إبراهيم محمود - عمياننا.. " قصة فانتازية تماماً"

جاؤوا إلينا يشكوننا عمَاهم، عرَفناهم جيّداً، كانوا فرادى.جاؤونا عمياناً، كما تخيَّل إلينا، وكما أوحي إلينا أنهم لا يرون، أنهم بحاجة إلى من يأخذ بأيديهم. لم نتردد في مد اليد المطلوبة لهم. آويناهم دون أدنى تحفُّظ، قلنا عموماً : هؤلاء منّا وفينا، قاسمناهم ديارنا، خبزنا وملحنا، بقي علينا شيء واحد لم نقم به، هو أن نقاسمهم فراشنا العائلي. لكننا قدّمنا لهم ما يطمئنون إليه: سكناً، طعاماً، كساءاً، كنا نعرفهم في أصولهم، فهم ليسوا ببعيدين عنا أبداً.

رثينا لحالهم، فقد كانوا كالهائمين على وجوههم، وكانوا بوجوه يلفها حزن لا نظير له، حتى خطواتهم بدت في غاية الاضطراب والوهن. ردد الكثير منا: قليل الأصل وحده، من يمكنه الإحجام عن الأخذ بأيديهم . أصبحنا تحت آباطهم حتى وقفوا على حيلهم، وكانوا لا يكفّون في الحديث عن جرحنا المشترك، ووجعنا المشترك، وطريقنا الحياتي المشترك. يا للكلام الذي تمنينا سماعه منذ زمان، كما لو أنه يخرج من حنجرتنا، فازددنا تقريباً لهم من أنفسنا بأنفسنا.

كثيرون منا، كانوا يصلُون الليل بالنهار، في كدْح مستمر، ليتمكنوا من القيام بواجبهم كما هم قدَّروه. كانوا يردّون: عيبٌ علينا، وهؤلاء من لحمنا ودمنا، إذا قصّرنا معهم.

ضاعفنا من جهودنا لهذا الغرض، وقد انتشروا بيننا جماعات، أصبحوا يشاركوننا غرف جلوسنا، نومنا، مطبخنا، أحاديثنا العائلية الخاصة، إلى درجة أننا لم نشأ مفاتحة بعضنا بعضاً، وفي أكثر الموضوعات خصوصية، بعيداً عنهم. ألم أقل، أننا اعتبرناهم من لحمنا ودمنا.

حياتنا، في واقع الحال، لم تكن على ما يرام، كان لنا منغصاتنا الخاصة، همومنا الخاصة، عِلَلنا الخاصة بنا، مذ كنّا في هذا المكان، سوى أننا تجاهلنا كل شيء، فقرابة كهذه تلغي الحواجز.

غالى البعض منا في التقدير، على أنهم أصحاب البيت، وهم الضيوف، بدأنا نطلب منهم رأيهم في ما يمكننا تقديم اللازم بالنسبة إليهم، وكيف، وأين، وكل ذلك باسم رابطة الدم التي تجمعنا في مصيرنا الموحَّد، ونحن نفيض شوقاً إلى سماعهم، وهم يتكلمون بالطريقة غير المألوفة.

ماذا جرى لنا، ونحن نقدِم على مثل هذا الاندفاع، وبعيداً عن أي حيطة وحذر، كيف أمكنّاهم من أنفسنا بأنفسنا؟ كيف سمحنا لأنفسنا هذه، أن نأخذ بأيديهم حتى يأخذوا موقعهم المطلوب بيننا؟

كنا نحن العميان، وليسوا هم. كانوا يبصرون، كانوا ذوي بصر حديد. وقد فاتنا، وباسم حماس القرابة العتيد، أن ننظر في أعينهم، وليس بعيداً عنها، أن ننظر إلى ما تحت ألسنتهم، وليس أن نصغي إلى الألسنة تلك، وهي تشدنا إليها حماساً، نسينا إلى أين تمضي بنا أيدينا وهي في أيديهم، وقد قدَّمناهم على أنفسنا، قلنا، نحن معكم، عيوننا، ألسنتنا، أيدينا، قلوبنا في خدمتكم.

هو ما كانوا يطلبونه، لقد أتقنوا الدور الذي دخلوا به علينا. كانوا يعرفوننا قبل أن يخالطونا حين أصبحوا هم أصحاب الدار، ونحن على العتبة، وربما القائمون على خدمتهم.

لم يكن من شيمنا، كما كنا قبل، وقبل قبل، مع غيرهم، أن نوقفهم، لنحدق في محاجرهم، وفي ما تحت ألسنتهم، ونراقبهم حين نغفل عنهم عنهم أحياناً، لنتأكد من حقيقة مشاعرهم نحونا.

كانت لهم طريقة ماكرة، بشكل غير مسبوق، في إظهار نظراتهم الغريبة، وقد بانت أحداقهم سليمة، حيث تكون الغلبة لبياضها، بما لا يترك مجالاً للشك في أنهم عميان فعليون. كانوا يحركون رؤوسهم، يتكلمون، ويستمعون، ولا ينظرون إلينا مباشرة، إنما إلى جهة قلنا هي الشاهدة البليغة على عماهم الفعلي، وقطعنا شكنا الداخلي بيقين ما رأيناه، وانجذبنا إليه.

هناك من أراد تنبيهنا، ومن بيننا، وبتوجع كذلك، إلى أن هناك وضعاً غير طبيعي، وأن القليل من التدقيق في عيونهم، وألسنتهم، سوف يضعنا في الصورة المغايرة لما استقرّينا عليه. تم توبيخهم، بقولة: هذا لا يجوز، لا يجوز، أليس لدينا أعين أيضاً، وعقول للنظر فيما يجري؟

أُسقِط في أيدينا، وهم في إتقان لعبتهم علينا، حيث قدِموا علينا عمياناً. ولكم استغربنا من هذه الحالة التي صارت ظاهرة واستفحلتْ، إذ ازداد عددهم، والجميع كانوا يؤدون الحركات عينها، في تحريك أجسامهم، ألسنتهم، وبياض أعينهم الذي كان له الدور الأكبر في انطلاء الحيلة علينا.

لم نسأل أنفسنا عن حقيقة هذا الاستفحال. بالعكس ازددنا اهتماماً بهم، ونحن لا نكف عن كيفية تقديم المزيد من اللازم لهم، لنكون نحن من نصغي إليهم، من نجالسهم، وهم في الصدارة.

كيف نسينا ما نحن فيه وعليه؟ كيف استأصلنا أصول الشك في أنفسنا بهذه السهولة، ليمضوا هم، إلى حيث تؤاتيهم الفرصة التي يظهرون فيها معلّمين إيانا في كيفية النظر كما يجب.

لم يطل بنا وبهم الوقت، لننقاد إليهم، وليصبحوا أحد مشاغلنا الأكبر في قيامنا وقعودنا.

نسينا أو أُنسِينا أن لدينا أعيناً نبصر بها، حيث قوي ساعدهم، وزادوا انتشاراً فيما بيينا وعلينا.

رأيناهم، وهم يتخبطون، قلنا لا بد أن ذلك نتيجة العمى، فتحاشيناهم، لنتركهم يتحركون في الجهة التي يريدون. ازداد ضغطهم علينا، وهم لا يلوون على شيء، كانوا يصدموننا، لولا تحاشينا لهم، لولا أننا في كل مرة كنا نسمح لهم بالمرور، بالجلوس، والقيام، حيث يريدون، وكلنا يقين أن هذه الحركات ذات صلة مباشرة بوضعهم البصري، عن كونهم عمياننا.

لا نخفي أننا مع الزمن ازددنا توتراً، قلقاً، حيرة، وجعاً، بلبلة واضطراب تفكير، فيما يمكننا القيام به، لكن حركاتهم المتسارعة والضاغطة، أضعفت فينا قوة الملاحظة هذه، إذ كففنا كثيراً عن طرح سؤال كهذا، لنوقف كل شيء عليهم، أن نسمح لهم بالمرور، والجلوس أنّى شاؤوا، وكانوا في غاية التماسك. لم نكن نبصر في ملامحهم أثراً لضحكة، إنما المزيد من الحيادية التي زادت من ارتباطنا بهم، لنكون نحن أعينهم، إنما بحساباتهم هم هذه المرة .

ومع الزمن، وبسرعات قياسية، دفع تطور الأوضاع إلى أن نبتعد عنهم بصورة لافتة، ليأخذوا راحتهم، ليدخلوا بيوتنا، مطابخنا، أسرّتنا العائلية، ليرتاحوا على طريقتهم، لنتابعهم، وهم يحدثوننا عمّا ينبغي علينا فعله، حيث يتربص بنا الأعداء. كانوا يشيرون بأيديهم إلى جهة يكون فيها الأعداء، وكنا نراقب الجهة، ودون أن تنعقد ألسنتهم، أو يرف لهم جفن، طالما أنهم عميان.

استقبلناهم عمياناً، وآويناهم عمياناً، وتابعناهم عمياناً، ليطالبونا بالتعامل معهم، كما هي حركاتهم، بوصفهم عمياناً، لنخسر الكثير من أعز ما نملك في أرواحنا وديارنا.

لكَم دفعنا الضريبة باهظة الثمن هنا، من أرواحنا وفلذات أكبادنا، على وقْع هذا العمى الذي ابتلينا به، ولكم سُقنا في الطريق الذي لم يعد في وسعنا العودة إلى ما حيث كنا .

عمياننا هؤلاء ازدادوا حركة، جلبة، لفْت أنظار، اصطحاب غرباء بملامح صارمة، قل شراسة، إيلاماً لنا، بتوجيهاتهم المباشرة لنا، لينالوا منا هذه المرة كما يريدون.

زادت يقظتنا ليس تجاه أنفسنا، إنما تجاههم، وهم يحملون السلاح. نسينا سؤال أنفسنا : كيف يمكن للعميان أن يحملوا أسلحة، ويمضوا بها إلى حرب أعداء وهم بعيون لا تحصى؟

كانوا يوجّهون فوّهات مسدساتهم، بنادقهم، وأثقل منها، دون سابق إنذار، وهي ملقّمة، وإصبعهم على الزناد، فازددنا تشتيتاً وتشتتاً، خشية أن تنطلق رصاصة نحو أي منا، لنزداد بعداً عن بيوتنا، عن أعز أمكنة مشاعرنا، عواطفنا وذكرياتنا العائلية، ولم نعد نهتم بأي شيء، إلا بالطريقة التي تجنّبنا فجيعة عمياء من هؤلاءالعميان وقد زادونا إحراجاً ومخاوف.

هذا التركيز على عمَاهم دفع بالبعض منهم لأن ينسوا واجباتهم العائلية واليومية، ليكونوا هم حديث الساعة وكل ساعة، ليكون رضاهم بالطريقة التي يتم فيها تحاشي فوهات مسدساتهم، وبنادقهم، وهي بعيونها المفقوءة، وهي كانت كأعينهم مع فارق أن هذه كانت تملأ المحاجر.

بحجة رؤية طريقهم، كانوا يمدّون أيديهم إلى الجهة التي نكون فيها، في بيوتنا، أو على عتباتها، ليأخذوا فلذات أكباتنا، بزعم أنهم أقدر على مساعدتهم في رؤية الطريق، ولإعلاء مكانتنا.

نسينا كل شيء، لنكون كل شيء لهم، صرنا نحن العميان، عاملونا على أننا نحن من نعجز عن الرؤية، ليقودونا إلى الجهات التي يريدون، بدأوا بإصدار قرارات، ولم يعد في وسعنا مناقشتهم، فهم صاروا يسوطوننا بالعبارة ذاتها: كأنكم أنتم العميان وليس نحن. كيف تتصرفون هكذا؟

ازداد عددهم، وانتشروا في الجهات الأربع، وهم من وراء حاسة خاصة بهم، كانوا يحلّون حيث يكون المتكلمون بلغتهم، ويمارسون اللعبة ذاتها.

بقيت أعيننا متقاسمة بين النظر إلى حركات أيديهم وفوهات أسلحتهم، وخوفنا على أنفسنا، وعلى وقع هذا الخوف، ولأنهم زادوا من اتهامنا وتقريعنا، وحتى إيلامنا كثيراً، بزعم أننا لا نعود نرى شيئاً، لينالوا منا، وينزلوا فينا العقاب الذي يريدون.

الكثير منا، آثروا ترْك كل شيء، كل شيء، وهم يبكون قهراً، وقد أفنوا الكثير من عمرهم، وعمرهم العائلي، ومن مكانتهم بين ألسنة الآخرين، والإقامة بعيداً بعيداً، حيث لا ينظرون إلى وجوه يكون بياض أعينها هو الغالب، أو فوهات المسدسات والبنادقة مصوّبة تجاههم.

المصيبة أن الكثير منا، حتى وقد ازددنا بعداً عن ديارنا ومواطننا، بتنا نخيف صغارنا لإسكاتهم، حيث ازددنا كرباً وبؤساً ونحولاً وزيغان نظر: صه، سيأتونكم العميان ها!

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى