" الأم هي الحياة حين يختفي كلُّ شيء.."
" كانت الفلسفةُ أُمّاً للعلوم ورغم ذلك تجاهلت وضع الأم كسؤالٍّ بلا إجابةٍ"
ماذا لو طرحنا سؤال الأم بصراحةٍ فلسفيةٍ؟ هل تكشف الأم عن شيء جديد للتفلسف؟ كيف يتم التفكير فيها وما أهم القضايا التي تفرزها؟.. لم يناقش الفلاسفة " مقولة الأم" بشكلٍّ بارزٍ رغم الاهتمام الفلسفي بقضايا أخرى. وهذا الغياب يفسر غَمْط مكانة المرأة كقضية فلسفية جديرة بالمناقشة والحوار. ربما لكونِّ الأم علامة استفهامٍ أكثر من كونِّها موضوعاً. وربما لأنَّها ذات حضور بدهي يسكننا من الداخل دون تفكير فيه. ورغم أنَّ البداهة تلقائية ولا تحتاج تأملاً معقداً، إلاَّ أنَّ تسليماً بحضورها الحميم لا يخلوا من دلالة فلسفية عميقةٍ.
ولماذا نذهب بعيداً، فلم يكن ليوجد أي فيلسوف دون أمٍ بطبيعة الحال، لكن الأكثر أهمية أن وجودها في أفكاره لا تخطئه العين. وكم شكلت الخلفية الإنسانية والكونية من واقع التربية والمجتمع، لأنَّ لحظات تربية الابن لا تفصل الثقافة عن الأم الرؤوم التي توفر رحماً رمزياً لتكوينه وانضاج توجهاته. فلئن تخلَّق الابن جنيناً داخل رحم بيولوجي حمله شُهوراً، فقد نزل إلى حاضنة عامة لا يجانب تأثيرها العميق عليه. كما هو الحال لدى إيمانويل كانط عندما تأثر بأمه ريجينا رويتر(1697-1737) تأثراً كبيراً، ولا سيما من جهة نزعتها اللاهوتية التقوية Pietism التي عايشها منذ الطفولة.
التقوية حركة بروتستانتية تؤكد على الورع والزهد والبساطة وقبول المرء لحاله في الحياة. وفي الوقت نفسه عدم الاكتراث بالطقوس والشعائر وعدم التعصب لها والتواضع مع الناس. مما أورث كانط مقتاً لشكليات السلوك والمعتقدات. لدرجة أنَّه امتنع - حينما نضجَ شاباً- عن حضور الصلوات العامة في الكنيسة. حيث اعتبرها تُرسخ التدين المزيف في حضور الناس. وأنَّ هناك شيئاً أعمق من ذلك ليس أقله من أن يتدين الشخص بأخلاق كونيه لا تميز بين فردٍ وآخر. هذا الخيط الذي ظل ممتداً في كتابات كانط وصولاً إلى جميع أفكاره التالية.
من ثمَّ ظل كانط يبغضُ غلبة الجانب الديني الظاهري على الجانب العقلي في تعليمه. فهو يكره التعليم بأساليب الجدل الذى لا يتوقف، والمراسم الشكلية، والساعات الطوال في تعليم الشعائر والطقوس المتصلة بها. لدرجة أنه مال إلى التأمل العميق وأن يعيش كونياً أكثر من وجوده في سياق ما. وبهذا دفعته أمه مبكراً لطرح أسئلة حول الاخلاق والمسؤولية والتعقل الحر. لأنَّ الأخلاق هي الصدى البعيد للشعور الأمومي في شخصيتنا الإنسانية. وهي ما أولاها كانط جُلَّ اهتمامه في شكل الواجب المبذول لأي إنسان مهما يكُّن. فالواجب هنا- من جهة كليته وبذله- به جانب أمومي لا يخفى على القارئ[1].
من غير ألقاب أو مساحيق تأتي الأم ُكياناً مكتملاً. هي لا تنتظر شيئاً من أحدٍ لا خاصاً ولا عاماً. كلُّ إنسانٍ ليست له إلاَّ أمُ واحدةٌ فقط هي التي يعرفها وتملأ عليه حياته. بينما قد يكون له أكثر من أبٍ. حيث يقوم النظام الاجتماعي بتلك المهمة لو غاب الأب المادي. فهنالك الأب البيولوجي( الوالد) والأب الروحي( القدوة) والأب المهني( المعلم) والأب العلمي( الاستاذ) والأب بالمصاهرة( الحمى). وحتى كلمة الأم تصبح مشوشة إذا أُضيفت إليها كلمات أو عبارات سواها. لأنَّ الأم كمعنى دوماً فائقة الوصف ineffable، خارج المقارنة، بعيدة عن التماثل. كما لو كانت كياناً روحياً يصعب على اللغة احتواءه والإحاطة به[2]. وإذا حملت كلمة الأم بعض السمات أيا كانت، فليس أقل من مضمونها الإنساني وحسب.
وفي المرحلة المبكرة- مرحلة المرآة mirror stage عند جاك لاكان[3]- مع انقذاف الطفل يشعر بالاغتراب معوضاً ذلك برحم الأوهام البديلة. فلكي يعوض احساسه بالتشظي والتفكك يعتني بصورته في المرآة. حيث يتماهى مع كيانها المتخيل. فهي تشكل له قوس الوحدة الجسدية المتكاملة مما يعطيه احساساً بالكمال والنرجسية. ونتيجة شعوره الدائم بفقدان الكيان المتماسك، يجعل الصورة نموذجاً مثالياً ساعياً للتماهي معها. مما يحدد أبعاد الهوية والآخر وعلاقاته بالغير، لأن انفصالاً عن الأم يجر معه اغتراباً عن الأصل.
يؤكد كانط المشار إليه سلفاً ضمن رسالته (تأملات في التربية): أنَّ الإنسان بخلاف الحيوانات له إمكانية أن يتكون من هذا المنظور الوالدي. باعتباره المخلوق الوحيد القابل للرعاية والتعهد والتعليم المرتبط بالتكوين bildung. ومن تلك الزاوية يكون: رضيعاً، تلميذا، طالباً.... وفي إطار الانضباط يتحول الإنسان من حالة الطبيعة إلى جانب الانسانية. لأنَّه يخضع في سن مبكرة إلى القوانين داخل الاسرة. ولا يصير كذلك إلاَّ بالتربية. فهو ليس سوى ما تصنع به التربية. والتربية حين تكون سليمة تمثل الينبوع الخالص الذي ينبثق منه كل خير في هذا العالم[4].
- تبطل دلالة الأم معنىَ السلطة. فإذا كانت الأخيرة بأبرز وجوهها قوةً، فالأم حب بلا عنف. إنَّها قوة الحب الذي يجتذب إليه الإنسان تلقائياً. فأساسه الأمان الذي لا يقف وراء أية سلطة بالمفهوم الجاري. وفي هذا يشير سقراط:" لم أكن لأطمئن إلاَّ وأنا في حِجر أمي". وبخاصة أنَّ كل سلطة تقام على الخوف، الرهبة. لكن حضور الأم يحتضن وجودنا بشكل طفولي بريء. لأنَّ سقراطاً وهو الفيلسوف الأكبر( أب الأثينيين كما كان يلقبه افلاطون) يفضل النوم على مهاده الأول في الحياة. الأب المعلم في تاريخ الفلاسفة يعودُ طفلاً بين أحضان أمه.
- العطاء يتجسد أمومياً في مضمون القلب. ففي بعض المواقف الإنسانية تجاه الأبناء نلتمس الأعذار للام قائلين: إنه " قلب الأم". يقول بلزاك: " قلب الأم هوة عميقة ستجد المغفرةً دائماً في قاعها.. ". الأم كيان حي داخل قلب يتسع للجميع. وليس العكس "قلب داخل هيكل إنسان". فهي تراقب العالم بالعواطف بخلاف الرجل الذي يستحضر طاقة العقل والأدوات والحركة. إن العقل جهاز ذكوري ماكر على الأصالة.
- العطاء الأمومي مصير مفتوح، لأنه لا غاية تقع بالخارج منه، لا شيء سواه بإمكانه أنْ يملأ فراغه. وأي خارج عنه غير مسموح به في تلك الحالة. يراه مارسيل بروست- صاحب رواية البحث عن الزمن المفقود- كنزاً حقيقياً: " كنزي الحقيقي هو أمي". وبالطبع قد يكون الرصيد الفعلي للطفل مجرد ابتسامة، ولكنها ابتسامة تفعل العجائب وتحيل العالم جنة، إذ ذاك يدرك وجودها الرمزي الغني. على غرار قول فرجيل" يعرف الطفل أمه من ابتسامتها".
- الأم ترتبط بالمستقبل. لأنها ترعى أبناءها، ليس لنفسها بل لما هو قادم. إذ تضعهم على طريق الأمل في الغد. لذلك يؤكد شكسبير: " الأم شمعة مقدسة تضيء ليل الحياة بتواضع ورقةٍ...".
والقداسة لدى الأم هو كل شيء، فكرتها وتكوينها وكذلك ارتباطها بمفاهيم الحياة أكثر من أي كائن آخر. ولو لم تكن الأم مقدسة ما كانت لتوجد جميع الكائنات، لأنها تضمن ظهور العالم في صمت الزمن. ومن هنا كانت أشبه بالشمعة التي تذوب لأجل الإضاءة. لن تربح شيئاً، بل كيانها يقول ذلك. وفوق هذا وذاك هي تحتمي في رأي شكسبير بالرقة التي لا نهاية لها.
_________________________________________
[1]- أشار كانط إلى أنَّ الطبيعة البشرية لابد أنْ تسعى إلى الخير الأسمى. ولكن هذا الهدف قد يتم على غرار (زوجة الأب لأولاده) نظراً لمعوقات المعرفة والتفكير. معنى ذلك أن علاقة الأمومة علاقة طبيعية وبإمكانها أن ترشدنا إلى مصادر الخير والعمل وفقها لها. وأنَّ الاحساس بها من حيث الأم الأصل أو الأم البديل سيكون له تأثير.