عبد السلام بنعبد العالي - الشائعة التقليدية والشائعة الحديثة

من السّمات التي كانت تميّز الشائعة عن الخبر حتى وقت قريب، هو أن الشائعة لم تكن في حاجة إلى «وسائط» كي تتناقل. فإذا كان الخبر في حاجة إلى وسائط لبثه وإلى حوامل تنقله، فإن الشائعة «لم يكن لها حامل». كانت الشائعة تتناقل من غير أن تُنقل. من هذه الزاوية يبدو استعمال تويتر
لا يمكن أن ننكر في البداية أنه سهّل ذيوعها ووسَّع مجال انتشارها. وحتى عندما يفسح المجال «للضحية» بإمكانية الردّ على الشائعة للحدّ من مفعولها، وحتى تكذيبها، فإنه لا يعمل إلا على أن يزيد من حدة ذلك الذيوع، علماً بأن تكذيب الشائعة هو دوماً مساهمة في نشرها.
اختلاف آخر بين الشائعة «التقليدية» وهاته التي تنتشر في عصر فيسبوك: ففيما سبق لم يكن بالإمكان تحديد مصدر الشائعة ولا حتى التساؤل بشأنه. ذلك أن الشائعة لم تكن تُنقل عن مصدر معيّن. وهي كانت تؤخذ على أنها من باب «ما يُقال»، وليس ما صرَّح به مصدر بعينه. كان يُنظر إلى الشائعة كأنما تتولد عن ذاتها، لم تكن تعتبر «إشاعة» من ورائها فاعل، وإنما «شائعة» مستغنية عن كل ذات فاعلة. لم تكن كالخبر الذي يُعرف مصدره، أو على الأقل يُسأل عن مصدره، وعما إذا كان موثوقاً به أمْ لا؟ فتقاس أهميته وصحته بذلك المصدر. إذا كنا اليوم لا نستطيع دائماً أن «نضبط» مصدر الشائعة، إلا أننا قد نتمكن من متابعة تسلسل التناقل لكي نقف على مصدر. وليس المهم ما إذا كنا نتوَفّق دوماً في ذلك، المهم أن هوس المصدر، والتساؤل بصدده، صار ملازماً لذيوع الشائعات.
وعلى رغم ذلك فإن الأمر لم ينل من «وظيفة» الشائعة. فقد ظلت أهميتها تكمن لا في من وما صدرت عنه، ولا في ما تخبر به وعنه، وإنما في الصّدى الذي يَعقب انتشارها. فهي لا تَسْتَمد قوتها من قوة ما تقوله، وإنما من كونها تنتمي إلى فضاء كل ما يقال فيه قد سبق قوله، وسيستمر، ولن ينفك يُقال. ما يهم هو ما يتولد عن ذيوعها من ردود أفعال. لا زالت الشائعات بمفعولاتها. وهي ما زالت أداة إخبار تجس نبض من تذيع بينهم، فتخبر، لا عن أحوالهم، وإنما عن أحلامهم وتطلعاتهم. لذا فهي دوماً السلاح القويّ للساسة، بإمكانها أن تعلي من شأن بعضهم، إلا أنها قد تعمل على «تدمير» آخرين.
لا نستطيع إذاً أن نزعم أن الوسائط الجديدة قد غيّرت من بنية الشائعة في هذا المضمار، فهي لم تُعْلِ من مضمونها، ولم تنزّلها منزلة الصواب أو الخطأ. كل ما يمكن أن نؤكده أنها زادت من قوة مفعولها بما غدت تيسّره من إمكانية الذيوع والانتشار، وبما تسمح به من إمكانية نقلها، لا في صورة اللغة والكلام وحدهما، وإنما باستعمال الصّور والفيديوهات، مع ما يتيحه ذلك من قدرة على التركيب والتوْليف والفبركة والمونتاج، و«التشبّه» بالواقع الفعلي.
على هذا النحو يمكننا أن نقول إن الوسائط الجديدة زادت من خصوبة الشائعات وقدرتها على التوليد والتوالد، صحيح أن الشائعة كانت دوماً تتميز بخصوبتها عن جفاف الخبر، إلا أن تلك الخصوبة كانت محدودة سواء في مفعولها أو في توليدها. أما اليوم فإن الشائعات تكبر، وتتجسد في صور، كلما انتقلت وتناقلت، كأنها كرة ثلج تتدحرج على الشبكة فيزداد «تضخيمها» و«توثيقها».
فضلاً عن هذا، فإن الوسائط الجديدة قد غيّرت من زمن الشائعة بأن مددت عمرها. ذلك أن الشائعة إن لم تكن تموت وتمّحي، فقد كانت تخفت ويتضاءل مفعولها، أما اليوم فإن الوسائط تُمَكن من تخزينها، وبالتالي من إنعاشها متى سنحت الفرصة واقتضت الضرورة أن تسهم الشائعة لا في الإخبار عن الواقع، وإنما في المساهمة في تشكيله وتوجيهه، وربما حتى في صنعه.



* مجلة الدوحة

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى