عبد الفتاح كيليطو - اللسـان المفلــوق.. ت: إسماعيل أزيات

لا أتخيّلني أكتب في اللغة الدّارجة التي أتكلّمها . ما إن أمسك بالريشة ، ما إن أكن أمام الورقة البيضاء ، تفرض العربية الكلاسيكية نفسها عليّ و معها الأدب . تحرير رسالة ، و هو، مع ذلك ، فعل يوميّ ، عادي ، يجعلني مسبقا ، و بكيفية ماكرة ، أستقرّ في المؤسسة الأدبية . عليّ أن أستخدم نماذج ، إنشاءات تأتيني مباشرة من النصوص الأدبية ، و في المقام الأول من النصوص الملقنّة في المدرسة ؛ عليّ أن أختار معجما ، أسلوبا ، نبرة ، كلّها أبعد ما تكون عن طريقتي في الكلام ؛ عليّ أن أبذل جهدا ، أن أتردّد بين صيغ مختلفة ، أن أراجع القاموس ، أن أمحو ، أن أبدأ من جديد . هكذا تؤول العربية الكلاسيكية إلى المكتوب ؛ إنّها تعني لي أيضا إنفاقا كبيرا للجهد .

لمّا أتكلّم ، تسيل الكلمات من النّبع ، دارجتي تتدفق في الحال ، مألوفة ، عفوية و في وفاق تام مع العالم الذي يتهيّأ لي أنّي تملّكته منذ الولادة ، دون أن يكون لي أن أتعلّمه تدريجيا . لا أتساءل أبدا إذا ما كنت أتكلّم بشكل صحيح ، لا يمكنني أن أتكلّم إلاّ بشكل صحيح ، ليس ثمّة ذرّة من شكّ بهذا الخصوص . ليس الأمر كذلك حين أتكلّم العربية الكلاسيكية ، هذا ما لا يقع لي في الواقع إلا نادرا جدّا . إنّها تجربة أخشاها و أتجنّبها إلى الحدّ الأقصى . عمليّا ، لا أتكلّم العربية الفصيحة إلاّ في مناسبتين ، في النّدوات و المؤتمرات أو حين تسمح لي الصدفة بملاقاة عربيّ من الشرق الأوسط . مُحادثي ، في الحالة الأخيرة ، لا يتكلّم إلاّ لهجته ، يبدو له هذا الأمر طبيعيا تماما ، في حين أجدني مضطرّا أن أحدّثه بالفصحى ، مروءة ، خجلا ، رغبة في أن أكون مفهوما أو اهتماما بإنهاء المحادثة سريعا . في الندوات و المؤتمرات ، عليّ أن أحترس ، أن أحرص على عدم اقتراف أخطاء نحوية . الويل لي إذا ما أخطأت في استعمال الحركات الإعرابية . طبعا ، لا أحد سيؤاخذني على ذلك ، على الأقل في حضوري ، غير أنّي أحسّ ، في ارتباك ، أنّ خطأ في التحريك أو الإعراب كفيل بتقويض مصداقية خطابي . و أنا أتكلّم إذن ، أقوم باستدعاء نتف من علم النحو الذي تمّ تلقينه في المدرسة ، أصير تلميذا من جديد يتمرّن على تأليف جمل تبعا للنماذج المدوّنة على السبورة . المعلّم حاضر ، المسطرة في اليد .

قلْ ، لا تقلْ : في نطاق هذا الأمر ، تتراءى لي العربية الكلاسيكية . يجب عليّ ، في الجوّ الرّسمي للندوة أو المؤتمر ، و في جزء من الثانية ، أن أبتّ في لاحقة كلمة ما . و أنا في خضمّ البحث عن الشكل الصحيح ، أحسّني مراقبا ، مُترصّدا . أراقب نفسي أنا أيضا . لست في بيتي إطلاقا ، أنا آخر . أستمرّ في الكلام ، في الواقع أستمرّ في القراءة ، لأنّه حين يتعلّق الأمر بالعربية الكلاسيكية ، لا نتكلّم بل نقرأ ، حتّى و إن لم يكن تحت الأعين نص ، حتّى و إن تمّ الإرتجال . أتكلّم ، لكنّ الحروف ، الكلمات ، الجمل موجودة هنا قبلا ، تتتابع على شريط تخيّلي أملكه أنا وحدي و كلامي يعيد إنتاجه . ما أقوله و مهما كان مؤلّفا على التوّ و دون إعداد ، يتوالى أمام عينيّ ، نص مكتوب مسبقا ، حرف يسبق كلّ صوت ، كلّ حركة للشفتين و اللسان . يجب تكرار القول إنّ العربية الفصيحة ملازمة للمكتوب ، إنّها المكتوب في كلّ جلاله . في المدرسة القرآنية ، نحفظ كلام الله و نحن نكتبه اوّلا بأوّل على اللوح .
العربية الدارجة لا تُكتب . لا وجود لأيّ نص يرافق كلامي . يحدث لي ، بالتأكيد ، و أنا أقرأ في جريدة ، أن أعثر على تعبير دارج ، على مثل ، على شذرة من أغنية ، لكن عليّ أن أهتمّ حتى أقبض على المعنى . يتولّد عندي ، حينئذ ، انطباع أنّي أتهجّى لغة أجنبية . تصبح اللغة الدارجة التي هي جدّ مألوفة عندي ذات غرابة مقلقة ، حالما تُكتب . هذا الأمر يُفسّر بغياب التعوّد مثلما بالحكم المسبق البالي الذي يعزو إلى اللغة الدارجة مكانة ثانوية ، تابعة ، لا تُعتبر إلاّ تحريفا للغة العربية خالصة الجذور . يُقال أحيانا إنّ اللغة الدارجة نتاج الكسل ، الجهل ، الخلط ، اللّبس ؛ هي ، بعبارة أخرى ، أثر فساد البشر و مكر التاريخ . ظاهرة طفيلية ، تنمو على حساب اللغة الأصلية ، تبحث ، باحتيال ، على اغتصاب حظوة لا تستحقها . إذا لم يتم الحذر منها ، توشك أن تخنق اللغة ـ الأمّ ، أن تضيف إلى لائحة سيّئاتها تهمة قاتلة أمّ مرعبة . يتمّ تقبّلها في الأحاديث و المبادلات اليومية ( لا يمكن فعل خلاف ذلك في الواقع ) ، إلاّ أنّها لا يُنعم عليها بشرف الكتابة ، بشرف الأدب . لا يمكن ، بعد كلّ شيء ، التوجّه إلى تدريس النصوص الدارجة في المدرسة ، لا يمكن ، بعد كلّ شيء ، مطالبة التلاميذ بإنجاز إنشاءات مستنسخة عن طريقتهم في الكلام !

عليّ أن أعترف أنّي لم أتخلّص تماما من هذا الحكم المسبق ، بدليل السّخط الذي أستشعره حين أتبيّن ، و أنا أقرأ روايات إحسان عبد القدوس أو الطيب الصالح ، أنّ الشخصيات تتكلم اللهجتين المصرية أو السودانية . السرد و الوصف مكتوبان في لغة عربية صافية ، عذبة ، و الحوار في لسان لا أفهمه و هو، لهذا السبب ، يبدو لي غريبا . أحسّني عندئذ محبطا ، كما لو أنّ بين أيدينا كتابا انتُزعت منه بضع ورقاته .

تقدير الجرعة من الفصحى و الدّارجة هو أبلغ معضل يطرح نفسه على الكاتب العربي . إنّه ، و الحق يقال ، ليس بمشكل جديد . حتى أنّ الجاحظ في القرن التاسع الميلادي كتب في كتاب البخلاء « و إن وجدتم في هذا الكتاب لحنا ، أو كلاما غير معرب ، و لفظا معدولا عن جهته فاعلموا أنّا إنّما تركنا ذلك لأنّ الإعراب يبغض هذا الباب ، و يخرجه من حدّه « . المسألة تأخذ أبعادا مدوّخة حين يكتب الكاتب العربي باللغة الفرنسية ...

مثل العربية ، و إن أكثر ، كانت اللغة الفرنسية بالنسبة إليّ متّصلة بالمدرسة ، بالمكتوب ، بالأدب . كانت بالنسبة إليّ أيضا مرتبطة بشكل لا فكاك منه بالصّورة . و هذا كان أمرا عجيبا ( منذ أربعين سنة ، كانت الصّورة نادرة ، إن لم تكن عديمة الوجود وسط الأسر المغربية ) . بدراسة هذه اللغة ، كنت أتلقى سيلا من الصّور . اليوم الذي عرض لنا فيه الأستاذ مسيو Adnet شريط le Roman de Renard ، كان يوما مشهودا . ثعابين البحر ، الذئب Ysengrin ، الثعلب Goupil و زوجته Hermeline : عالم سحري انبثق من ظلمة القسم . فيما بعد « اكتشفت « القصص المرسومة و الشخصيات ذات الإسم الرنّان و العدواني : كيت كارسون ، بليك لوروك ، ميكي لورنجي ، تكس ويلير . قرأت فيما بعد فينيمور كوبر و جيمس أوليفر كيروود . قارة جديدة تنكشف أمام عينيّ الدّهشتين و ك « كولمبوس صغير « وضعتُ قدمي على أرض بقدر ما هي مباركة ، لم تكن موعودة . بفضل اللغة الفرنسية ، عرض الأدب الأمريكي عليّ نفسه في شكل غابات ، براري ، بحيرات و شلالات . ترعرعتُ وسط الصيادين بالفخاخ ، وسط الذئاب ، الدّببة ، وسط الموهيكان و الوونغاس . فتحت لي اللغة الفرنسية عالما من التخيّل ، من الحلم ، من المتعة .

كنت أقرأ بكثرة في لغة لا أتكلّمها ، في وسعي ، بالكاد ، أن أتمتمها ( اللغة الفرنسية المحكية أوالمنطوقة كانت مجهولة تماما بالنسبة إليّ ) ؛ علاوة على أنّ نطقي أعاقه « عيب « ( ما زال مستمرا ) : نطق R كما تنطق الرّاء ، كنت عاجزا على لثغ الرّاء الباريسي . فونيم ، مجرّد فونيم سيرجعني دوما إلى لغتي الأصلية ، إلى أصولي . في « الكتابة و التناسخ « ، تحدّثت طويلا عن متكلم من القرن السابع الميلادي ، واصل بن عطاء الذي لم يكن في مقدوره و بسبب أصله غير العربي أن يتلفظ الرّاء دون لثغة .

كنت أقرأ ، و بالموازاة مع العالم التخيّلي الذي تعرضه كلّ حكاية ، تنبثق عوالم أخرى كنت أنشئها في شكل سناريوهات متخيّلة . كنت أمنح أوصافا أخرى للشخصيات ، أتخيّل مجرى آخر للأحداث ، نهاية أخرى للقصة . بحلولي محلّ الكاتب ، كنت أجري على عمله عمليات معقدة ، أخضعه لإرغامات جديدة ، باختصار ، كنت أرغب في إعادة كتابته . هذه الرغبة كانت في البداية مشوشة قوّة و فعلا ؛ الإمكانية الوحيدة المتاحة كانت الإنشاء المدرسي . لكن أتى اليوم الذي استشففت فيه احتمال إعادة الكتابة بحرية بعيدا عن تمرين الإنشاء و القصص التي أطالعها . حدث هذا عندما قرّرتُ أن أصير كاتبا ، ليس دون ذعر ، ليس دون إحساس بالإثم جليّ . لم أحادث أحدا بهذا الأمر ، مثل دون كيخوطي ، كمّا نتذكّر ، قام بخرجته الأولى « دون أن يطلع الرّوح التي تحيا في السرّ بنيّته « . عزمتُ فعلا أن أصير كاتبا في النّطاق الدّقيق الذي صمّم فيه دون كيخوطي أن يصير فارسا جوّالا . الجنون الذي قاد الفارس ذا الطلعة الحزينة إلى محاكاة أماديس دو غولا ، ألهمني الرغبة في محاكاة فينيمور كوبر .

دون كيخوطيتي استمرّت عدّة سنوات ، سوّدت خلالها ، في كتمان مطبق ، كمية كبيرة من الأوراق . ستتوقف أو بالأحرى ستأخذ مجرى آخر يوم أن قرأت في جريدة ( أو في مجلة ؟ ) دفاعا و تشريفا للغة العربية . كاتب المقال ذهِل من أنّ المغاربة يكتبون باللغة الفرنسية . في الشروط الصعبة للحماية ، كان لهم بلاريب عذر ، لكن بعد الاستقلال ، لم تعد هناك أية حجّة : أن تكتب في لغة أخرى غير العربية ، لا يمكن أن يكون إلاّ شكلا من أشكال الاستيلاب .
هذا المقال بلبلني . ما كنت أكتبه ( باللغة الفرنسية ) أصبح مقصى مسبقا . لأوّل مرّة أدركتُ ، و إن بغير وضوح ، تاريخية الأدب ، اندراج الأعمال الأدبية في لغة ، في عصر ، في مجتمع ، في نوع ، في ذهنية ، في طبع أو مزاج . إلى ذلك الوقت ، كان الأدب يبدو لي فوق الزمان و المكان ، يتجسّد ، تتابعيا ، في مؤلّفين ، الاختلافات بينهم عارضة .

كنت « مستلبا « . هذه الكلمة التي برزت في النقد الأدبي ، لم أكن أدرك معناها ، كنت أتلقاها كقدح أو إهانة ، كانت تعدني بالاستيلاب الذهني و بالانزواء النفسي ... و بكيفية غير متوقعة ، المقال الذي أتيت على ذكره ، بقدر ما أرعبني ، حرّرني . كنتُ أقول مع نفسي ، إذا ما كتبت باللغة العربية ، لن يكون لديّ أيّ سبب للاحساس بالإثم ، بانعدام الجدارة ، لن أكون مضطرّا لإخفاء كتاباتي ، سأنخرط في تيار عمومي و سأكون مدفوعا بحماسة التضامن . لن تعود الكتابة مجرّد متعة ، و لكن أيضا علامة امتنان تجاه الماضي ، إعلاء للإرث ، دليل وفاء . عندئذ شرعت في الكتابة باللغة العربية .

كلّ هذا حدث منذ أزيد من ثلاثين سنة .

جزم الجاحظ أنّ كاتبا لا يمكنه أن يبرع في لغتين ، أنّ التقدّم الملاحظ في الأولى يتمّ بإدخال الضرر على الأخرى ، بعبارة ثانية ، إنّ مزدوج اللغة لا يملك من اللغتين إلاّ نصفهما ؛ بمعنى أنّه لا يتمكّن و لا يسيطر على أيّة واحدة منهما . سواء كتب باللغة العربية أو باللغة الفرنسية ، فهو يعاني من فجوة ، من نقصان ، من شعور بالنّقص . و يخسر في النهاية على الجانبين . الجاحظ لا يعرف إلاّ العربية ، لم يكن في حاجة إلى لغة أخرى ليرضي فضوله الأدبي و العلمي فائق الحدّ . لكن الصّحيح أيضا أنّ المؤلفيْن اللذين يحظيا بإعجابه أكثر ، الشاعر أبا نواس و الناثر ابن المقفع ، كانا من ذوي اللسانين .

حواش : ( من وضع المترجم )

* الجاحظ ، كتاب البخلاء ، تحقيق طه الحاجري ، القاهرة ، دار المعارف ، 1971 ، ص : 40 .
* لم يكن واصل بن عطاء يستطيع نطق حرف الرّاء ، كان ينطقه غينا ، و هو ما دفعه إلى حذفه من كلّ خطبه . انظر لمزيد من التفصيل عبد الفتاح كيليطو ، الكتابة و التناسخ ، ترجمة عبد السلام بنعبد العالي ، المركزالثقافي العربي ، ط 1985 ، ص 107 .
* Roman de Renard مجموعة من المحكيات الفرنسية من القرون الوسطى ( القرنين الثاني عشر و الثالث عشر ) ، أبطالها حيوانات يتصرفون كآدميين .
* Kit Carson 1809 _ 1868 من رواد حملات الغزو و التوسّع في الغرب الأمريكي ، تحولت مغامراته إلى قصص مرسومة .
* Tex Willer, Miki le Ranger , Bleck le Roc أبطال قصص مرسومة إيطالية المنشأ ، عرفت النور على التوالي 1948 ، 1951 ، 1954 .
* Fenimore Cooper 1789 _ 1851 روائي أمريكي ، من رواياته المشهورة « آخر الموهيكان « Le dernier des Mohicans 1826 ، و المقصود بهذا « الآخر» وونغاس Woongas ، و الموهيكان قبيلة من قبائل الهنود الحمر تعني « شعب النهر العظيم « .
*James Oliver Curwood 1878 _ 1927 روائي أمريكي من رواياته « المصيدة الذهبية « ...
المرجع : Revue de monde musulman et de la Méditerraneé , 1993 , N? 70 , PP : 71 _ 75

9/4/2010
العلم الثقافي السبت 10 أبريل 2010

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى