د. سامي عبد العال - مقولة الأم.. نحو تحديدٍ فلسفي

" الأم هي الحياة حين يختفي كلُّ شيء.."
" كانت الفلسفةُ أُمّاً للعلوم ورغم ذلك تجاهلت وضع الأم كسؤالٍّ بلا إجابةٍ"

ماذا لو طرحنا سؤال الأم بصراحةٍ فلسفيةٍ؟ هل تكشف الأم عن شيء جديد للتفلسف؟ كيف يتم التفكير فيها وما أهم القضايا التي تفرزها؟.. لم يناقش الفلاسفة " مقولة الأم" بشكلٍّ بارزٍ رغم الاهتمام الفلسفي بقضايا أخرى. وهذا الغياب يفسر غَمْط مكانة المرأة كقضية فلسفية جديرة بالمناقشة والحوار. ربما لكونِّ الأم علامة استفهامٍ أكثر من كونِّها موضوعاً. وربما لأنَّها ذات حضور بدهي يسكننا من الداخل دون تفكير فيه. ورغم أنَّ البداهة تلقائية ولا تحتاج تأملاً معقداً، إلاَّ أنَّ تسليماً بحضورها الحميم لا يخلوا من دلالة فلسفية عميقةٍ.

ولماذا نذهب بعيداً، فلم يكن ليوجد أي فيلسوف دون أمٍ بطبيعة الحال، لكن الأكثر أهمية أن وجودها في أفكاره لا تخطئه العين. وكم شكلت الخلفية الإنسانية والكونية من واقع التربية والمجتمع، لأنَّ لحظات تربية الابن لا تفصل الثقافة عن الأم الرؤوم التي توفر رحماً رمزياً لتكوينه وانضاج توجهاته. فلئن تخلَّق الابن جنيناً داخل رحم بيولوجي حمله شُهوراً، فقد نزل إلى حاضنة عامة لا يجانب تأثيرها العميق عليه. كما هو الحال لدى إيمانويل كانط عندما تأثر بأمه ريجينا رويتر(1697-1737) تأثراً كبيراً، ولا سيما من جهة نزعتها اللاهوتية التقوية Pietism التي عايشها منذ الطفولة.

التقوية حركة بروتستانتية تؤكد على الورع والزهد والبساطة وقبول المرء لحاله في الحياة. وفي الوقت نفسه عدم الاكتراث بالطقوس والشعائر وعدم التعصب لها والتواضع مع الناس. مما أورث كانط مقتاً لشكليات السلوك والمعتقدات. لدرجة أنَّه امتنع - حينما نضجَ شاباً- عن حضور الصلوات العامة في الكنيسة. حيث اعتبرها تُرسخ التدين المزيف في حضور الناس. وأنَّ هناك شيئاً أعمق من ذلك ليس أقله من أن يتدين الشخص بأخلاق كونيه لا تميز بين فردٍ وآخر. هذا الخيط الذي ظل ممتداً في كتابات كانط وصولاً إلى جميع أفكاره التالية.

من ثمَّ ظل كانط يبغضُ غلبة الجانب الديني الظاهري على الجانب العقلي في تعليمه. فهو يكره التعليم بأساليب الجدل الذى لا يتوقف، والمراسم الشكلية، والساعات الطوال في تعليم الشعائر والطقوس المتصلة بها. لدرجة أنه مال إلى التأمل العميق وأن يعيش كونياً أكثر من وجوده في سياق ما. وبهذا دفعته أمه مبكراً لطرح أسئلة حول الاخلاق والمسؤولية والتعقل الحر. لأنَّ الأخلاق هي الصدى البعيد للشعور الأمومي في شخصيتنا الإنسانية. وهي ما أولاها كانط جُلَّ اهتمامه في شكل الواجب المبذول لأي إنسان مهما يكُّن. فالواجب هنا- من جهة كليته وبذله- به جانب أمومي لا يخفى على القارئ[1].
من غير ألقاب أو مساحيق تأتي الأم ُكياناً مكتملاً. هي لا تنتظر شيئاً من أحدٍ لا خاصاً ولا عاماً. كلُّ إنسانٍ ليست له إلاَّ أمُ واحدةٌ فقط هي التي يعرفها وتملأ عليه حياته. بينما قد يكون له أكثر من أبٍ. حيث يقوم النظام الاجتماعي بتلك المهمة لو غاب الأب المادي. فهنالك الأب البيولوجي( الوالد) والأب الروحي( القدوة) والأب المهني( المعلم) والأب العلمي( الاستاذ) والأب بالمصاهرة( الحمى). وحتى كلمة الأم تصبح مشوشة إذا أُضيفت إليها كلمات أو عبارات سواها. لأنَّ الأم كمعنى دوماً فائقة الوصف ineffable، خارج المقارنة، بعيدة عن التماثل. كما لو كانت كياناً روحياً يصعب على اللغة احتواءه والإحاطة به[2]. وإذا حملت كلمة الأم بعض السمات أيا كانت، فليس أقل من مضمونها الإنساني وحسب.
طبيعة الأم دلالياً تنتمي إلى مستوى آخر من التعبير. ليس هو الكلام الاعتيادي إنما أشبه بنص كوني حياتي. إذ تفتح قوس التطلع نحو آفاق الماضي والمستقبل إلى أقصى إمكانية. لأنَّها تمثل الحنين إلى "الرحم البدئي" لكياننا الجنيني الأول. كذلك تمثل اللقاء الدائم بالسكينة طوال الزمن الآتي. فالعودة هنا تأتي من القادم وإليه وليس إلى الماضي فقط على ما تدل كلمة العودة. فدلالتها ليست مجرد لغة أو اشتقاق ألفاظ، إنما تثير العواطف الحانية ومشاعر الانتماء إلى جذورٍ عميقةٍ ما.
إنَّ صرخة الطفل خروجاً من الرحم هي شق الوجود نحو الحياة. ولكنها بمثابة الصرخة المعبرة عن أمانٍ ما كان ليدركُه حتى يفقده إجمالاً. وإذا كان الإنسانُ قد خرج من "رحم بيولوجي" إلى "رحم ثقافي" مثلما نوهت، فالأخير يقوم على الصراع والعنف. بينما الرحم الأمومي هو الملاذ الأول، الحنين، الحلم، الذاكرة الحميمة، الماضي السعيد، الجنة الموعودة. ولذلك يوجد في الرحم الأمومي شيءٌ من الحياة الأبدية التي يتطلع إليها الإنسان في شكل يوتوبيا مؤجلَّة. قد تكون علاقةً مع معشوقة يراها على صورة أمه أو تتسع لتشمل مدينة فاضلة يعيش فيها الحملان بجوار الذئاب ولا خوف. وقد تبدو على صورة الجنة التي ينعم الإنسان فيها بكل الملذات المنتظرة.
الرحم الأمومي هو تجرية الحياة الأصلية. فهذا التكوين الجنيني له علاقة بالنوم الهانئ السعيد، كنوع من التوحد الكامل مع مصدر الاشباع المتواصل لدى الإنسان. حيث كان يغتذي الطفل من الحبل السري دونما عناء. وحيث لن يجد مكاناً سواه يحمله برعاية مطلقة. وهو المدد الذي سيطلبه تباعاً من الإله والقوى فوق الطبيعية. إذ هناك خلال بعض الحضارات القديمة، وجدت عمليات دفن كانت تتم بتكوير جسد الميت على هيئة الأجنة البشرية. في دلالة بكون الارض يجب (أو هكذا أمل) أن تكون أماً حانية على ابنها الميت، وقد تكون إشارة إلى كونه سيخرج إلى حياة أخرى كما تخرج الفسائل من جوف الأرض.
وهذه إجمالاً دلالة تُماثل وضعيةَ التكوين في الرحم الأول. على أساس أنَّ الإنسان القديم – في مجتمعات الهلال الخصيب( دجلة والفرات وسواحل بلاد الشام) - لدية ميل لاعتبار الدفن أشبه بوضع الإنسان في الارحام البيولوجية. وبذات الوقت سيتم ذلك عند الوفاة بأمل خروج الأموات من الأرض مثلما خرجوا من الرحم الأنثوي. وهو ما يُناظر أيضاً بين الأرض وبين الأم على امتداد المعنى. فالاثنتان تعودان إلى الطبيعة في كمونها الخلاق والمبدع. كما أنَّ مدار العودة يجري بأمل الانبات مرة ثانيةً كما تنبت الأشجار والأزهار. وهذا التصور كان لدى أغلب الحضارات التي تعتقد بالحياة الأخرى بعد الموت. وربما تعلَّم الإنسانُ منه الزراعة والبذر والفلاحة. فالبذور أجنة الأرض التي تنبت من التربة نباتات وارفة الظلال.


وحدها الأم تنفرد بالمخاض دون سواها وكأنَّها تنفرد بسمة الخلق الأساسي للكون. لأنَّها لا تُسمى بهذا الاسم إلاَّ من خلال تلك العملية العصيبة، إنها نقطة انطلاق لميلاد مختلفٍ. نقطة بداية لتفتح الكائنات البشرية. ولهذا ارتبطت الأم بالمجتمع ارتباطاً وثيقاً لأن المخاض يضعها في أولوية العلاقات الاجتماعية. هناك احتفاء كبير بالأم بدءاً من الزواج والجنس والحمل والولادة وليس انتهاء بالتربية والمستقبل. هذا على الرغم من المكانة المتدنية للمرأة في المجتمعات على اختلافها. فهي المنسية دوماً وسط صخب الأحداث والمطروحة كمقابل صفري في أية معادلة تجمعها بالآخرين.

وفي المرحلة المبكرة- مرحلة المرآة mirror stage عند جاك لاكان[3]- مع انقذاف الطفل يشعر بالاغتراب معوضاً ذلك برحم الأوهام البديلة. فلكي يعوض احساسه بالتشظي والتفكك يعتني بصورته في المرآة. حيث يتماهى مع كيانها المتخيل. فهي تشكل له قوس الوحدة الجسدية المتكاملة مما يعطيه احساساً بالكمال والنرجسية. ونتيجة شعوره الدائم بفقدان الكيان المتماسك، يجعل الصورة نموذجاً مثالياً ساعياً للتماهي معها. مما يحدد أبعاد الهوية والآخر وعلاقاته بالغير، لأن انفصالاً عن الأم يجر معه اغتراباً عن الأصل.
من جانب أوسع ترجع أهمية الأم إلى راسب الالوهية الكامن في الأمومة. لقد كانت الأم إلهاً ووطناً ووجوداً وحباً مفقوداً. ومن جذوتها الإنسانية كانت هناك ربات الفنون والجمال والأشعار والأمثال. الأنوثة أصل الطبيعة إدهاشاً بالجديد والمثير والطريف والخصيب والمتناسل. ومازالت بعض جذور المجتمعات تنتسب إلى الأم. حيث تبجل الثقافة الجارية الأمومة فوق مما يُتوقع. وتصبح الأم نبعاً ثقافياً صافياً إليه يرجع الفضلُّ في تماسك الأفراد وعلاقاتهم الاجتماعية.
يؤكد كانط المشار إليه سلفاً ضمن رسالته (تأملات في التربية): أنَّ الإنسان بخلاف الحيوانات له إمكانية أن يتكون من هذا المنظور الوالدي. باعتباره المخلوق الوحيد القابل للرعاية والتعهد والتعليم المرتبط بالتكوين bildung. ومن تلك الزاوية يكون: رضيعاً، تلميذا، طالباً.... وفي إطار الانضباط يتحول الإنسان من حالة الطبيعة إلى جانب الانسانية. لأنَّه يخضع في سن مبكرة إلى القوانين داخل الاسرة. ولا يصير كذلك إلاَّ بالتربية. فهو ليس سوى ما تصنع به التربية. والتربية حين تكون سليمة تمثل الينبوع الخالص الذي ينبثق منه كل خير في هذا العالم[4].

ربما العطاء الأمومي أصدق أنواع العطاء، لأنه يجري دون مقابل وحتى من غير انتظار الاعتراف به. وأي عطاء لا يخضع لهذين( المقابل والانتظار) يصبح مطلقاً. فالثقافة تتسع إلى دلالتها، لأن الثقافة قد تغدو أُماً رمزية هي الأخرى. وبالتالي يحق التساؤل إلى أي مدى تحاكي ثقافة الفرد ثقافة الانسانية عبر اجيالها المختلفة؟ يرى كانط أنه بفضل العطاء الأمومي يكون الطفل صافي القلب وتكون نظراته مشرقة كالشمس. وذلك وعد منذ الطفولة لأن تكون إنسانيتنا على قدر التوقعات المأمولة.
إذا أرادت الفلسفة إفساح مجال للأم، فهناك جوانب عدة دائماً في وجودها، ويبدو أن التفلسف وقع في فخ الذكورية( فلسفة القوة). ورغم نقد النزعة الذكورية على يد بيير بورديو وجون ستيوارت مل وسيمون دي بوفوار وجوديث بتلر غير أنها استدارت لتقصي الأم عن مائدة الفلاسفة. ولكن الأم في المقابل حظيت بحفاوة الشعراء والروائيين وأصحابي المذاهب الدينية. وإذا كانت للفلسفة أن تحيي تراثها الأمومي( الفلسفة كأم للمعارف)، فهي أكثر من يعرف عقوق الأبناء بخلاف سواها، لأن الفلسفة كانت يوماً ما أمَّ العلوم! وليس يعرف لوعة انحراف الأبناء غير الأم بالنسبة للأم. فهل بعاطفة أمومية سيكون للفلسفة أن تعيد الاعتبار لأمهات الفلاسفة في شخصية الأم إجمالاً؟!!
_________________________________________​
[1]- أشار كانط إلى أنَّ الطبيعة البشرية لابد أنْ تسعى إلى الخير الأسمى. ولكن هذا الهدف قد يتم على غرار (زوجة الأب لأولاده) نظراً لمعوقات المعرفة والتفكير. معنى ذلك أن علاقة الأمومة علاقة طبيعية وبإمكانها أن ترشدنا إلى مصادر الخير والعمل وفقها لها. وأنَّ الاحساس بها من حيث الأم الأصل أو الأم البديل سيكون له تأثير.










تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى