محمد فيض خالد - جدي السّيد.. قصة قصيرة

ترمقه العيون بإجلالٍ في نومتهِ أمام عتبةِ الدّار، لا يجرؤ على إثارته أحدًا مهما كان ، لاتمتد نحوه الأيدي بسوءٍ حتى وإن كان البادي بالعدوانِ ، يمخّطر يجوب الشّوارع ، أو مُندسّا بين الأزقةِ الضيّقة ، يحكّ جسمه المكتنز باللّحمِ بالحوائطِ ، وصلصةً عالية تصدر من شعرهِ الطّويل المبروم ، الذي تعلّق فيه بعره اليابس منذ أمدٍ ، يتنقل مختالا في الأرجاءِ ، ما إن يقتحم عتبة بابٍ مفتوح ، فيهوي على أطباقِ الخبز ، أو يغافل اصحاب الدّار فيتسلل ناحية أجولةِ الغلة ، يخمشها بظفرهِ الحاد ، ليملأ بطنه حتى كفايتهِ ، ثم ينصرف بسلامٍ ، تشيّعه العيون بالغيظِ ، وتطفح الصّدور بالكُرهِ ، لكن أحدًا لا يمكنه البوّح بمشاعرهِ ؛ وإلّا حلّت على البيتِ وأهله نقمة السّيد ، وباء الجميع بوزرٍ ينذر بخرابِ البيّت ، ومع كُلّ يومٍ يكبر ويسمن ، تطول قرونه لتصبح ملتوية تصاهي تلك التي تحملها رؤوس الجاموس ، وعينيه الواسعتان وحمرتهما ، يقدّح منهما شرر النارِ حال مشاكستهِ أو مصارعتهِ ، تراه مندفعا خلف خصمهِ بقوةٍ وبأس شديدين، يهدر بصوتٍ مخيف وكأنّه سبع من السّباعِ الضّارية ، لا يترك طريده إلا أن يلوذ بأحدِ البيوت ويوصد من خلفهِ بابه ، رأيناه أكثر من مرةٍ ، يرقد أمام الأبوابِ في انتظارِ خروج غريمه ، ينهض مرات يُضرب الأرض بحافرهِ المدبب ، ثم يشمّ بمنخارهِ الواسع خشبه ، تتعالى مأمأته ، يعاود الحفر ثم يعدل على البابِ ينطحه فتهتز ألواحه في ثورةٍ عارمة ، بعدها ينصرف عن المكانِ حال نفاد صبره ، يشيّع الباب بنظراته المترقبة ، وكأنّه يتوّعد المختبئ من خلفِ الجدران .
شاع اسمه بين النّاس وحظي بشهرةٍ واسعة ، عرفه النّاس " جدي السّيد" حتى الآن لا نعرف من هذا السيّد ، ربّما أحد الأولياء الصالحين ، نذر هذا المدلّل له منذ كان صغيرا يجري خلف أمهِ، اختير بعنايةٍ وحرص من بين إخوتهِ ، عزل بعيدا عنهم ليتلقى عناية خاصة يرعاه الجميع ، ما إن يأخذ كفايته من ضرعِ أمهِ ، حتى تحمله ربّة البيت بين ذراعيها برفقٍ ، وهي تكرر في خشوعٍ البسملة ، والمعوزين ، وتردد ما تيسّر لها من أدعيةٍ ، ثم تنساب في وصلةٍ طويلة ٍ من الصّلاة على النبي ، وتختم بالترضي على آلِ البيتِ الأطهار ، والصّحب الأخيار ، وتنتهي بالسّادةِ من الأولياء الصّالحين من عبادِ الله الذين خصّهم بالكرامةِ ، تدع الله أن يجعلها وزوجها وأولادها في معيّتهم وفي حرزٍ مكين عن الإنسِ والجان.
يعتقد أهل البيت أنّه مصدر البركة ، اضفوا عليهِ طابعا قُدسيا ، تعاملوا معه كقديسٍ يأتمروا بأمرهِ ، ويلبّوا رغباتهِ دون تواني ، كبر وكبر معه اللّقب " جدي السّيد " اكسبه لقبه صبغة من الوقار ِ والمهابة ، ما ادخل الغرور في نفسهِ، فتاه وبالغ في عدوانهِ وشراستهِ التي لم يسلم منها أحد ، تراه حين يُصارِع اعتى الرجال في شبهِ مبارزةٍ بين خصمين متكافئين ، أجاد بمرورِ الوقت فنون القتال و المراوغة ، يتراجع للوراءِ خطواتٍ ، ثم يقبل مندفعا وهو " يبلبل" في عنفوانٍ بصوتٍ غليظ ، لا يملك خصمه عندها ؛ إلا أن يتحاشى نطحته القوية المسدّدة بيدهِ ، وابتسامة تغرق شفتيهِ رغم الألم ، لا يمكن أن يؤذيه مهما حصل ، بعد أن ايقن كغيره من أهلِ القرية ، من أن في الحاق الضرر " يجدي السّيد" مهلكة لصاحبها وأهل بيته ، يستحضر الناس حكاية " عرفة " الحلاق لا تزال حاضرة في الأذهانِ ، حين أقدم منذ سنين طوال على جريمةٍ شنعاء يتردد صداها ، حيث اغرى " جدي السّيد " وادخله داره واغلق عليهِ الباب ، ثم قيّده بعد أن كمّمه بخرقةِ قماشٍ ، وتحت جنح الظلام خرج بهِ إلى السّوقِ وباعه ، فعاجلته الاسقام في الحالِ ، لم تتركه إلا جثةً هامدة .
يمرّ من أمامِ المصاطبِ ، فترمقه العيون بحذرٍ شديد ، يعتبرونه نذير شؤومٍ يطوف بهم، يتمنّوا وقتئذٍ لو تنزل بهِ نازلة فتهلكه ، أو يرحل بشرهِ عنهم.
تُعقد لأجلهِ جلسات ، يجتمع رب البيت بأهلهِ ، وتبدأ المشورة ، فموعد النذر قد اقترب ، ولابدّ من اتفاقٍ، من سيكون في صحبةِ " جدي السّيد" دائما ما يكون الحظ حليف أصغرِ الأبناء ، فاصطحابه فأل حسن ، وبشرى خير أن يبدأ حياته بهذهِ الرّحلة الميمونة ، مرافقا " جدي السيد " فيطوف الأعتاب ويجوب مراقد الصّالحين ، وفي الأسبوعِ الأخيرِ من أيّامِ النّذرِ ، تجعل الأم من ابنها الصّغير " كلافا" للجدي ، يقدِّم له طعامه وشرابه ، وحارسا يرافقه خطوة بخطوة ، يهشّ عنه الصّغار ، ويدفع عنه أذى الحيوانات السّابلة.
وفي مساءِ اليوم الأخير تبدأ الزوجة في تحضير ما يلزم الرحلة ، من زادٍ وألبسةٍ تكفي المسافرين ، وبعد العشاء تمتلئ الدّار بجموعِ المهنئين ، ممن وفدوا للسّلامِ ، يحمّلون أصحاب النّذر من أماناتهم ، بالدّعاءِ وقراءة الفاتحة عند المقاماتِ والمشاهدِ، وقد تحمّلهم امرأة في عشمٍ " طرحة " ابنتها العانس ، التي فاتها قطار الخُطاب ، أو جلباب زوجها المريض ، أو ابنها الأبكم ، أو حتى رسن بقرتها التي يسقط جنينها قبل أن يكتمل ، فهناك ولاشك تحصل البركة .
تنتهي المراسم ويذهب الجميع للنوم ِ ومع تباشيرِ الصّباح ، وبينما تشقق خيوط الشمس الحُجب ، يتعالى الصياح ، " فجدي السّيد " غير موجود ، بحثوا عنه في كُلّ مكانٍ ، لم يرجع عند المساءِ ، تخيب الآمال ويحل ّ التشاؤم ، والحقيقة أن " جدي السّيد " ذهب ولن يعود ، بعد أن ترك اللصوص لاصحابهِ أن يسمّنوه ، ثم اجهزوا عليهِ في الوقتِ المناسب ، وتلك نفحة من نفحاتِ السّيد ، وحكاية تتكرر مع " جدي السّيد" .
الشّحات
بقلم : محمد فيض خالد
ألفت الدّروبِ خطوات حماره العالي السّريع ، ونهيقه الذي لا ينقطع ، لا يرى إلا رديفا لابنهِ الوحيد ، يتفلّت مُسرِعا كالسّهمِ بوجههِ العابس الذي داعبت التّجاعيد حُمرته ، وشاربه الفضي بحوافهِ المدببة ، وجلبابهِ الأزرق الذي بهت ما بين كتفيهِ العراض ، يُلقي تحايا الصّباح في عجلٍ ، على النّساءِ الجالسات أمام الأعتابِ ، أو السلامِ الحار على الرِّجالِ الذين اتخذوا ظهور
المصاطب ، ونواصي الشوارع والأزقة مجلسا ، عجبا لهذا الضّرير كاسف البال ، كيف له أن يميّز أصوات النّاس من حولهِ ، بل أنّى له أن يستبين مواضع أعتاب بيوتهم حين مرورهِ ، يهزّ رأسه الكبير المُثقل بعمامتهِ العريضة ، التي حزّم فوقها ملاحف صوف منوّعة ، يلوّح بيدهِ يمينا وشمالا : صباح الخير يا أم شحاته ..عوافي يا أم ربيع ... فين أبوك يا واد يا مصطفى .
اعتادَ الناس منه هذه المهارة ، حتى أن أحدًا بات لا ينكرها عليه .
يخرج الرجل مع ابنهِ إلى ساحةِ العيش عند كُلّ صباحٍ ، يأتي العزبة قادما من قريةٍ قريبةٍ ، في توقيتٍ لا يُخطئه ، يُلازمه ابنه " الشّحات " هكذا سماه ، دائما ما يقول للناسِ: سميته شحات علشان أنا شحته من ربنا شحاته .
لا يزال الناس في العزبةِ يستذكرون أيامًا طويلة مضت ، كان فيها عنوانا للفتوةِ ، شابا ينضح بالصّحةِ والعافية ، قبل أن يجني عليهِ الزّمان جنايته ، فيسلب منه نور عينيهِ ، ويوكله " للشحات" ، شابا تزحزح عن العشرين قليلا ، ورث عن أبيهِ صفاته ، موفور الصّحة سليم البنية ، ترى أثر قوته في وجههِ الأحمر الذي يظهر كالجمر ِ، من تحتِ عمامةٍ خضراء كوّرها دون مبالاةٍ فوق رأسهِ، وجلبابه السّميك المتّسخ دائما ، بصنوفِ الأوساخِ والدهون ، عُرِفَ عنه حيويته التي جعلته يدبّ عتيا ، لا يبالي تحت أثقلِ الأحمالِ من أجولةِ القمح والذرة ، تحوّل إلى أيقونةٍ للتحملِ والصّلابةِ والصّبر ، ناهيك عن بأسهِ الشديد الذي جعل َ منه كائنا من طرازٍ فريد ، لا يعبأ مُطلقا لحرٍ أو برد ، تراه طوال العامِ سائرا وياقة جِلبابهِ مفتوحة ، وشعرات صدره العريض ناشبة بلونها الأشّهب الأخاذ ، يجرَ نعله الأسود الثقيل الذي لا يغيّره أبدا ، بل ولا يخلعه عن قدمهِ مهما حصل .
يتابعه والده الضّرير بكلامهِ المُثقل بالوجعِ والألم : يا خسارة يا شحات .. الحلو ميكملش أبدا .. صحة طور.. وعقل عيل.
تتعالى ضحكات " الشحات " في عفويةٍ ، حين يهمّ بحملِ جوال الغلة فوق ظهرهِ العريض ، تتطاير ضحكاته الطفولية الصارخة ، ثم يُردد أعانيه تلك التي تعوّد الحمّالون تِردادها ، لكنّ الرجل المكلوم ، يعاود صمته ، وكأنّما يسمع صدى كلامه بين ضلوعهِ ، يغمض عينيه ، ثم تنساب ابتسامة باهتة هزيلة سرعان ما تتكسّر على شفتيهِ ، يلهب قلبه المشتت اللّوع ، وصوت يردد في أعماقهِ: وماذا يفيدك لو اغمضت عينيك أيّها البائس الحزين ، فوجودهما والعدم سواء ، يُحرّك الشّيخ عندها عصاه في استسلام ٍ من حولهِ ، ويبدأ في صياحهِ : شحات .. يا شحات .. عملت إيه عايزين نروح قبل العتمة.
يعود إليهِ صاحبنا وفي يدهِ كسرة خبزٍ يابسة يقضمها في حنقٍ ضجرا ، على ما يبدو أنّ صياحه ، حال بينه وبين طعامٍ شهي ، تعطّفت عليهِ إحدى نساء الزّقاق ، فقدّمته إليهِ في سخاءٍ رأفة لحالهِ.
تُساور الرجل الشّكوك ، وتتخطّفه الأوهام دائما ، تتمايل على سحنتهِ المنقبضة أشباح الأحزان ، ينبئ كلامه عن انسحاقِ قلبه الذي لا ينفك عن كآبةٍ تُعانقه ، فهذا المسكين ما تبقى له من حُطامِ الدّنيا ، بعد أن ودّعته أمه ، التي اكلتها النيران في حريقٍ التهمها وثروته ، وأخذ منه بصره ، وتركه هملا ليبقى جسدا بلا روح، إنّه بحاجةٍ لمن يحرسه من نفسهِ أولا ، ومن المتربصين بهِ ، كثيرا ما راودته خيالات فاسدة ، تضمحل أمامه بمجئ الصّباح ، جعل ضلوعه له قفصا ومهجته عشا ، لكن أنّى له أن يهنأ بحياةٍ ، وهو لا يبصر ما يدور من حولهِ ، إن ما يخشاه أن يسقط ابنه المسكين في مصيدةِ الغواية ، التي قد تنصبها بعض معدمات الضّمير ، فالفتى صيدا سهلا ، والايقاع بهِ أسهل ما يكون ، خاصة بعد أن تفجّرت منه ينابيع الفتوة والشباب ، كما أن في ضعف عقله وقلة إدراكه فرصة لا تُعوّض ، كأن الرجل يعرف من نساءِ القرية اللّعوب التي تفعل هذا ، فهو لايزال يستحضر تلك المرأة التي اهرق على قدميها عرق جبينهِ ودم قلبه ، ثم خلت بهِ في الأخيرِ ، تركته وحيدا بعد أن احبها رفيقة لحياتهِ، اكتشف خيانتها حين لم يستطع أن يُلامس قلبها بشعلةِ الحب ، فقد كان همها استنزاف شبابه وغلة جيبهِ .
كانت ظنون الرجل في محلّها ، ومخاوفه هي مخاوف امرءٍ مجرب عرك الحياة وعركته، يستبدّ به الألم ، فيسند رأسه إلى الجدارِ يستذكر أيامه المنصرمة ، فتختلط عنده أصوات الصّبايا الحلوة بحفيفِ الأوراق ونقيق الضفادع ، يهبّ من مكانهِ مذعورا ، يتسنّد جداره ، يمشي مزورا متأرجحا كأنّما تدهمه ريح قوية تلفه لفا، وفي فزع ٍ يطلق صيحاته المدوية : يا شحات فينك يا شحات .. شحات.
في هاتهِ الساعة يتعكّر صفاؤه ، ينتزعه الهمّ من بين جنبيهِ انتزاعا ، هي الغصّة التي يشقى بها تحت ذلك الليل الدّامس ، ينخرط عندها في بكائهِ ونحيبهِ، تسيل نفسه لوعا لحالهِ ، كيف انتهى به المطاف حبيسا يجلس فوقَ الأطلالِ الدوارسِ ، يؤوب سريعا إلى رشده ِ ، فيستغفر الله تعالى ، عندها تتزحزح عن نفسهِ بعضا من أحمالِ شقائهِ .
أمّا " الشحات " فحاله حال ، أنّه يُشبه الحصان القوي الذي يندفع دون وعيٍ ، محمولا بقوةٍ جسمانيةٍ يحسده عليها كُلّ من يعرفه، لا يحمل رأسه من همومِ دنياه إلا هم بطنه ، تراه واقفا يبكي كالصّغارِ ، يقفز في الهواءِ ، يتطاير نواحه في سذاجةٍ ، لا يهدأ حتى يفترش الأرضَ ُمحتضنا الطّبقَ بين رجليهِ ، يُزمجر مع كُلّ لقمةٍ يرفعها إلى فمهِ ، في عبثٍ زمجرة القط المشاغب ، وقد تلطّخ وجهه بالطعامِ ، وتعلّق فتاته بشعراتِ شاربه الأشهب الكثّ المُتهدّل فوق شفتيهِ.
كثيرا ما تعلّقت بهِ عيون بعينها تعترض طريقه ، دون أن يدري ، تقدر فيه القوة والشباب ، وتعرف في بنيانه ِ القوي وهج الشهوة الكامن كمون النار في الرّمادِ ، تترصده بحرصٍ ، ولا مانع من عرضِ بضاعتها في كُلّ مرةٍ ، عسى أن يفيق الغافل عن غفلتهِ، ويسعى إليها كما يسعى نحو طبقِ الطبيخ المُقدّم إليهِ، طُعما يوشك مع الأيام أن يجذبه كما يجذب طعم الفخاخ صيده.
ومن حظِّ " الشّحات" أن اوقعه في طريقِ امرأةٍ من نساءِ القريةِ ، تطفح بالأنوثةِ وتسبح في بحارِ الرغبة التي تتلألأ من عيونها الجريئة ، مات عنها زوجها، انفض عنها خطّابها رغم جمالها الصّارخ وحسنها الفتان، قد تكون سمعتها السيئة هي مصدر شقوتها ، رأت في هذا المُهرِ الجامح أمانيها ، فهو الأنسب وصاحب النصيب الذي تبحث عنه ، هو المُستحق الوحيد الذي تبذل له نفسها ، وتنال خطوتها منه ، وتثبت للأيام التي عاندتها ، أنّها تملك وتتصرف كما يحلو لها ، علاوة على أن صاحبها من جملةِ " المتوكلين" فلا خوف منه ولا قلق ، إذا فسرّها سيظلَ زمامه في يدها ، اصبح " الشّحات" بالفعل لعبة في يدها ، تحرّك من خلفها حين تلوّح إليهِ بطبق الطبيخ اللذيذ ، يسيل لعابه ويفقد ما تبقى من صوابهِ.
داخلت الرجل وساوس لم تسعها رأسه المُثقل أساسا بأوجاعِ الأيام وجراحها ، أصبحَ مطويا بين نيران أساه، فمن ناحيةٍ لا يمكنه أن يتوقف عن تجارته بين عشيةٍ وضحاها ، فلا يهبط القرى وفيها أغلب زبائنهِ ، وبين ابنهِ الذي لا يعي ما يُحاك له ، كما أنّه غريب في بلدٍ لا يأمن فيه على نفسهِ ومالهِ ووالدهِ.
حاول كثيرا منعه ولكنّه فشل ، في كُلّ مرةٍ يندفع بعدها كالثورِ الهائج ، شعر " الشّحات" بعد أمدٍ باهتمامِ المرأة الزائد بهِ ، فما أولته من رعايةٍ بعيدا عن أعينِ الرّقباء ، وما كشفته من مفاتن فجّرت في عقلهِ الهامل ، كوامن لا يشعر بها إلا الأصحاء ، فبدأ يحسّ بدبيبِ النًشوة في أوصالهِ ، سكنت نفسه إليها سكون الطائر الغريب إلى عشهِ المهجور ، يبدو أنّه وجد في عطفها المصطنع ، وحنانها المزيّف ، ما حرّك قريحة قلبه ، واشعره ما اضطربت له جوانحه المتلهفة ؛ لأن يغترف من هذا المعين ، تماما كما اغترف من طعامها الشّهي .
استحال المنظر في وجهِ الرّجل وهو يرى ابنه ، يُساق إلى وحشةٍ مخيفةٍ كوحشة القبرِ ، دائما كان سوء ظنه حليفه الذي يدلّه على أفعالِ ابنه، اخذت المرأة من " الشّحات " مسالك تفكيره جميعا ، فسكبت في قلبهِ من الدفءِ والهناءِ ما زرع فيه الطيّش، ووجدت فيهِ مع ذلك من الآمالِ التي نسجتها مالا بُدّ معه من استكمالِ خطّتها للنهايةِ .
تجرّعا سويا من كؤوسِ الحب المُحرّم ، مرّت الأيام وبينه كأحسنِ ما يكون ، و" الشّحات" متوزع قلبه ما بين طبيخها وحبها ، لكنّ الغريب في الأمرِ أن المرأة اللّعوب لم يومض في ذهنها أبدا أن ما اقدمت على فعلهِ مع هذا المسكين مشين ، بل نظرت إلى فتاها الفتيّ وكأنّه رسول من وادي الحب الظليل ، أتاها بعد أن فقدت الأمل في خليلٍ يُقدّر للحبِ قدره ، ويعرف كيف يرضي غلة طمرتها تحت تراب الصّبرِ، فها هي رغم ذلك هائمة في معاني الحب وألوانهِ ، احكمت الطّوق من حولهِ ولن ينتزعه أحد من براثنها ، كثيرا ما وقفت أمام مرآتها ، ترشّ عطرها ، أو تتحسّس مفاتن جسدها الفائر البضّ ، كانت نظراتها الموزعة بين المرآة و" الشّحات " الذي تلهى عنها في طعامهِ ، تشبّ العواطف في قلبها ، الذي اوشك نسيان مثل هذه النظرات ، تُعاود النّظر إلى جسدها من جديدٍ ، وكأنّها تطمّئنه أن سنواته العِجاف ولّت ولن تعود .
تقوم من فورها تُعانقه في لهفةٍ ، وتُلقي بنفسها بين أمواجِ بحرٍ مُتلاطمٍ لا شاطئ له ولا مرسى ، تود لو تقضي فيهِ بقية حياتها ، حتى وإن اضحت فيه غريقة .
أمّا الرجل فبات يلوي حبالَ الصّبر ، احسّ وكأنّ الكمد يطبق على قلبهِ ينتزعه من مكانهِ ، وخيالات الماضي تطوف من حولهِ، وذكرى شبابه الذي اغترف فيهِ من هذه المآثم ما اغترف لا تُفارقه ، تضربه بسياطها الموجعة ، تُخيقه تلك الأشواك المنصوبة عند كُلّ خطوةٍ يخطوها ابنه ، الذي حتما سيكون الخاسر في النّهايةِ.
وبعد مدةٍ تواردت إليهِ الأخبار ، بعد أن فاحت سيرة ابنه في القريةِ ، واضحى حديثا تفشّى بين النّاسِ ، كيف لامرأةٍ دنسة الذّيل أن تصطاد هذا الفتى المسكين ، فتغدر بهِ وتتحايل فتسلب شبابه، لم يجد التّاس من بدٍّ إلا مفاتحتهِ ، ظنّا منهم بأنّ " الشّحات " يفعل ما يفعل دون علمهِ ، امتزج الحديث بالخجلِ والغضب والتقريع أحيانا ، فقد عرف الرّجل أن ابنه لم يكن خليلها الوحيد ، خفق فؤاده بشدةٍ واسبلت جفونه خجلا وهو يرى ابنه الوحيد، الذي يتعزّى به عن ألمهِ يضيع منه ، ما اضطره أن يكلف نفسه من المشقةِ، ذهب إليها ذات مساءٍ يطلب منها أن تعدل عن مخططها ، وتترك الفتى وشأنه فهو شاب غير كفؤٍ لها ، فلا يملك العقل الذي يوازيها ، والأفضل أن تجد حياتها مع رفيقٍ غيره ، توسّل إليها بكُلّ ما في الإنسانيةِ من مشاعر أن تفلته من شباكها، لكن المرأة رفضت طلبه بشدةٍ وصلف ، وشرعت تعنّفه وتوبّخه ، وأن قوة في الكونِ مهما كانت ، لن تُفرِّق بينهما ، خاصة بعد أن قررا الزواج ، كانت كلمات المرأة كفيلة لأن توقظ في قلبهِ من أنينِ الذكرى ما ادماه، لم يخطر ببالهِ أن تكون مثل هكذا دناءة ، على الفورِ قرر في نفسه الخلاص منها ، هزّ رأسه ومطّ شفتيهِ ، وبدى تأثير اليأس في نبرتهِ ، مشى وهو يتململ من ضغط أفكارهِ .
كان " الشّحات" قد اندفعَ في حبهِ للمرأة وتعلقه بها ، مدى لا يمكن معه لقوةٍ أن تمنعه ، بعد أن وجدَ فيها من الرعايةِ والعطفِ الشيء الكثير .
مضى عليهِ الأيام يتقلّب على جمرِ الانتظار ، قبل أن تختمر الفكرة في رأسهِ ، وفي يومٍ طابَ هواؤه ، وصفت سمائه ، قصد دارها لا يثنيه شيء عن الانتقام ،تراكمت عليهِ الأكدار وحوّطته الأشجان التي اعلن خضوعه لها ، عندها امتلأ صدره نشوة ، اسرعت هي لتحضر له الشربات ، كان قد اخرجَ سكينه الحادّ من بينِ طيّاتِ ثيابهِ ، كان وقتئذٍ أبعدَ عن محجةِ الصّوابِ ، وما إن اقتربت ناحيته ، ومدّت إليه الكوب ، حتى قفزَ من مكانهِ كالنّمرِ الغادر ،امسك بتلابيبها ، لينهال عليها طعنا ، لم يتركها إلا جثةً هامدة مقطوعةَ الأنفاس ، علا صراخه بالتشفي ، والدم يقطرُ من يدهِ يلطّخ ثيابه ، اندفع سريعا نحو الشّارعِ لا يلوي على شيءٍ ، وصراخه يرجّ المكان : قتلتها .. قتلتها .. إلا ابني .. إلا الشّحات .
وبهذا انتهت حياة المرأة ، وانتهى معها أمر الرجل ، أمّا " الشّحات " فوثق مبهوتا أمام جثتها المسجّاة في ثيابِ الموت ، لم ينطق بحرفٍ واحد ، غير أنّه مال على طبقهِ الذي كانت تضع فيه طعامه ، احتضنه بقوةٍ بينَ ذراعيهِ ، ضمّه إلى صدرهِ ، وغادرَ المكان واختفى عن القريةِ والزّمام كُله ، لم يرجع بعدها أبدا ، ولا يعرف عنه شيء حتى الآن .
رابحة
بقلم : محمد فيض خالد
ابين زين ابين .. واضرب الودع.. واكشف المخبي والمستور.
على وقعِ هذه الكلمات المسّجوعة ، وبصوتٍ أنثوي رقيق ، تعوّد الاستيقاظ كُلّ صباحٍ، إلى الآن لا يعَرِفُ السِّر الذي جعلَ من قريتهم ؛ مناخا للغجرياتِ ضاربي الرّمل وكاشفي البخت، رُبّما ألِف هذه النّغمة الجذابة ، أم تُراه انجذب عنوة نحو صاحبتها "رابحة" الفتاة الغجرية.
مُنذ أن عرفت طريقها لقريتهم من سنواتٍ ، وهي لا ترفع طرفها عنه، في صمتٍ تُغرِقه من سهامِ لحواحظها، تسكب من فتنتها ما يثير لواعجه ، تنفد نظراتها إليهِ حتى في عزِّ انشغالها مع زبائنها.
لا يعَرِفُ حتى الآن ما وراء تلك النظرات الصّامتة لهذهِ الفتاة ، لكنّه يُلقي في الأخيرِ اللّوم على نفسهِ ، لماذا لا يتجرأ فيسألها ، تملّمل في فراشهِ قبلَ أن يرمي ببصرهِ ناحية النافذةِ المُطلّة على الشّارعِ، وجدَ في نفسهِ نشاطا لأن يتحرّك ، كانت قد افترشت الأرضَ ، ووضعت أمامها أحجارها الملوّنة ، وحِفنات الرّمل التي دسّتها في ( المقطف) ، تنمّرت وكأنّها تبحث عن شيءٍ ما ، صوّبت عينيها ناحيةِ منزلهِ الموصد بابه، قليلا وانحرفت للأعلى ، لتجده وقد توسّط النافذةَ ، ملأت منه عينيها، شعر صاحبنا وكأن شيئا يسري بداخلهِ فيخترق قلبه ، مرّر يده فوقَ صَدرهِ ، ثم اعادَ الكرةَ ثانيةً ، دَقّق نظره فيها ، ارتدّت نظراته محمولة بما سحرَ عينيه وزاد من وجيده.
لم تصّبر هي، وناولته ابتسامةً خفيفة من ثغرها النّاصِع ، قبل أن تعودَ ثانيةً لتغيب في رملها ، سريعا عادَ إلى مكانهِ وهو لا يصدِّق ، وما إن فاقَ من مفعولها فيه ، حتى امتلأ رأسه بأسئلةٍ تلاحقت ، تبحث عن إجاباتٍ عاجلة : لماذا هي بالذّات التي يشعر معها بهذا الشّعور ، لماذا قصدته دون باقي فتيان القرية ..؟!
كان عليهِ أن يُبادِر سريعا ؛ ويضع النِّقاط فوقَ الحُروفِ، دخلَ في جِلبابهِ وعلى الفورِ هبطَ السّلم، ومع كُلّ درجةٍ ، تزداد الوساوس الغريبة ، تثّاقلت خطواته ، وقفَ في المُنتصفِ مُترددا ، غير أنّه آثرَ أن يمضي لمُرادهِ حتى النّهايةِ، فلن يخسرَ شيئا.
كانت قد انتهت من أمرِ زبائنها ، وشرعت تجمع أعراضها من حولها ، عاودت النّظر ثانيةً جهة النافذةِ ، وقبلَ أن تهم بالانصرافِ، فوجئت بهِ أمامها ، تقدّم نحوها في عزمٍ لا يعرف له تفسر، اعتدلت في وقفتها ، وبدأت تُصلح من هِندامها ، وعينيها تبتلع القادم نحوها ، تلاقت الوجوه ، نطق في عفويةٍ : يا جمال سيدنا النبي .. مكنتش عارف إنك تهوسي كدا يا رابحة..!
ورغم سعادتها، احمرّت وجنتيها خجلا ، برقت عينيها ، واختلجت الكلمات على شفتيها الوردية فلم ترد، مكتفية بنظراتها الحلوة تمدّها نحوه في حبٍ وهيام ، وقف إلى جانبها وفي تلطّفٍ ، قال: عايزك تشوفي لي بختي يا رابحة .
على الفورِ طلبت منه أن يبسطَ كفه، امسكت به بين راحتيها وكأنّما لا تصدِّق حالها ، وفي تلكؤٍ عاودت النّظر إليهِ ، وكأنّها لا تُريد أن تُفلته من يدها ، مررّت إصبعها بحذرٍ في باطنِ كفهِ، تمهّلت ، ثم مرّرته ثانيةً في تأني ، ثم نظرت إليهِ وقد اصفرّ وجهها وامتقع لونها ، وتلاحقت أنفاسها ، ولاحَ عليها الانزعاج ، ابتلعت ريقها بصعوبةٍ ، قلّبت أحجارها ورسمت بيدها خطوطا متشابكة فوق رملها ، لم يكترث كثيرا لحالها ، فهو حتى هذه اللحظة لا يصدِّق أفعال الغجر ، ولا يؤمن بهذهِ الحِيل ، التي اعتبرها وغيره من المتعلمين ، رجما بالغيب ، وخِدعا لا تنطلي إلا على السُّذجِ، لكنّه تركَ لعينيهِ العنان كي تمرح في عينيها ، تمعّن خط أهدابها الأسمر الرّقيق، وحدقة عينيها السّود ، وأسنانها البيضاء الدقيقة ، والشريط الأزرق الذي زيّن ذقنها فزاد وجهها الأبيض فتنة ، غرق في هذهِ اللّوحة الجميلة ، يتجوّل فيها ، وكأنّه أمام عينِ ماءٍ عذب ، بعد رحلةٍ شاقة في صحراءٍ قاحلة.
ازداد توترها ، لكنّها فركت كفّه في عُجالةٍ،وقالت : السعد في انتظارك .. والفرح قبالك .. قلبك مشغول .. وقريب هتنول.. قول إنشالله..
ضحك فَرِحا، وردّ عليها : إنشالله يا رابحة.
اخيرا نجحَ في تخطّي الحاجز المضروب بينه وبينها ، ها هو يقتربُ من "رابحة" خطوة ، شعر في قرارةِ نفسهِ، وكأن الفتاة تُخفي في نفسها من ناحيتهِ شيئا ، أيكون الحُبّ ؟! ولكنّه حياء الأنثى حتى لو كانت من بناتِ الغجر .
لم يستغرق الأمر وقتا أطولَ مِما توقّع ، احسّ بانجذابها نحوه ، سالت مهجتها ، فافضت الفتاة واعترفت بحبها له ، كيف تعلّقت بهِ من أولِ يومٍ وطأت أقدامها القرية ، توالت اللقاءات بينه وبينها ، بدأت خِلسة وعلى استحياءٍ ، وبعيدا عن عيونِ الرُّقباءِ، قبل أن يتطوّر الأمر ويصبح علانيةً ، شعرَ نحوها بسحرٍ خلاب ، يتملّكه في غيابها وحين حضورها ، مرّت الأيام وزاد امتلاكها لقلبهِ ، فأصبح صاحبنا لا يرى سواها في الكونِ ، يراهما الناس في الدّربِ ، وفي القريةِ، وحتى حين عودتها إلى بيتها آخر النّهارِ ، يصحبها حتى مشارفِ قريتها ثم يعود من حيث أتى ، تمنى لو يكمل معها ، فيذهب لأهلها يطلبها منهم ، فلا تُفارقِه بعد ذلك أبدا .
شاعَ خبرهما في القريةِ بأكملها ، تحاكاه الناس في كُلّ مكانٍ ، وبقدرِ انتشاره كان حبها يتمدّد في قلبهِ ، ويتوغّل في روحهِ حتى تملّكه بالكاملِ ، أصبحَ لا يقو على الفراقِ ساعة ، في السّابقِ كانَ ينتظر صوتها بتلهفٍ وهو في فراشهِ ، أمّا الآن فقد تبدّل حاله بعد أن عرفَ طريقه للحُب واستبدّ بهِ العشق .
تجده يتمشّى فوق الجِسرِ والنّار تأكله مع مقدمِ الصّباحِ ؛ شوقا لرؤياها، ما إن يودّعها ، حتى يُغالِبه النّدم واللّوم ، أن تركَ قطعةً من نفسهِ تُفارقِه ، يعود إلى بيتهِ مشتّت الذهن، موزّع الخاطر، حتى يتجدد لقاءهما .
تغيرّت أحواله ، اقبلَ على الحياةِ بقوةٍ ، أصبحَ منطلقا عن ذي قبلٍ ، شعرَ بهِ من حولهِ أمه وإخوته ، كانوا في سعادةٍ تامة لتبدّل حاله ، وإن أبدوا تحفظا شديدا على علاقتهِ برابحة الغجرية ضاربة الرّمل ، إذ كيف يسمحوا لابنهم البِكر المتعلم ، أن يتعلّق مصيره ، ويرهن مستقبله بهذهِ الفتاة الغجرية التي لا يُعرف لها أصل من فصلٍ ، وهو من هو ، تتهافت عليه أعظم بيوتات القرية حسبا وجاها في الزِّمامِ ، ليكون صهرا لهم، وتهفو إليه جميلاتِ القرية ليكون حبيبا .
هذه حجتهم داحضة ، لقد تجاهلوا شيئا لا يمكن تجاهله أبدا ، نسوا أن الحُب طوفان لا تستطيع حواجز الكون منعه ، ولا سدود الكون إيقاف زحفه الطاهر .
لم يكن لهذا الحُب الناشئ ليرضي ابنة عمهِ "فاطمة "، ما إن تأكّدت حتى شبّت الغيرة في أحشائها ، والتهمت بقايا صبرها، وهي ترى فتاها الذي نُذرت له صغيرة، وتربّت على حبهِ ِوادمنت هواه، يضيع من بين يديها ، ويهجر عشّ أحلامها ، فكلّما رأته سائرا إلى جوارِ" رابحة " يُجنّ جنونها ، وتهيج مهجتها ، تعود إلى بيتها منهارة، تتلوى ألما وحسرة فوق فراشها، أصبح البكاء سلواها ، والحزن سميرها ، ومع الوقت أصبحَ بكائها لا يجدي ، ولوعتها لا تفيد ، فحبها المُتوهّج في قلبها لا طاقةَ على احتمالهِ، لابدّ من حيلةٍ تُفرِق بها شملَ الحبيبين ، مهما كانت التضحيات .
حاولت تشويه صورتها ، وتلطيخ سمعتها ، وزحزحة حبها المتملِّك من صدرهِ ، بأن استأجرت نفرا من فتيانِ القرية ، منحتهم من عطاياها ودفعتهم في طريقها ، واشاعت في القريةِ، أن علاقة تربطهم "برابحة" الغجرية ، بل وللفتاةِ في كُلّ قريةٍ حبيب ، وفي كُلّ نجعٍ رفيق ، وما "زهران" إلا واحدا من هؤلاء الأخلاء ، الذين تتلاعب بهم ، وحتما سيأتي اليوم الذي تهجره كما هجرت غيره ، لتستبدله بحبيبٍ جديد، وتلك عادة متأصلة في بناتِ الغجر .
لكن وعلى النّقيضِ، لم يصدِّق صاحبنا فِريتها، فقلبه بعد أن تشبّع بحبِ رابحة ، أصبح اسير هواها ، كيف يتغيّر عنها وهي من وهبته حبّها الصّافي ، حبا أنساه الدّنيا بأثرها ، إن ما في قلبهِ من بساتين وحدائق الأماني الزاهرة ، ما هي إلا غِراس هذا الحُب ، لا يمكن أن يِصدّق مقولة السّوء فيها ، وكلّما كادت لها ، كلّما تعلّقَ بها أكثر .
أمّا "رابحة" فبقدرِ عِشقها "لزهران" ، وتمنّيها البقاء طول العمرِ إلى جوارهِ ، بقدرِ تخوّفها عليهِ ، وشفقتها مِما ينتظر فتاها ، فابن عمها "جابر "، لن يتركَ لهذا الحُب أن يمرّ مرور الكِرام، لقد تعلّقَ بها مُنذ خطبها من عمهِ صغيرا، فهو يغار عليها من الهواءِ ، لدرجةٍ افقدته صوابه ، وحوّلته إلى مهووسٍ ، مسلوب العقل ، على استعدادٍ لأن ؛ يُشعِل العالم ، ويُريق الدّماء أنهارا لأجلها.
كلّما جمعها لقاء" بزهران" تنساب مدامعها ، وهي تنظر في وجههِ بحنانٍ وعطف ، تمدّ يدها نحوَ كفهِ وتُخطّط بإصبعها فيهِ ، ثم تضعها فوقَ قلبها ، وتبسط طرفها المُخضّب بالدّمعِ نحو السّماءِ ، تتوسل أن يحفظَ الله عليها هذا الحُب ، وألاّ يفجعها بحبيبها.
أخيرا اهتدت "فاطمة "لمكيدةٍ ، هداها شيطانها أن ترسِل "لجابر" من يُخبره بأمرِ العشيقين ، لم يصدِّق الموتور ما قِيل ، على الفورِ ارسلَ في إثرها من يأتيهِ بالنبّأ اليقين ، وبالفعلِ عادَ إليه مرساله ليخبره بما ألهبَ عقله ، واشعلَ نيران الغيّظ ، وحرائق َالانتقام في قلبهِ.
امسك ببندقيتهِ ، والشرر يتطاير من عينيهِ ، هزّها بين يديهِ ، وقال بحنقٍ : لازم اسيح دمه..
لم يخطر ببالِ العاشقين ما ينتظرهما ، كانت "رابحة "قد خرجت منذ الصّباح كعادتها ، ولكن غلالة من الأسى تُغلِّف قلبها ، جمعها و"زهران"حديث طويل ، بدت منقبضة على غيرِ العادة ، مالَ عليها يسألها : مالك يا رابحة خير ..؟!
لكنّها لم تجبه، مدّت يدها مرّرتها بِرفقٍ فوق وجههِ ، ثم مالت على يدهِ فقبّلتها ، لتنهمر دموعها ، وبعد قليلٍ هدأت نفسها ، كانت قد انتهت من زيارتها للقريةِ ، خرجَ "زهران" في وداعها كعادتهِ، وفي منتصفِ الطريق ، كمن "جابر" أسفل الجِسرِ ، وما إن اقترب منه غريمه ؛ حتى اطلقَ عليهِ رصاصاتهِ القاتلة ، أُلقي "زهران" على الأرضِ مُضرجا في دمائهِ، ذهبَ عقل "رابحة "، بل وفقدت صوابها ، ألجمت الفاجعة لِسانها ، ارتمت عليهِ تحتضنه ، تفلّت صراخها أخيرا ليهزّ الفضاء بأكملهِ، لحظات وهرول الفلاحون من حقولِهم القريبةِ على إثرِ الصّوتِ ، حملوا المُصَاب سريعا إلى المستشفى ، وهناك أُجريت له جراحة عاجلة لاستخراجِ الطلقات من جسدهِ، افترشت "رابحة" الأرضَ خارج غرفتهِ ، تبكي حبيبها المغدور ، وبعض سويعات طمّأنهم الطبيب على سلامتهِ ، لقد انحرفت الرصاصة قليلا عن قلبهِ ، فكتبَ الله له النّجاة ، سجدت "رابحة" عندها للهِ شُكرا .
وبعد أيامٍ استعادَ صاحبنا وعيه ، وعادت له بعض عافيتهِ ، حَرّكَ عينيه في من حولهِ ، ثم قال متُهالكِا : رابحة .. رابحة .. فين رابحة ..؟
لم يجبه أحد ، "فرابحة "غادرت القرية والزِّمام كُله ، لملمت أشيائها ، واصّطحبت أمها المريضة وإخوتها الصِّغار ورحلت بعيدا ، بعد أن تأكّدت من سلامتهِ ، وقفت خارجَ القرية ، كسّرت أحجارها، وبعثرت رملها ، واتلفت خرزاتها ، ليطويها البّعاد .

( عزبة حسني _ بحر يوسف_ / مركز أبوقرقاص / محافظة المنيا)

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى