عبد السلام بنعبد العالي - في التقنية

عشنا لمدة غير قصيرة على ثنائية صارمة تميّز بين حدين متمايزين، إن لم يكونا منفصلين: المعرفة والنظر من جهة، ثم التطبيق والعمل من جهة أخرى. لا نستطيع أن نقول إن المسألة متجذرة في اللغة التي لم تكن تفصل النظر عن العمل أو المعرفة عن أشكال تطبيقها على هذا النحو. لا أدل على ذلك من استخدام لفظ صناعة في العربية الكلاسيكسية. فالكلمة تدل على صناعة الفلسفة مثلما تعني صناعة الحياكة. الظاهر أن هذا شأن الفكر الأوروبي كذلك. فرغم أن اللغة الاغريقية كانت تُوحّد بين الطرفين في لفظ «التيخني»، إلا أن التمييز ظل قائما لمدة غير قصيرة بين المعرفة وأشكال تطبيقها. على هذا النحو ظلت التقنية تُحدّد بأنها العلم المطبَّق، مثلما ظل يُنظر إلى الآلات على أنها تطبيق لنظريات.
ليس هذا النوع من التحديد، وليس هذا الفصل مسألة لغوية بحت. ذلك أن ما يترتب عنه يتجاوز اللغة ويتعداها. فعندما "نفصل" العمل عن النظر، والتطبيق عن المعرفة، والتقنية عن العلم، لا نكتفي بأن نميّز بين طرفين، وإنما نُصدر حكم قيمة، ونجزم بـ«براءة» الطرف الأول. حينما تغدو التقنية مجرد«تطبيق» للمعرفة العلمية، ولا تعود حاملة لنظرية، يُقتصرعلى النظر إليها فحسب فيما تجديه من نفع، وما يترتب عنها من مردودية. هذا ما سُمّي، حتى عند الأوروبيين أنفسهم، «حياد» التقنية. وهذا ما دفع كثيرا من مفكرينا إلى النظر إلى التقنية باعتبارها مكسبا إنسانيا وليست حكرا على الغرب وحده. لذلك فهم لا يرون مانعا في «نقلها» وتعميمها. وحتى الذين يعارضون منهم «استيراد» الفكر الغربي، والذين ينددون بالغزو الثقافي، لا يقفون الموقف ذاته فيما يخص التقنية. كل ما في الأمر أنهم قد يشترطون أن يكون نقلها طاهرا نظيفا نزيها.
يسلّم هذا الموقف إذاً أن التقنية لا تنقل معها النظرية المنطوية ضمنها، ولا التصور عن العالم الذي تتضمنه، وأنها محايدة «بريئة» لا لون لها. فهي مجرد أداة ووسيلة، وهي ليست خيرا ولا شرّا، اعتبارا بأن الوسائل لا تستمد معناها إلا من الغايات التي تستهدفها. فلا خوف إذاً على ثقافتنا وهويتنا وأعرافنا وعاداتنا من هاته «الآلات» البكماء الصمّاء التي تكتسح مجالاتنا، وتسكن معمارنا، وتضبط حركتنا، و تُصنّع تغذيتنا، وتنظّم إدارتنا ودواليبنا، لا خوف منها لأنها لا تحمل معنى «ايديولوجيا»، ولا تذهب حتى أن تحوّل مفهومنا عن المكان و الزمان، وتغيّر أنماط عيشنا وأسلوب تفكيرنا، و تؤثّر على علائقنا ونظمنا، وعلى فنوننا وآدابنا، و تغيّر أذواقنا وأهواءنا.
لسنا وحدنا من اعتنق هذا المفهوم "التلقائي" عن التقنية. ففلاسفة الغرب أنفسهم ظلوا، إلى وقت غير بعيد، يقفون الموقف ذاته. فهم أيضا اقتصروا على التساؤل حول أضرارها ومنافعها، ولم يعملوا على طرح هذا الموقف «الطبيعي» موضع تساؤل، ولم يجعلوا من التقنية «مسألة فلسفية» إلا منذ وقت قريب. بل حتى ماركس نفسه، هو الذي دُعي بمفكر عصر الصناعة و«مفكر التقنية»، لم يعمد إلى إعادة النظر في المسلمة التي يقوم عليها هذا الموقف «التلقائي»، وفي العلاقة التي تربط النظر بالعمل، والعلم بتطبيقاته، و"النظرية بالممارسة"، وكلنا يذكر الأطروحة الأخيرة حول فيورباخ التي تفصل تأويل العالم عن تحويله. لم يعط ماركس لنفسه فرصة التساؤل ، لا عن توظيفات التقنية ومنافعها وأضرارها، وإنما عن ماهيتها.
في محاضرة أصبحت نصّا كلاسيكيا في الموضوع، يعزو مارتين هايدغر سيادة الموقف الطبيعي من التقنية إلى كون مساءلته تتطلب مساءلة الميتافيزيقا وأزواجها. فما دمنا نُؤوّل التقنية انطلاقا من علاقة النظر بالعمل، والنظرية بالممارسة، وما دمنا ننطلق من الفصل الأوّلي بينهما، فلا يمكن للموقف التلقائي أن «يزعجنا»، ولا أن يوقظ تفكيرنا.
ولكن لماذا مساءلة الميتافيزيقا وأزواجها؟ بالضبط كي نتبيّن أننا نكون «في» التقنية من غير أن نكون أمام آلات. ذلك أن التقنية لا تكمن في استعمال الآلات، وهي ليست آلة عظيمة تضم أجهزة وأساليب للتنظيم وأنماطا للعمل. فالآلية بمعناها الحديث ليست مجرد تطبيق للعلم. إنها حلول لممارسة جديدة. ليست ماهية الآلية تحويلا للأداة إلى آلة بقدر ما هي قائمة في الآلة ذاتها، تلك الآلة التي ليست آلة إلا بمقدار ما فيها من رياضيات. الآلة آلة باطنيا وانطلاقا من الجدّة النوعية للمعرفة المستخدمة، وليس خارجيا وكتطبيق للمعرفة. الآلة «تنطوي» على نظرية ولا تكتفي بتطبيقها.
إن المعرفة التي بفضلها اتخذت الممارسة شكلا آليا هي الرياضيات. إنها المعرفة التي أصبح فيها الوجود ذا طبيعة رياضية. يتعلق الأمر بمعرفة «تجعلنا سادة على الطبيعة وممتلكين لها». إرادة المعرفة هنا إرادة قوة. والعلم ذاته لم يصبح رياضيا إلا بالارتباط مع هذا الصراع وبغية السيطرة. ليست التقنية إذاً مجرد تطبيق للعلم لأن للعلم ذاته صبغة تقنية. لهذا غدا الحديث اليوم عن أمر واحد موحَّد هو «التقنوعلم» الذي يجعل الانكشاف يتعلق بالطبيعة، ليس كانفتاح وفيزيس كما كان الأمر عند الإغريق، وإنما كأهم مستودع للطاقة. إنسان عصر «التقنوعلم» مدعوّ إلى هذا الكشف. وسلوكه هذا يتجلى في ظهور العلم الحديث. إن شكل التمثل الخاص بهذا العلم يطارد الطبيعة ويعتبرها بمثابة مركب من القوى قابل للحساب الرياضي. على هذا النحو فليست الفيزياء الحديثة فيزياء تجريبية لأنها تطبق على الطبيعة آلات من أجل فحصها. العكس هو الصحيح. فلأن الفيزياء، مسبقا وكنظرية خالصة، تجبر الطبيعة كي تظهر مركبا من القوى قابلا للحساب الرياضي، أمكن للتجريب أن يمحّصها. فكأن النظرية تطبيق وممارسة، وكأن العلم هو الذي يجسد التقنية لا العكس. هذا ما سمح لبعض الفلاسفة المعاصرين باستخدام عبارة : «الممارسة النظرية» .la pratique théorique «التقنوعلم» لا يُطبّق على طبيعة محايدة ما ارتآه. فهو، منذ البداية، يكون أمام موضوع من صنع التقنية. فضلا عن هذا، فإن المعرفة العلمية ذاتها يتم التعامل معها بنفس الأسلوب التقني الذي يتم به التعامل مع الكائن عموما من حيث يُنظر إليه كطاقة تختزن رصيدا من المعلومات تكون رهن الإشارة وتحت الإمرة.
عندما نستورد التقنية إذاً، فاننا لا نستورد آلات ونماذج للتنمية ومخططات للتنظيم، وإنما نستورد طرق عمل وأسلوب تفكير ونمط وجود. أقول «نستورد»، والأصح أن نقول «نُكتَسَح من طرف». مادامت التقنية لا تترك لنا الخيار، وإنما تفرض نفسها علينا، لا كآلات لا مفر لنا من اقتنائها واستعمالها، وإنما كبنية للكائن. ذلك أنها ليست مجرد نظرية وتطبيق، وإنما هي نمط تجلّ للموجود. إنها الكيفية التي يختفي فيها الوجود ليظهر كمستودع. ينطبق هذا على كل أشكال الموجود بما فيها الوجود البشري الذي يشكل هو كذلك جزءا من هذا المستودع. وبما أن الواقع الفعلي يمثل هنا في وحدة الحسابات التي تنقلها التصاميم والمخططات، فإن الإنسان يحشر في هذه الوحدة والانسجام، ويمتد الموجود في غياب الاختلاف، ذلك الغياب الذي يستجيب لمبدأ الإنتاجية. ورغم أن هذا المبدأ يظهر أنه يِؤدي إلى نظام تراتبي، إلا أنه يقوم، أساسا، على غياب كل تراتب، من حيث إن مرمى الإنتاج ليس إلا الفراغ الموحّد لكل أنماط العيش والتفكيرالتي تفقد سماتها الخاصة تحت ضغط هوس التخطيط، والبرمجة، والتنظيم البيروقراطي.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى