحد جاء في كلمة واحدة؛ هو نص؛ "روحي"؛ والكلمة بنفسها مكونة من الروح وياء النسب التي تشير إلى أن الروح خاصة بالشاعر؛ هذا الأخير الذي نجد بصمة حضوره قوية منذ العنوان. إذ يؤكد على انخراطه صحبة جماعة غير محددة بأداة؛ حتى؛ الدالة على المشاركة. وضمير المتكلم لا يعبر فقط عن الذات الفردية بل يمتد ليشمل الجماعة وبخاصة المنخرطة في التغيير المعبر عنه بالغد. الذات ستنخرط من الغد في صياغة عالم أفضل تبينه وتجليه لوحة الغلاف ذات المنظر الطبيعي المكون من الجبال والغيوم والشمس. ويبرز من خلال الالوان؛ حيث حضور السواد المخترق بالأحمر والشمس الفضية؛ سواد يندحر بهذا النور الواعدة سحبه بالغيث. نصوص تحمل رفضا للواقع وتنخرط بوعي في رفضه لتحقيق عالم أفضل؛ عالم الحرية والكرامة.
كتابت المبدع تراهن على بلورة قضايا الذات والواقع والوجود بنفس جديد ومختلف، نفس يمدد مساحات التأويل ويفسح أبواب الإيحاء والرمز، ويصر على خلق أجنحة طريفة للتحليق في سماوات الأسئلة العميقة والمؤرقة... هي كتابة تستفز شرود القارئ/المتلقي، تحرك ملكاته وتخلخل حواسه وتربك انتباهه، كتابة تستدعي عوالم تصاغ بأشكال التعبير المنفتحة على التحديث والتجريب، وتوفر عناصر القصيدة الراشحة حياة وروحا بعناصرها الشعرية والجمالية والفنية والتداولية.. ص 3
الكتابة لدى المبدع وعاء الم يتدفق صراخا وتحديا ومقاومة. ومن هذا الألم الضاج تأتي كتابته ممزوجة بالرفض والتحريض على المواجهة والدعوة إلى التغيير بفنية تبعده عن الخطابة والتقريرية، فالكتابة لديه همس جميل، وإيحاء لذيذ، يحرض المخيلة، ويحث على التأويل. يسعى المبدع إلى التعبير عن قبح الوجود بجمال الوجود كما قالت حسنية أولهاشمي في تقديمها للديوان. يخلق من جراحه عوالم رحبة وبديلة. عبرها يرتب فوضى كيانه ووجوده. يشيد بكتابته عوالم أفضل متجاوزا ما يعتري العالم من فوضى وتشوهات، يشعل فتيل النور في جسم الظلام...
نلمس في الديوان اهتمام الشاعر بقضايا الوطن الصغير والكبير، كما نلمس، كما أشارت إلى ذلك حسنية في تقديمها، اهتزازات النفس وقلق الذات في علاقتها بالكتابة وشجونها.
بعد الذات:
في لحظة انكسار الروح، وتصدع الأحلام، وتوالي الخيبات، لا تجد النفس سوى البحر لتختلي به بغاية التنفيس عما يختلج بداخلها؛ فالبحر متنفس يسمح للذت بالبوح، والتعبير عن الآلام والأحزان والانكسارات، وبه تستعيد توازنها، وقوتها، يقول الشاعر بهذا الخصوص:
بغيت وخايف يا بحر
من ضربه ف الظهر ولا ف الصدر
بجوج ولاواد الغدر
بغيت وخايف يا بحر
نفتح صدري وندوي
ما نعرفش نرسم لك سوء حظي
وموتة البسمه ف دربي
ما نعرفش نرسم لك هرسي
والسيف الواقف على حدسي
ما نعرفش نتخيلك راسي كندوي
بلا ما يوقفوا واحد جوج خيالات قدامي..ص 12.
والملاحظ أن الذات تعاني من مشاغل عويصة متأتية من اختلال المجتمع وأعطابه، وتروم البوح بموقفها منه، لكنها تخاف من القمع الذي يهيمن على الحركات والهمسات وما بداخل النفوس.
المراقبة والهيمنة والقمعمن سمات المجتمعات الظالمة، والقامعة، والجائرة.
ونتلمس في هذا المقتطف اعتماد الشاعر على مجموعة من الفنيات التي ترفع نصوصه إلى مقام الأدب الرفيع، منها التكرار المؤكد على رفض القمع، وإسكات الأصوات الصادحة بالحق، مع توظيف أداة النداء "يا" في مخاطبة البحر، وهي أداة تقرب البعيد وتجعله قريبا من الكلام، بحيث يصير همسا كنوع من تهريب البوح عن آذان المراقب.
كما يلاحظ أنسنة البحر حيث صار يسمع وينصت:
يا الساكن دواخلي
يا الساكنو انا بلا ما ندري
اعطيني ودنك
بغيت نحكي لك... ص11.
فهناك تداخل بين البحر والشاعر لدرجة يصعب التفريق بينهما بالرغم من أن البحر المخاطب قد يبدو خارج الذات، لكنه، حقيقة يقبع بداخلها، هو جزء منها.
كما يعمد الشاعر إلى توظيف الألوان، وخلق تضاد بليغ بينها، من مثل قوله:
فليله بيضا
لابسه لحكل
تحت خيال شجرة
هاربه منه طيور الظل
طاحت اقمره ظلمه
على راسي قطرة قطره...ص25.
أو قوله:
ميت ف حي
ابوابه في
قاطعه الزي
ف الظلام كي ف الضي
والسؤال:
شكون ضبر الصبر؟
اعيني انت حقي
ف راس ذاك الحي... ص29.
فالتضاد حاضر بين الميت والحي، لكنه تضاد يقوي دلالة التداخل لا التنافر، فضلا عن الظلام المقابل للضي، فرغم تعارضهما فإنهما يصيران متشابهين لا فرق بينهما مادام الحق مجهضا. مع ملاحظة التجانس الصوتي والوزني بين ضبر وصبر، وحيث يصير الصبر إنسانا يضبر أو يوخز.
لا يعتمد الشاعر في ديوانه على الخطابة في رفضه للظلم وتعريته للجور بل يعتمد الرمز والإيحاء كما في هذا المقطع:
ف ليله من الليالي
شديت طريق نعاسي
مشيت وحدي
والوحدة فلوكه
ف بحر خيالي
بلا مجادف...
بحارها تالف
بحالي... ص 38.
البعد القومي:
لا يخفى على أحد أن الالتزام لا يعني الإلزام، إنه تعبير عن موقف فكري ووجداني تجاه قضايا المجتمع والأمة معا نابع من الداخل وغير مفروض من الخارج، واهتمام بما يدور في الساحة واتخاذ موقف منه، ولا يمكن للمبدع الجاد أن ينفصل عن تلك القضايا لأنها جزء منه، وهذا ما نجده في هذا الديوان، حيث انخراط الشاعر في القضية العربية الأساس ألا وهي القضية الفلسطينية، حيث عبر عن تلك القضية بتوظيف الرمز، وبخاصة رمز السبولة المعبر عن العطاء، يقول في قصيدته "بياض تو صافي...:!!!
اما واحد الوحدة
شفت اوراقها كيطيحوا
وحده ورا وحده
لعنه
قلت انا: من عكا
شافتها يدي ف عين السما
طالعا مجروحة
من دمعه تمة
ف بحر بالحشمه
مات ف الما... ص 27.
وهذا الانخراط تعبير عن انتماء ثقافي وحضاري وتاريخي وإنساني، ولا يمكن فصله عن الانخراط في قضايا الوطن، فهذه من تلك، والفصل بينهما تعسف وظلم، وفصل يراد به التفرقة والإضعاف.
ولأنه منخرط في هموم وطنه من الماء إلى الماء، فإن الكلمة الصادقة والمعبرة هي ديدنه، وسبيله إلى التعبير عن تلك القضايا بفنية وجمال، يقول في قصيدته "طير الضو او ضو الطير":
...
حتى ابنى عشه
الفوق ف راس الكلمة
بالمسك بالعنبر
بالمداد
بالميم بالسين
ابناه بكلها حروف الزين
واحيى
غير مرة
احيى بالكلمة
هاذ المرة
احيى ف كلمة
والكلمة من نهار عرفتها
وهي بريشة منه
منحوته كلمته. ص 23.
والقصيدة في مدح شيخ الزجالين وحكيمهم، إدريس أمغار المسناوي، الذي أخلص للقصيدة الإنسانية؛ المرتبطة بالإنسان أنى كان وكيفما كان.
ديوان يعد بالكثير لشاب سيغني المكتبة بجديده وجيده. تقربنا المجموعة من انشغالات الشاعر الاجتماعية والسياسية والقومية. كما تقربنا من انشغالاته الفنية والجمالية. فالعمل يختزل صخب الوجود وتناقضاته في تمرد حرف وفي عصيان معنى، بلغة ساخرة أحيانا. يفض سكون المخفي ويعري قبح الذات والكون وينسج بدمه وألمه نسغ الجمال الناطق حسنة أوهاشمي، ص 6.



1597592753155.png

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى