نبيلة غنيم - الخلاص

غبار أسود ينتشر في أجوائه، انقلب نهاره إلي ليل حالك، لم يعد القمر يثير أحلامه الأسطورية التى كان يرسمها بحرفية، ولا النهار يجذبه انسجام حياته بكل ما فيها من براعة ونجاح، إخفاقات وتَثْبيط .
يُحدِق في اللاشئ، تزوغ منه الأفكار، تتملكه رغبة مجنونة في الخلاص.
ينظر في المرآة، لا يجد صورة "محمد" التى يعرفها، يجد وجهاً مجلَّلاً بقسمات عابثة مُعفرة بغضبٍ من جميع أحواله، يريد الهروب من ذاته ، يجد جميع الأبواب مغلقة، تصيبه غصة مُرة، أجواء العيد تزيد شجونه، تفتح مدامع عينه، مياه ساخنة تحرق خديه، دقات قلبه تتسارع مع تسارع أفكاره المجنونة، يبحث عن ساتر يتستر خلفه هربا من أوجاع قلبه، فلا يجد.
تحيطه صور يزعجه وجودها، تقترب منه زوجته بأظافرها المسنونة، وقد استطالت أنيابها، تسخر منه، تصفه بالفاشل، تُظهر له تذمرها من عيشتها معه، حتى والديه يرى في عيونهما الأسف لما آلت إليه أحواله، يستدير ليرى عيوناً كثيرة ترقبه، وبعض النفوس تتآمر عليه، حتى نفسه تخرج من قمقمها ناقمة عليه، تشمئز منه، تلفظه فوق كومة نفايات مرعبه، الخوف يقتلع عيونه من محجريهما..
يستدعى أيام الجامعه، وفرحته بكونه أول دفعته، الكل يحسده على ذكائه، يتذكر أحلامه التى صعد بها إلى أعلى سماء، كيف سقطت كلها وتحطمت محدثة دويا شنيعاً أصاب نفسه المرهفة بشروخ مزمنة؟
يسأل نفسه: مَنْ بَدَّلَ زوجه المُحبة التى كانت تبثه الغرام أيام الخطوبة وما بعد الزواج بقليل بتلك المرأة الأنانية التى لا يروق لها أن تجده سعيداً بأي نجاح معنوي!، فلا مقياس تعرفه في الحياة سوى "المادة" لدرجة أنه يتخيل لو أن أحداً قايضها عليه هو شخصيا مقابل حفنة من المال لقَبِلتْ المقابضة بسعادة.
يصيبه القنوط ، يشعر بجدران البيت تتقارب لتعصره، يفر هلعاً، يفتح الباب، يهرب للشارع، يتلفت خلفه بنظرات هاربة، رأسه تزدحم بالتفاصيل التى تتضارب وتتواثب محدثة هوساً لا يستطيع إسكاته، جن الليل عليه وهو يهيم بالشوارع مكبلا بخوفه، طلاسم تسيطر علي عقله الذي كثيراً ما وصفه المحيطون به بالعبقري!!
يصطدم بصديق عمره "أمجد" حاملاً ابنته ذات السنوات الثلاث، اختلطت دمعته بابتسامة سرعان ما انقشعت، احتضنه "أمجد" بعنف، شعر كأنه يحتضن دمية بلا روح، أمسك بكتفيه ليتحقق مما رآه من عكارة صفو وجهه وهندامه الرث ومسخ منظره وشرود عقله، وعلامات الخبل البادية عليه..
غرق "محمد" في نوبة بكاء هستيرية ثم قال لأمجد: أنا وَهْمٌ، تعلق بحياة لا تناسبه، لابد لي من الخلاص من هذا الكائن الهلامي الذي صنعته الظروف وساهمتُ أنا في تشكيله.
تمتد يد الطفلة إلي خده لتمسح بعضاً من نهر الدموع التى أغرقت وجهه، ينتفض بداخله الحنين إلى ابنته، تطل ابتسامتها من بين أحزانه، يُقبل يد ابنة "أمجد" ، تربت الطفلة علي كتفه، يتناولها بين أحضانه، تُقبله، تسرى قبلتها في شراينه وكأنها قُبلة الحياة، يشعر بأن القمر قد بث نوره في قلبه المظلم، وصالحه على الحياة لتنصهر وتتلاشي فكرة الخلاص.
  • Like
التفاعلات: كفاح الزهاوي

تعليقات

للقصة أكثر من محور أستاذة نبيلة ، وفي كل محور قضية تستحق الاهتمام والتعليق عليها ، فما بين محمد الناجح والمتميز والمهزوم . ثم مابين الظروف المحيطة به زوجته مثلا تدفعه للفشل . محاولته الخروج من جلده وتقيؤ همومه أمام صديقه أمجد . نجد أن محمدا قد وجد بصيص أمل بقبلة يد الطفلة ابنة صديقه ، والحنين لطفلته ، لكنه لم يحن لزوجته التي كانت حبيبته ، وهذه معضلة بحد ذاتها ... كل أمنيات الفرح والنجاح أرجوها لك .
 
أعلى