عبدالفتاح كيليطو - القص والنموذج النبوي.. ت: نيفين النصيري

اقرأ باسم ربك الذي خلق. (سورة العلق، الآية 1) هي أول كلمة أنزلت علي النبي محمد، أي، أول وصية. في القرآن، يتوجه الله إلي النبي بلغة عربية واضحة، ليس بشكل مباشر وإنما عن طريق ملاك، جبريل. وهكذا يختلف الوحي المستقبل عن الإلهام الشعري. فالشاعر بالعربية يعني من يعرف ما لا يعرفه العامة الفانون. من أين له بهذا العلم؟ من شيطان ملهم مرتبط بالشاعر ارتباطا وثيقا، يهمس له بأبيات شعره. والتعارض إذن بين النبوءة والشعر يأتي في الأصل من الإلهام، إلهام إلهي في المثال الأول وشيطاني في الثاني.

وكثير من شعراء العصر الجاهلي يستدعون العبقرية الملهمة في شعرهم. إلا أن هذه الصورة اندثرت من الساحة اندثرت فقط أو نكتب( اختفت من الساحة ) وذلك بعد قيام الإمبراطورية العربية والاضطرابات الثقافية الكبري التي نتجت عنها، فلم تعد تلك الصورة إلا أثرا أدبيا، أو موضوعا ترفيهيا يتعرض إليه الشعراء بالمصادفة في النصوص الأدبية كرسل الجن الملهمين Epitre des gnies inspirateurs لابن شهيد (الذي توفي عام 1035). فلم يعد الشاعر ينظر إليه كلسان لذلك الشيطان كما لم يعد المؤتمن علي علم خارق depositaire لعلم خارق.

وهذا التطور كان نتيجة لانتشار الكتابة وتدوين علم القواميس، والنحو، وعلم العروض، والاستعارات والصور البلاغية، والنقد الشعري. ويشارك الشاعر مع أنصار هذه العلوم المتنوعة. ومن تلك اللحظة، أصبحت إجادة التقنية الشعرية والمهارة في التأليف مهما، وحلت صورة الشاعر الذي يطبق معايير فن أو صنعة ما محل صورة الشاعر الملهم. وأحلت صورة الشاعر الملهم من قوة خفية محل صورة الشاعر الذي يطبق مقادير فن ما أو صنعة.

ويفرض النص المكتوب الإشارة إلي كل من نقلوا النص بالتتابع، وهذا البروتوكول الذي يشمل المصدر لا يقتصر علي الحديث يقصد النبوي لكن لماذا هذه القفزة؟ فقط، بل ينطبق علي كل النصوص المكتوبة، أيا كان النوع الذي ينتمي إليه النص. فنجده في كتب القانون، والتاريخ، والسيرة الذاتية، وسيرة القديسين، كما في الأعمال الأدبية والتي هي في الأساس مجموعة من الأحاديث لأدباء أو لشخصيات مشهورة. وفي هذا السياق تصير الكتابة هي آخر حلقة في .سلسلة. ناقلي خطابات سابقيه. وضرورة ذكر تلك المصادر ولدت فن. الإجازة، والذي يعني الحرص علي أن تكون النصوص أصلية، والتأكد من خلوها من آيه أخطاء أو أي تلاعب خارق للقوانين. والإجازة هي رخصة يعطيها الكاتب لنقل كتبه. وبمنحه إياها فإنه يحكم علي نصوصه حتما بألا تعدل أبدا.

والإجازة تستخدم في مجال الأدب الرسمي حيث لا تبالي بالأدب الشعبي مطلقا. الإجازة هي المجهولة أم النص الشعبي؟ وبما أن الإجازة عادة ما تكون مجهولة الأصل، لذا فهي لا تخضع لرقابة الكاتب أو ناقل مصرح له. ولهذا السبب فإن مخطوطات ألف ليلة وليلة تختلف من حيث العدد والتسلسل ومضمون القصص. ومهما كان النوع الأدبي، فإن السرد يقوم علي نقل الكلمة، سواء كانت أصلية أم خيالية. وكل نص هو بالضرورة منقول، فشهرزاد ليست المسئولة عن حكاياتها بشكل مباشر، بل تسندها إلي كاتب مجهول وجماعي. وتقدم الحكايات بهذه الصيغة: بلغني…. أويحكي أن…. وفي المقابل دائما ما يكون المصدر مشارا إليه في الأدب الرسمي. فتبدأ جميع مقامات الهمزاني (توفي عام 100بصيغة: روي لنا عيسي بن هشام ما يلي..

ولم تتوار العبقرية الملهمة بحق بعد تكوين الإمبراطورية، فقد اتخذ ببساطة هذا المخلوق غير المرئي، والذي كان يجبر الشاعر علي أن يكون لسانه، هيئة جديدة. أصبحت له ملامح الشخص السلطوي والذي يتحكم في كل الخطابات، سواء كانت نثرية أو شعرية.

ونلاحظ ذلك بشكل واضح في ألف ليلة وليلة. وتدرك شهرزاد، في طريقها إلي الملك، أنها لن تنجو من الموت إلا إذا روت حكايات. ولكن كيف ستولد عند الملك الرغبة في الاستماع؟ ولنر كيف تصرفت: نبهت شهرزاد أختها إلي أنها ستستدعيها بمجرد وصولها عند الملك.. ستطلبين مني عندئذ: احك لنا يا أختاه حكاية عجيبة ستبهج السهرة. وأنا سأحكي حكاية ستنجينا.. وإذا كانت الرغبة في الاستماع إلي حكاية لهي مقترحة علي الملك، إلا أن التصريح ضروري: لا تستطيع الساردة فتح فمها بدون موافقته الواضحة.

وطبقا لبعض الروايات فقد أمر الملك، عندما توقفت شهرزاد عن الحكي، في الليلة بعد الألف، بتدوين الحكايات. هو فقط من يستطيع اتخاذ مثل هذا القرار: نتكلم ونكتب بتصريح أو بأمر من الملك.

وهذا النهج المتبع في ألف ليلة وليلة نجده أيضا في كليلة ودمنة، كتاب من أصل هندي ترجم بعد ذلك إلي اللغة البهلوية، ثم قام ابن المقفع (الذي توفي عام 756) بترجمته إلي العربية. وعلي هامش الحكايات التي تمثل جوهر الكتاب، هناك فصل يعرض الظروف المحيطة بالكتابة وآخر نقله إلي البهلوية. وبذلك نعرف أن كاتبه، الفيلسوف بيدبا، كانت له علاقات متوترة مع ملك الهند وأن خطرا عظيما كان يهدده، موقف يذكرنا بشهرزاد في مواجهتها لشهريار. وكما في ألف ليلة وليلة فإن السكينة ( detente ) ستحل محل الأزمة، وسيعترف الملك بولاء وقيمة الفيلسوف وسيطلب منه كتابا: سيحل هذا الكتاب معظم المشاكل التي تواجه الملوك وأنا شخصيا في فن الحكم. كما أرغب في أن يبقي من بعدي كتاب يردد ذكراي في العصور اللاحقة.. وتعكس بنية الكتاب نفسه الأمر الملكي، فهو ليس في جوهره ردا علي طلب فحسب، بل إن كل فصل من الكتاب يذكرنا بذلك. الملك هو من يطرح الموضوع الذي سيتناوله الكتاب. وتقوم كليلة ودمنة علي مجموعة من الأحاديث بين الملك والفيلسوف .

وبمجرد أن أنهي بيدبا الكتاب، يقرأه علي الملك وحاشيته، ثم ما يلبث الملك أن يأمر بمنع نشره. وما قد يبدو متناقضا هو أن الكتاب الذي كان يهدف إلي التعريف بعظمة الملك يجب أن يخفي ولا يطال من القراء ولا تناله يد القراء. فقط الملك وقلة من الأشخاص لهم الحق في ارتياد المكتبة والاطلاع عليه. وبهذا القرار يحكم بيدبا هل بيدبا من أصدر الحكم أم صدر عليه وفي هذه الحالة نقول ( يحكم علي بيدبا ) في الوقت نفسه بألا يقرأ، حيث كتب كتابا يجب ألا يفتح أبدا.

ولنذكر أن النسخة العربية للكتاب ترجع إلي ابن المقفع. وعلي عكس بيدبا فإن ابن المقفع يبدو مدفوعا بفكرة أن نقل العلم واجب. وبما أنه من أصل فارسي، فقد أراد أن يحافظ علي الإرث الأدبي لشعبه وأن يقدم قيمته وثراءه في مواجهة التراث العربي . غير أننا إذا دققنا النظر، سندرك أنه لا يتوجه إلا للنبلاء والمثقفين الذين يتطلعون إلي تعميق معارفهم.

وفي مقدمة كتابه يؤكد ابن المقفع علي فكرة أن نقل المعرفة لا يجب أن يستهدف الجميع، أو علي كل الأحوال ليس بنفس الطريقة. كما يؤكد أن كليلة ودمنه. تشتمل علي نوع من الهرمسية يجب البحث عن معناه، ( حفظ اللسان، الإبقاء علي السر من الموضوعات الرئيسية في الكتاب). ومشيرا إلي حكائي الهند، يوضح طريقتهم في الكتابة: علي الرغم. من رغبتهم في أن يفهموا يكونوا مفهومين. فإنهم يمنعون الفهم عمدا. فالنص النموذجي، والذي يعد أداه لتواصل العلم، هو أيضا وسيلة للإبقاء علي هذا العلم للفلاسفة. وتكون بذلك لكتاب بيدبا قراءتان مختلفتان: الأولي سطحية للعقول الفظة (vulgaire) والأخري عميقة للحكماء. وبما أن الكتاب فريد قد يقبل قراءتين، فإنه يحتوي علي كتابين مختلفين. وهكذا حجب بيدبا بشكل مضاعف الوصول إلي كتابه، فلم يمنع نشره بحبسه في المكتبة الملكية فحسب، وإنما كتبه بحيث يبقي معناه الحقيقي خفي علي العامة ولا يكون سهل المنال إلا لبعض القراء المتميزين. Avec l,ecrit c,est le regne du message a double sens qui s,instaure

ولوصف مشروع بيدبا وبشكل عام هذا النوع من الكتابة الذي يقوم علي الإخفاء، يستخدم أبن المقفع كلمة. الحيلة.. هذا الدهاء الخطابي ليس حدثا معزولا في الثقافة العربية. يمكن أن نذكر في هذا السياق المعري (توفي عام 105 والذي أشار، في مرات عديدة، بأن ديوانه الكبير Les imperatives يحمل رسالة خفية. يمكن أن نذكر المتصوفة الذين يفرضون علي تلاميذهم بألا يبوحوا بتجاربهم في الاستبصار. ومن جانبهم فإن الشعراء لا يخصون بكتابتهم سوي عدد قليل كتاباتهم سوي لعدد قليل. ابن سينا (توفي عام 119 منع تدريس بعض العلوم علي الجمهور. وفي حي بن يقظان. الرواية الفلسفية. لابن طفيل (توفي عام 1186) تتكرر كلمات مثل. سر، رمز، إشارة. بشكل مثير، الأمر يتعلق بفن كتابة خاص يمليه الحذر والخوف من الاضطهاد والحقيقة ليست دائما bonne بالبوح بها والحقيقة ليس مصرحا دائما بالبوح بها ببساطة، للجميع. ويكون البوح بها في بعض الحالات فعلا مدانا، قد يثير الفتنة والتي قد تشوش العقول وتنشر الفوضي في المجتمع.

وكما أن الديباجة للعديد من الأعمال العربية تظهر ضيقا خفيا: الكتابة مشروع مليء بالمخاطر والحذر الذي يجب أن يتخذ.

ففي مستهل كتاب البيان والتبيين يصيغ الجاحظ (توفي عام 86 دعوة للوقاية من. فتنة القول. ويطلب من الله أن يحميه من السلاطة والهذر من ناحية، ومن العي والحصر من من ناحية أخري ناحية أخري ( التعبير المستعصي والتلعثم واللغة المرتبكة). وهكذا هناك عيبان يهددان الكاتب: الغطرسة والعجز الخطابي. كما أن الزهو والجود بما نحسن هو مصدر خطر، أما غياب البلاغة فهو يمثل عجزا خطيرا يصوره الجاحظ بمثال موسي الذي كما يؤكد القرآن رفض رفض أم عجز أم خاف توصيل الرسالة لفرعون: ويضيق صدري ولا ينطلق لساني. (سورة الشعراء، الآية 13). فتضرع إلي الله عندما عجز عن إتمام مهمته: ربي أشرح لي صدري ويسر لي أمري، واحلل عقدة من لساني، يفقهوا قولي. (سورة طه، الآيات 252.

نتكلم ونكتب ونحن نرتجف: هذا ما نستنتجه من الفقرة السابقة للجاحظ. الخطر وشيك والعدو يترصدنا. أي عدو؟ إنه القارئ بالنسبة للجاحظ. فلا يجب أن ينسي الكاتب أبدا أنه يتوجه إلي متلق معاد ، والصداقة ليست أساس العلاقة بين الطرفين، بل بالعكس فالكراهية أو العراك هما اللذان يميزان علاقتهما. وإذا سلمنا بفكرة الجاحظ فإن الكاتب إذن في نفس موقف شهرزاد.

يجب أن نحذر من الآخرين، بل من أنفسنا أكثر، فنحن أعداء أنفسنا. والخطر كامن في منازلنا. يقول الجاحظ يجب أن يدرك الإنسان الفطن أن كتابه هو اقرب إلي نفسه من ابنه. قول بشع: الكتابة أعز من الابن! والغواية التي تحل بالكاتب لهي قوية لدرجة أنه مستعد للتضحية بكل شيء من أجل كتبه.

وفي أقصي الحالات فإن. غواية القول. تنتهي برغبة آثمة في التنافس مع كتاب الله، الفريد في نوعه والكامل. ويجب هنا أن نؤكد أن التقليد أساس الشعر العربي، وخاصة في شكل المعارضة: حيث تقوم القصيدة علي نفس الوزن، نفس القافية، وأحيانا نفس تيمة الشاعر السابق له. فأحيانا ما يظهر الإبداع في إضافة صغيرة، أو تغيير طفيف في الموضوع، في شيء صغير يبهر. فالمعارضة لها شكل تصارعي، تهدف إلي القضاء علي السابق. ومن الوهلة الأولي فهي تمجد الشاعر، إلا أنها في الواقع محفزة برغبة في التفوق عليه. فوراء الخضوع للنموذج، هناك إرادة في اغتصاب مكانته. وبالنسبة لكلام الله فإن هذه الإرادة تصبح تدنيسا وتدان. وكل نص يمكن أن يصير معارضة، باستثناء القرآن، فهو النص الذي لا يقلد. حاول ذلك بعض الرسل المزيفين مدعي النبوة وكذلك كتاب متحررون أو لهم آراء توصف بالهرطقة، كابن المقفع، أو المتنبي (توفي عام 965)، أو المعري، والذين اتهموا بمحاولة التنافس مع النص القرآني.

وللوقاية من المغالاة، فإنه من الضروري ملاحظة عدد من الطقوس. نبدأ في تفويض أمرنا إلي الله، نعلن أننا نكتب باسمه وتحت حمايته.

ومما لا شك فيه فإن الحذر من النفس هو ما يفسر بعض العادات التي قد تبدو غريبة للوهلة الأولي، كإسناد الكاتب كتبه لكتاب آخرين. ومن المؤكد أن التزييف ظاهرة معقدة (حيث تختلط أسباب سياسية بأخري دينية) إلا أننا لن نغفل أنها تهدف أيضا إلي محاربة الزهو. ويتخذ الكاتب مسافة من نفسه ويستبعد الفتنه وهو يضع كتابه تحت اسم ليس أسمه.

وعلي صعيد أخر، فانه من الطبيعي المعروف أن نري أهمية الإستشهادات في الكتب الكلاسيكية.

كما أن الكتاب يقدم كنتيجة طلب. كليلة ودمنة يدين بوجوده للملك. كنا نكتب باسم الله وأيضا باسم الخليفة أو نوابه. كنا نبحث عن التخفف من المسؤولية المرتبطة بالكتابة وهذا باللجوء إلي شخص نحتمي به. وعادة ما كان الكتاب يعلنون أنهم يكتبون بأمر ما، كانوا يشيرون إليه علانية، ونادرا ما نجد مقدمات لا يظهر فيها إشارة إلي شريك موص. كانوا يحتاجون، كشهرزاد، لإذن من الملك أو شخص ذو سلطة. ونماذج الكتب التي كانت نتاج حافزا خارجي لا تحصي. فقد قام ابن سينا بالتعليق علي أعمال أرسطو بأمر من السلطان المهد بن يعقوب يوسف الذي كان قد قدمه لابن طفيل. كما أن نصوص رحلات أبن بطوطة (توفي عام 1368 أو عام 1377) كتبت بأمر من السلطان أبو عنان المريني. وغالبا ما يكون الحث علي الكتابة قادم من صديق دون أن نعلم إذا كان حقيقي أو متخيل. كطوق الحمامة لابن حزم (توفي عام 1064) والذي كان نتاج طلب صديق مصاغ في خطاب. وكما أن الفتاوي والردود الدينية والقانونية التي تشتمل علي. اسم السائل وعنوان السؤال. كلها مصاغة كلهم مصاغين علي نفس الباترون conues sur le mme patron .

فهذه التيمة التي تتكرر، أيا كان النوع أو العلم، فهي تفرض دون أدني شك من التواضع والحذر، ولكنها قد تنبع أيضا من الرغبة في الهروب من العرضي وإعطاء الكتابة صفة الحاجة. ويمكن أن تتخذ هذه التيمة شكلا شائعا أو ساخرا. ومقدمه كتاب البخلاء للجاحظ تبدو كمقابلة مع القاريء وتنتهي هكذا: إذا لم تكن قد طلبت منا هذا الكتاب لم نكن قد تكبدنا كتابته وإذا تلقينا عتابا أو لوما أو إذا كان الكتاب معيبا فإن الخطأ سيقع عليك، وإذا وجدوا لنا عذرا فنحن فقط من سينتفع من هذا التسامح..

وعند التوحيدي فإن الطلب fait l,objet درامي مصبوغ بمسحة دعابة. ففي حوار طويل يعد مضمون المقدمة لكتاب الإمتاع والمؤانسة يحكي أن أحد حماه، عالم الرياضيات أبو الوفا انتابه غضب شديد، بعد أن علم بأنه قام بمجموعة من المقابلات مع وزير كان قد قدمه له من قبل، وذلك لأنه لم يبلغه أحد عن اتفاقيهما هذه الجملة غير مفهومة. ويضيف أن أبو الوفا سيغفر له هذه الإهانة بشرط أن يقوم التوحيدي بكتابة كل ما قيل أثناء هذه المقابلات. وأمام هذا الإنذار، لا يستطيع التوحيدي سوي الرضوخ وإلا سيبدو ناكر ا للجميل، أي كافرا، وهي كلمة رهيبة تطلق في القرآن علي من لا يعترف بنعم بفضل بالله. وعرضا، يصير هذا الحوار فرصة لتمجيد الذات. وإذا كان التوحيدي يظهر خضوعا ما، كما لو كان أقل من المهمة التي أوكلت إليه، فإن مجرد اختياره لهذه المهمة يرفع من شأنه، وذلك لأن قدراته قد اعترف بها شخص ذو مقام عال اختاره هو شخصيا، كما لو كان الأمر تنصيبا حقا.

وهذه الحبكة الدرامية تعكس نوعا من الوقار والتبجيل عند الحريري. وعن سبب كتابته لهذه المعارضات المقامات، يشير إنه خلال اجتماع، لاحظ بعض المثقفون انحطاط الأدب. الذي انطفأت شعلا ته.. الانحطاط mediocrite الحالي يقابله عظمة الماضي (موضوع قديم: في الماضي كان كل شيء أحسن). حدث انشقاق ما، ومن الضروري التواصل مع الماضي. ووسط هذه الشكوي يقترح أحدهم علي الحريري كتابه معارضات مقامات علي شاكلة معارضات مقامات الحمداني. ويبدأ برفض هذا العرض ، متحججا بضعف إمكانياته وخوفا من أن يصير هدفا للنقد. ولكنه أمام إصرار طالب العرض، لا يستطيع سوي الموافقة، علي الرغم من أن كما يقول. نضب الخيال وعجز الحيلة.. موضوع قديم أخر: التواضع الزائف.

من اقترح عليه الكتابة؟ من الواضح شخصية كبيرة والذي لن يشار إليه بعد ذلك والذي يوصف بشكل تلميحي، هو شخص. اقتراحه أمر وعندما ننفذ أوامره، يكون مصدر فضل.. رشح عدد من أسماء الوزراء للتعرف عليه. وإذا كان الطلب ينبع حقيقا من احدهم، فلماذا كان الحريري حذر إلي هذا الحد، إذا كان سيستفيد من ذكر اسمه؟ لماذا منع نفسه من شهرة مؤكدة ومكانة عالية؟ ولذا فالأمر لا يتعلق سوي بتقنية خطابية: الكتاب يجب أن يبدأ بالإشارة إلي طلب ما، فيخضع الحريري للقاعدة. وبنفس الطريقة فقد احترم موضوع التواضع المزيف، ولن يتجرأ أحد علي تصديقه عندما أعلن انه غير قادر.

إلا أن الدور التي أعطاه الحريري للطلب يبقي غامضا. وقد نقترح بدون جرأة بالغة، افتراضا أخر. يعطي الحريري لصاحب العرض دور ما: أنه شخص يعطي أوامر. ولكن ما الدور الذي يوكله لنفسه؟ ما الصورة التي يعطيها لنفسه؟ وأي نموذج يريد أن يقلده؟ ويحاول كما رأينا أن يتملص من المهمة التي أسندت إليه وذلك لأنه لم يكن يشعر بأنه علي مستوي هذه المهمة. ألا يعيد بذلك إذن تجربة موسي الذي رفض توصيل الرسالة الإلهية للفرعون مبررا موقفه بغياب البلاغة؟ إلا أننا لا نرفض الوصية الإلهية، ومن يخاطر بذلك، كيونس، عليه أن يدفع الثمن. فوافق الحريري في النهاية. يقدم نفسه كمنقذ، يريد أن يعيد الحياة للأدب المحتضر، كرسول يصبو إلي إحياء رسالة سابقيه، فهو يحاول إعادة إحياء تعاليم الهمذاني .

والاستشهاد بالنموذج النبوي يظهر أيضا عندما نتعرف علي النصوص التي أنتجها كتاب السير عن تلقي العمل. ففي البداية كتب الحريري أربعين معارضة فقط (هذا الرقم له دلالة ما) وأملا في أن تعلو قيمته ينتقل من البصرة، حيث يقيم، إلي بغداد. إلا أن مثقفي هذه المدينة لم يعطوه أيه مصداقية وعاملوه كغشاش، ونشروا خبرا أنه عثر علي مخطوطة المقامات المعارضات في حقيبة سفر كان لصوص قد باعوها له في البصرة. وأمام احتجاجاته، وضعوه أمام التحدي لإثبات مصداقيته وذلك بكتابة معارضات مقامات جديدة. فاعتكف لمدة أربعين يوما، غير إنه لم يستطع الكتابة، فتأكدت شكوك أهل بغداد. وبعد عبور الصحراء، عاد إلي البصرة مهانا ومذلولا (وبدون أن نعقد المقارنة، سنقول بأن مواجهة الكفر عامة في القرآن لهي صفة تميز العلاقة بين الرسل وشعوبهم وأتباعهم ). وبعد وقت ما استطاع الحريري أن يكتب عشرة معارضات. وعندما عاد مرة أخري إلي بغداد ورضي باسترجاع منزلته. وكانت بداية لمجد لم يعرف خسوفا. ولم يخلو من المدح، وأحيانا بشكل مبالغ فيه. وإذا كان الحريري، كما يقول ياقوت في معجم الأدباء، يدعي بأن معارضاته لا يمكن تقليدها (اعجاز) فانه لم يكن ليعترض.

يعتقد الزمخشري أيضا (توفي عام 1144) بان أعمال الحريري لهي ظاهرة مدهشة وجعل منها مدحا مغاليا، معتبرا إياهم معجزة تحير الجميع. وهذا لم يمنعه هو أيضا من كتابة خمسون معارضة. ولأنه متواضع فلم يضع نفسه علي نفس مستوي الحريري وحد طموحاته للخطب فقط. فلم يهتم سوي بالنوع. الجد. مضحيا بالهزل، أي انه لم يقارن نفسه بالحريري الا في العظة الأخلاقية.

ولماذا s,est lance في هذا الطريق؟ لم يطلب منه أي موظف ذو شأن أو صديق. فهو يؤكد مع ذلك أنه يستجيب إلي رغبة أو طلب قاريء قد يقدر هذا النوع من الأدب. الا أن السبب الحقيقي هو من نوع آخر: الزمخشري كانت له علاقة بطالب خرافي، ظروف فريدة ولدت هذه المعارضات هل نقول مقامات أيضا؟. كل شيء بدأ بحلم: صوت ليلي وغامض قال له: يا أبو القاسم! كلمة مكتوبة وأمل كاذب!. هذه الرسالة القصيرة موجهه اليه بشكل مباشر (ابو القاسم هو لقبه) ويسمع هذا الصوت في الفجر، في اللحظة التي يحدث فيها انفصال بين الليل والنهار، الظلمات والضوء. لم يكن الأمر يتعلق برؤية أو نداء أو سؤال. ما هو مصدر الصوت الذي سمعه أثناء النوم؟ ملاك؟ يبقي الكاتب ساكتا عن صامتا علي هذه النقطة إلا أن القارئ لا يمنع نفسه من التفكير في الوحي الإلهي المنقول إلي النبي محمد من الملاك جبريل. ومهما كان الأمر، يصحو الزمخشري فريسة خوف رهيب ويسلم نفسه إلي العمل علي تكثيف الرسالة التي استقبلها وذلك بكتابة بعض المعارضات ال parentiques. ولم يأمره الصوت بالكتابة، فقط حذره مشيرا إلي قرب الموت وتفاهة الحياة. وعلي الرغم من انه لم يكن مكلفا بمهمة ما، إلا أنه فسر الرسالة كحث علي الكتابة. اقرأ. الأمر القرآني الرسالة القرآنية الموجهة إلي النبي محمد يقابلها في حالته أيعاز: أكتب!

كتب إذن المعارضات إلا أنه ما لبث أن تخلي عن مهمته، وينسحب هكذا كيونس من المهمة التي وكلت إليه. يمكن أن يكون قد انتابته الشكوك حول أصل هذا الصوت، أو شعر بأنه غير جدير بفضل هذا الالهام السماوي. إلا أن حدثا بعد ذلك يذكره بواجبه: يقع فريسة مرض خطير. بعد هذا الإنذار الثاني لم يعد للشك مكان، فمرضه كان بمثابة إنذار أخر، علامة ثانية، فقد نجا من الموت، حصل علي تأجيل، والكتابة أصبحت طوق النجاة. تنجو شهرزاد لأنها تحكي الحكايات، الزمخشري بكتابة المعارضات.


وقرار كتابة خطب ينبع من أرادته ببدأ حياة جديدة، يزهد الدنيا ويقلع عن عاداته القديمة، مقررا عدم التردد علي الموظفون الكبار وعلي عدم توجيه المداح لهم. يهجر نمط حياته السابقة ويبتعد عن الأدب والحياة الاجتماعية، مقيما انفصالا جذريا يشبه الهجرة. صار محبوسا في منزله، مكرسا نفسه للزهد والتذكير. والكلمات المستخدمة في هذا السياق لهي بليغة: فالقطيعة التي نشأت في حياته هي، كما يلاحظ، قطيعة مع الجاهلية، كلمة تصف عصور الجهل، قبل الوحي. والأمر يتعلق فعلا بوحي: الصوت الذي سمعه وهو نائم لم يكن صوته، لم يكن صاحبه. إذا كان الكتاب من إنتاجه فالرسالة الليلية (والموجودة في المقدمة وفي بداية المعارضة الثالثة) تنبع من شخص آخر وله صفة الاستشهاد.

يكتب لنفسه، ولكنه يتوجه بالضرورة أيضا إلي القراء الذين يستقبلون الرسالة، الكلمة الحقة. إلا أن هؤلاء القراء كما يمثلهم ليسوا ضليعين باللغة وهم ليسوا بذلك في منأي عن أخطاء التفسير. كما أن الزمخشري يكثر من التفسيرات اللغوية والنحوية في تعليق يغطي نصف الكتاب. فالتهذيب الأخلاقي يصاحب المعرفة المتعمقة للغة والأدب، الاثنتان متلازمتان.

وبشكل عام، لا يمكننا قراءة الكتب العربية القديمة بدون وجود تعليقات. هذا ليس صحيحا فقط في وقتنا الحالي. وبسبب الاختلاف بين اللغة المكتوبة واللغة المتحدث بها، فإن ضرورة التعليق تفرض أيضا علي قراء المعري، والحريري والزمخشري، و الكتاب كانوا أول معلقين لكتبهم. كنا نقبل، كالعنة، عيوب اللغة الدارجة، إلا انه كان يلزم الحفاظ بجهد علي نقاء اللغة الفصحي، لغة القرآن وشعراء قبل الإسلام. نصوص باللغة العامية كانت مع ذلك موجودة ، ولكن بشكل شبه خفي. بينهم ثلاث سمات مشتركة تميزهم عن النصوص الكلاسيكية: ليسوا نتاج طلب، نادرا ما يحملون أسماء كتابهم، ولا يصاحبوا بأي تعليق (ولما إذا كانوا واضحون تماما)

طبعا لو المقصود النصوص وليس الكتاب تكون الفقرة هكذا:
بينها ثلاث سمات مشتركة تميزها عن النصوص الكلاسيكية: ليست نتاج طلب، نادرا ما تحمل أسماء مؤلفيها، ولا تصاحب بأي تعليق ( لا أفهم كيف يصاغ ما بين القوسين هل هو: لأنها واضحة تماما).

وعلماء اللغة لم يشكوا، في المقابل، في تفوق اللغة العربية. ويشكون، في الوقت نفسه، من انحطاط اللغة الرفيعة. ثم تأتي اللحظة التي تزعزعت فيها هذه الطمأنينة بل إن وجود هذه اللغة أصبح مهددا. هذا الانقلاب واضح في مقدمة قاموس ابن منظور (توفي عام 1311) لسان العرب. وهو يشير إلي أن معاصريه مفتونين باللغة الأجنبية (اللغة الأعجمية)، مذكرا بتنوع اللغات والسمات التي تميز عصره (إلا أن هذا ليس بالجديد) ويهملون العربية. أية لغة أعجمية؟ ومن الممكن أنه كان يلمح بالتركية بما أن ابن منظور كان يعيش في مصر في عصر المماليك. كما يمكن أن نستنتج أنه كان يشير إلي الفارسية والتي كانت قد أحلت محل العربية منذ غزو المغول، في المناطق غير العربية. وعلي كل الأحوال فإن ابن منظور كان قدرسم صورة قيامية فانية لحالة اللغة العربية في ذلك الحين. لم نعد نبالي بها، نستهين بها لدرجة النطق اللطيف، النبرات الجملية للكلمات كان ينظر إليها كنشاز barbarism. أو تنافر في الاصوات كما يقول. مع أن العربية، كما يضيف، هي لغة القرآن ولغة أهل الجنة وإتقانها يمنح ما لا يمكن أن تمنحه أية لغة: المعرفة الدقيقة لأصول وأحكام كتاب الله وجسٌنة وتقاليد النبي.

وفي هذا العالم المقلوب، تهديد ثقيل يقع علي العربية، وبالتالي إذا علي الإسلام. ويهدف ابن منظور، بكتابه قاموسه، إلي تعديل الأشياء وإنقاذ لغة أهل الجنة من الطوفان. إلا أنه يشعر بأنه وحيد وذلك لان أحدا لا يهتم بعمله هذا: لقد قمت بهذا العمل كما صنع نوح سفينته، تحت سخرية قومه.. وبدون أن يتلقي نداء إلهيا فأنه عهد لنفسه بمهمة تشبه مهمة نوح وهكذا يعطي لنفسه سلطة كبيرة. وبما أن الكارثة وشيكة فأنه يعمل علي إنعاش حالة سابقة قد ابتعد عنها معاصروه. وككل نبي فانه يتعرض للشك ويصير هدفا للسخرية. يجب إذا أن يعوم ضد التيار. يكاد الطوفان أن يغمر كل شيء، إلا أن اللغة العربية ستنجو، تتخذ من القاموس ملاذا لها كالسفينة .

لم يحدث الطوفان، إلا أن قلق ابن منظور سيبقي عند لاحقيه وسيظهر في كل حدته في القرنين التاسع عشر والعشرين، عندما سيكون العرب في مواجهه أوروبا الغازية. واليوم أيضا، الضيق محسوس، وغواية اللغات الأجنبية وخاصة الإنجليزية والفرنسية، تشكل تحديا كبيرا. فقد حاول العرب مرارا إنقاذ لغتهم، فهل أنقذوا أدبهم؟ لقد تخلوا عن أنواع قديمة وتبنوا أخري جديدة (المسرح، الرواية، القصة القصيرة)، مأقلمين هكذا أصولا للكتابة يجهلها أجدادهم. ومع ذلك لم تختف القواعد القديمة، يستمرون في سكن اللغة و تشكيل النصوص الحديثة، أحيانا بلا علم من كتابهم.
مستزرعين هكذا أصولا للكتابة يجهلها أجدادهم. ومع ذلك لم تختف القواعد القديمة، تستمر في سكني اللغة وتشكيل النصوص الحديثة، أحيانا دون وعي من كتابها.


* نص المحاضرة التي ألقاها كليطيو في جامعة القاهرة منذ شهرين تقريبا ولم تنشر حتي الآن
/

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى