محمد بنيس - بيروت الدهشة الأولى

1.
يلزمني صمتٌ طويل، يطوي السواحل والآفاق، حتى يتوقف هدير الانفجار الذي أصاب بيروت، أصاب مرفأها، في وسط المدينة، بيروت. صمتٌ بحجم ما لا ينتهي من صدمة الفاجعة. لكأنني كنت هناك، على مشارف المرفأ، أطل من نافذة في عمارة أو أستمتع بغروب الشمس. انفجار أول، دخانه أحمر ممزوج بالرمادي القاتم اللون، ثم الانفجار الثاني، انفجار الدمار. لن أغلق العينين. هذا انفجار القيامة. أحس صداه في صدري. فلا يبقي، على إثره، من جسدي غير ذرات تتوزعها جهات الأرض.
بيروت، الدهشة الأولى. كيف أحميها من صاعقة الدمار؟ لابد لي، إذن، من هذا الصمت الطويل. وأنا لا أفرق بين هناك وهنا. أقصد بالهنا أي مكان من جهات الأرض. هيروشيما الأمس، بيروت اليوم. فاجعة أن تعلمَ، وتشاهدَ، عبر القنوات التلفزيونية، ووسائل التواصل الاجتماعي. لن تخطو خطوة أكثر. في مسافة الهنا يتحدد ما تشاهد. انفجار بيروت.
أي طاقة تحتاج إليها لكي يبقى رأسك مرفوعاً، عمودياً، وجهاً لوجه مع الشاشة؟ وكيف لك أن توقف صدى الانفجار في صدرك؟ هذا ما أحس به الآن، بعد الآن. تنفلق الكلمات وتتشظى في عراء العالم. ثوان كانت محملة بما تخفيه لحظات القيامة من هول وفزع وصراخ. بيروت في أرض وبقية العالم في أرض. مرة تلو مرة أشاهد الانفجار، أشاهد قطره يتسع وعلوه يتضاعف ويتضاعف، حتى يغطي السماء والأرض، بحراً وتراباً وعمارة. والدويّ صاعقة لا نهاية لمداها. تنزل وتدكّ ما يقع في محيطها. مشاهد الأنقاض تتواصل، والدم تتعدد صوره على أعضاء الضحايا. هو الدم من جديد، دم الضحايا، من أهل وضيوف بيروت.
2.
لم يدم زمن الانفجار إلا ثوان، ثم بيروت تهتزّ اهتزازاً حاداً وعلى الأرض الخراب. ذلك ما تتبعته مصادفة، وأنا أفتح جهاز التلفزة لأطلع على ما وصلت إليه حالة الكورونا في المغرب. أثناء المشاهدة غطتني سحابة، معها فقدتُ القدرة على رؤية ما يوجد حولي، أوْ سماع ما يتحدث به الصحافيون والمعلقون. كنت في أعماقي أصرخ، مع أهل بيروت، ولأجل بيروت. لم تكن بيروت بعيدة عني، لأني أقمت فيها منذ فترة الشباب ولم أغادرها حتى اليوم. ذلك ما تكلمني به نفسي وأنا أصدقها. بين بيروت وبيني زهرةٌ عمرها يمتد عبر ما يزيد على نصف قرن. وها هو الانفجار يأتي، في وقت باتتْ معه المدينة فريسة لكل أنواع اللصوصية والنهب والاستغلال.
أعداء بيروت يقطعون الطرق على من يحبّونها من أبنائها، مقيمين ومهاجرين. أعداء من لبنان ومن بلدان وقوى تشحذ السكاكين وتسعد بالطعنة القاتلة. هؤلاء الذين لا ينتهون من عدوان حتّى يعلنوا عدواناً جديداً. أسماؤه الخيانة والهيمنة وسفك الدماء. منذ الخمسينيات حتى اليوم كان هؤلاء الأعداء يراكمون الأسلحة ويتربصون. في نهاية السبعينيات زرتُ أول مرة بيروت فكنت شاهداً على فظاعة الحرب الأهلية، التي لا أحد يعرف أسبابها. واستمرت الحرب ما يقرب من خمس عشرة سنة. ورغم أنها توقفت إلا أن الأعداء ظلوا مصرّين على تدمير بيروت.
لم يسترجع المؤرخون أنفاسهم بعد ليكتبوا فصول تاريخ صعب، منذ إنشاء لبنان حتى اليوم. لاشك أن ما عرفته منطقة الشام من مآس سياسية كان له أثره في وجود الدولة اللبنانية وفي طبيعة تركيبة نخبتها السياسية. أتذكر دائماً دور الشاميين في فكرة القومية العربية وفي تحديث ثقافتها. لم يكن ذلك هيناً، ولا سحابة صيف. ولأن بيروت كانت منبع الفكرة الحرة في العصر العربي الحديث، فإن أعداء لبنان، حتى من بين أولئك الذين لا يتوقفون عن الحديث باسم الصداقة والتضامن، لن يتخلوا عن تدمير لبنان. بهذا يمكن أن نستقبل ما حدث في مطلع السنة الحالية عندما قامت في لبنان انتفاضة متفردة كانت الشبيبة فيها غاضبة، ترفع شعارات تحاكم بها النخبة السياسية اللبنانية.
3.
كانت ليلة الانفجار الأولى حاجزاً بيني وبين الاستسلام لمنطق القدر أو لإغراء فرجة على الشاشة، يحتشد فيها الدمع لحين، وبعده تهجم فرجة أخرى إلى أن أنسى انفجار بيروت، وأتخلى عن البقاء إلى جنب البيروتيين، من بين من أعرفهم ومن لا أعرفهم. هي ليلة طويلة لصمت طويل. أتابع مراسلات الصحافيين وأحاديث المعلقين والمحللين، كأني أسمع ولا أسمع. لأن الذي استغرقت فيه هو تأمل ما كنت أشعر به من حداد على الموتى ومن تضامن مع المصابين. وكنت في حدادي وتضامني أنصت إلى نحيب بأصوات متعددة، وإلى ما يصدر عن سواها من حناجر جريحة، تبيّنتُ فيها ما اتضح لاحقاً أنه غضبٌ واحتجاج، يعبر عن إدانة للمسؤولين السياسيين والنخبة السياسية عامة. كلمة واحدة كانت تختصر ما تنطق به الإدانة، هي «الفساد».
كيف يمكن أن نفهم الفرق بين طموح الشعوب العربية إلى الحرية والعدالة والمساواة وبين شراسة النخب التي توالت، بعد الاستقلالات، على مسار نهب المال العام وقمع الحريات وتيسير سيادة الهيمنة الأجنبية؟ ما أفجع هذه الوضعية العربية! بل كيف لي ألا أشفق على لغة تضيق عن تسمية هول الخراب؟
ومهما كانت الأسباب التقنية، التي أدت إلى انفجار مرفأ بيروت، فإن ما هو تقني يخفي الأكثر وقاحة وبشاعة. بهذا يمكنني أن أتوقف عن متابعة التعليقات التي تستفيض في وصف الآني، الظرفي، المرئي. أحني رأسي علّني أنفذ إلى صدى الانفجار في داخلي. ولكن، أليس من المنطقي، في وضع كهذا، أن أكف عن توهّم التعبير عمّا أحسه ينمو بيني وبيني؟
4.
بيروت، الدهشة الأولى. صورة تتوالى من صفحة إلى صفحة. وتاريخ بيروت كتاب مفتوح لكل من تعلّم فيها أبجدية الحرية في العصر العربي الحديث. أعرف أن هذه الأبجدية كتبتها أمم أوروبية، ولكن بيروت بحثت لها عن معجمها ومشتقاتها ومرادفاتها وأضدادها في اللغة العربية. هل أستنطق تاريخ الشام الحديث؟ وما كان بين الشام وفلسطين؟ ومؤامرات وأقنعة الاستعمار؟ وجغرافية الخيانات والترهيب والاغتيال في محيط لبنان؟
بيروت التي أهدت العالم العربي أبجدية الحرية هي بيروت التي أوصد الأعداء أبوابها وأرادوا أن يحوّلوها إلى معتقل لتجميع العبيد. أبناء بيروت لم يكونوا عبيداً مثلما لن يكونوا عبيداً. هذا ما صرختْ به كلمات البيروتيين في وجه الأعداء. وفاجعة الانفجار لن تدمر حلم اللبنانيين ولا عزيمة اللبنانيين. هي عبارة شبيهة بما ظللت أسمعه، منذ أن أقبلت على تعلم أبجدية الحرية، وما زلت أسمعه حتى اليوم. تلك هي بيروت. في الدخيلة تتردد العبارة، وأنا أشهد أن اللبنانيين لا يستحقون كل هذه العذابات.
لم أتفاجأ. في اليوم الموالي للمأساة، بادر الشبان البيروتيون بالنزول إلى المدينة والشروع في تحدي الأعداء. متوحدين، من شارع إلى شارع، ينكبّون على جمع الأنقاض، يكنسون وينظفون. شبان آخرون في المقدمة، أطباء وممرضون، يسهرون على علاج المصابين. أشاهد لقطات مما يفعل هؤلاء وأولئك، منشغلين بعزيمة أن يكونوا أوفياء لبيروت، كما كان السابقون أوفياء لها.
5.
لا يهدأ صدى صوت الانفجار في صدري. وبين يدي كتاب بيروت، أقرأ سطور الصفحة تلو الصفحة. بين حين وآخر، أرفع عيني لأشاهد بعضاً من سكان هيروشيما يقفون، في حديقة السلام التذكارية، خافضين رؤوسهم وعيونهم مغمضة، ينصتون لأصوات ضحايا هيروشيما وناجازاكي ويصلون. وأتخيل، في الوقت ذاته، محبي بيروت يقفون حيث يوجدون في العالم، وعلى شفاههم كلمات بلغات الشرق والغرب، تمضي وتعود. وأنا في صمتي أنصت إليهم. كل واحد من بينهم يهمس بالرجاء.
صور الدمار والأنقاض والدم والجروح والفزع. صور ليل يخفي عنّي النائحين والمفقودين. وهذا الصوت الذي بعث لي به صديقي البيروتي، عبر الواتساب، صوتُ فيروز. صافياً، واثقاً يصعد من سرّة الأرض. ودائماً، بيروت، الدهشة الأولى.

محمد بنيس



أعلى