عبدالرحيم التدلاوي - انفتاح النص/ النصوص وتشكل المعنى؛ قراءة في مجموعة " وجس... على شفاه الصمت" للمبدع نجيب الخالدي.

بداية:
صدرت المجموعة عن دار أبي رقراق للطباعة والنشر، الرباط،، في طبعتها الأولى سنة 2018، وتضم بين طياتها أربع عشرة قصة. على امتداد ثلاث وتسعين صفحة.
وأنا أقرأ مجموعة ؛وجس... على شفاه الصمت؛ للقاص نجيب الخالدي؛ تساءلت: هل يمكن العبور إلى النصوص القصصية من دون قراءة الومضات الشعرية التي تتقدمها؟ نجيب الخالدي برأيي تعمد وضع جسور تجمع بين الومض الشعري والسردي؛ هذا الجمع لم يكن عبثيا بل هناك وشيجة تجمع بينهما؛ ينبغي تلمسها والبحث عن الرابط الدلالي الذي يوحدهما ويحمع بينهما. كما لا ينبغي العبور إلى النصوص من دون قراءة العنوان الأم والعناوين الداخلية التي تسم كل نص على حدة. ثم من الضروري تخصيص حيز لتناول موضوعة المرأة والموت بنوعيه؛ المادي والمعنوي. مع الإشارة إلى اللقطات السينمائية البارزة في النصوص والتي تعضدها التفاصيل الدقيقة للمشاهد والوصف المساهم في إبراز تلك التفاصيل. فضلا عن اللغة الشاعرية الموظفة بحذق للتأثير في القارئ ومنحه لذة قرائية مطلوبة.
تعالج المجموعة موضوعات كثيرة، كالعقوق، والخداع، والفقر، واللامبالاة، والاغتصاب...، وتتطرق لتيمات متنوعة ولعل أبرزها في نظري تيمة الموت بنوعيه؛ المادي والمعنوي، فأول نص تفتتح به المجوعة وهو نص "فراغ هائج" ص9، يعالج موضوعة الموت المعنوي بسبب غياب التواصل وبرودة الأطراف، أما النص الثاني "حافة الحياة" ص15، فيتطرق للموت بمعنييه المادي البارزمن خلال موت يزة الشخصية المحورية، والمعنوي من خلال غياب اهتمام السياح بموتها وانصباب اهتمامهم على جمالية الشلال، وكأن المرأة غير مرئية أو غير ذات أهمية.
ويحضر الموت المعنوي والمادي في قصة "وجس وحجارة" 21. لكن هذه المرة بقوة أشد ومرارة أكبر؛ فالشابة لشذاجتها وقعت في فخ عشيقها الذي قدم لها وعودا عرقوبية؛ ولما قضى منها وطرا تركها معرضة للتشهير وبخاصة لما حملت وأنجبت؛ لتجد نفسها أمام وحوش آدمية تريد غسل العار برجمها.
والقصة تنتقد الفكر الذكوري المتعفن لكونه غير عادل إذ جعل الضحية مجرما ينبغي قتله؛ وترك المجرم الحقيقي حرا طليقا. ولا نستغرب إن وجدنا ضمن وحوش الرجم هذا المعتدي الآثم؛ فكر ذكوري متعفن ورغم ذلك يتشبث به الناس ويكيفون سلوكاتهم الشاذة وفقه.
وليس غريبا أن تسود في مثل هذا المجتمع الخرافة كما في قصة "الليلة" ص63. فالمرأة لا يسمح لها أن تكون مستقلة بنفسها؛ فالمجتمع لها بالمرصاد، يفرض وصايته عليها حتى وإن كانت مثقفة.
فقد ظلت الأم تلح إلى أن أذعنت البنت وانخرطت في رقصة كناوية لتتحرر من الأثقال والقيود التي تكبلها؛ وهي بانخراطها في هذا الطقس تؤكد سقوطها في براثن العادات والتقاليد الخرافية.
ويعد الجحود والعقوق من بين أشد انواع القتل المعنوي كما في قصة "جبر الكسر" ص27 فالأب بعد فحص لم يكن يعاني سوى من جحود ابنه العاق. فرغم حبه له فقد قابله بالصدود والعزوف والنكران. ولعل ما يميز النصين معا بناء هو ذلك الخرق السردي؛ إذ لم تسر الأحداث وفق خط طولي بل شهدت منعرجات بفعل التلاعب بالزمن حيث حضور الماضي وإن بشذرات أثناء صخب الحاضر وسيولته. هذا الخرق ما هو إلا تعبير عن الخلل الذي يعتري المجتمع. والأمراض التي تخترقه. ومن هنا؛ يتبين تعاضد الشكل البنائي والدلالي في وشيجة لا يمكن فك عراها.
عتبة التصدير:
من العتبات اللافتة للانتباه وذات حمولة دلالية مهمة، العتبة التي تقول : أريد أن أقول وقبل كل شيء إنني لم أعثر بعد على تعريف للقصة القصيرة. وهو ل ف شلوفسكي. والعتبة تشير إلى حرية الكتابة القصصية وأنها ليست مقيدة بضوابط وأشكال محددة، بل هي مفتوحة على التجريب؛ واختيار القوالب نابع من قناعة القاص في صوغ نصوصه وفق ما يرتضيه. ومن هنا، نجد نجيب الخالدي قد نوع أشكال قصصه، وقوالبها باعتماد الرسالة والفيلم والمسرح كأنماط كتابية خاصة تنسجم ودلالة النصوص وأبعادها النفسية والفكرية.
لقد تعمد القاص إدراج قول الناقد ومنظر الأدب فيكتور شلوفسكي الذي أورده في مقاله حول بنية القصة والرواية، للدلالة على أن القصة القصيرة زئبقية منفلتة تتلون بتلون عصرها... وأن ليست لها ضوابط تحكم ماهيتها...
عن الومض الشعري في تعالقه بالنص القصصي:
في الإشارة أعلاه، أظهرت أن كل قصص المجموعة مصدرة بومض شعري هو بمثابة عتبة ضرورية لقارءة النص، يعاضد العنوان، ويلتحمان مع القصة لدرجة يصعب الفصل بينهما إذ صارا ذاتا واحدة تجمع بينهما الصفحة والدلالة، وأبرز مثال يمكن تقديمه هو نص "طيف صديقي" ص57، المصدر بهذا الومض الشعري المركز والمقطر:
تداهمني
عتبات الغياب
فأستنير بمويض الذكرى.
تجدر الإشارة إلى أن معظم النصوص الوامضة ترتبط بالذات المتكلمة مفردا وجمعا، وحتى تلك التي يغيب فيها ضمير المتكلم تشعرك بحضوره خلف الكلمات، وبذلك أخلص إلى أن الومض الشعري يرتبط بالذات ويعبر عما يعتمل بداخلها.
فالنصيص المذكور يستحث الذاكرة بسبب فداحة الغياب، غياب يتم ملؤه بالذاكرة التي تستعيد التفاصيل المحتفظ بها، إنها وسيلة مجابهة النسيان، فما المفقود، ومتى سيتم استرجاعه؟
هنا، يأتي النص القصصي كجواب يشبع فضول السؤال، ويمنحه مرتكز الاطمئنان.
لكن اللافت للانتباه أن العنوان يقدم جزء من الجواب، يملأ السؤال بنصف المراد؛ فالحديث سيكون عن الصديق الذي صار مجرد طيف، أو شخصية من الذاكرة البعيدة، لكنه، في الوقت نفسه، يبقي على قليل من الغموض الذي لا يشبع الفضول إلا بالعبور إلى القصة وقراءتها كاملة. فعمن يتحدث النص؟
يتحدث عن صديق الطفولة، لكنه صديق من نوع خاص، إنه صديق من الديانة اليهودية الذي فرضت عليه ظروف تاريخية الهجرة والابتعاد.
سلكت القصة في بنائها مسلك الرسالة التي تعد منسجمة مع فحواها، لكن المتأمل سيدرك أنها قصة مغلفة في رداء رسالة، وهي طريقة في عرض البناء بشكل جديد.
تقف الذات الساردة أمام المرآة، تنظر في الهنا وفي الماضي، تستعيد المنفلت في اللحظة الراهنة، هما زمنان في بينية تركيبة واحدة؛ الحاضر والماضي، ويكون الحاضر بفراغه هو المولد للحظة الاسترجاع، يقول السارد المتكلم:
...بل سيخفق حتما بجناحيه ايذانا بالتحليق في سماء مرصعة بطهارة البراءة وبياض الصداقة ومحبة الجوار... ص59.
يؤكد المقتطف على نقاط حسن الجوار والصداقة والبراءة، وهي القيم التي فقدت بفعل الضغط الذي فرض الغياب. وتحن الذات إلى ذلك الماضي المشرق كتعويض لها عن حاضرها الكئيب.
يعبر السارد ايحاء عن هذه اللحظة المفجعة التي حتمت الغياب بقوله:
لكن سحبا مثقلة بالسواد طفقت تزحف على حينا، تتسلل عبر جنباته تطفئ ابتسامتنا البيضاء على مهل، تزرع بعتمتها الخوف والرعب في القلوب. ص61.
اعتمد المقتطف على الرمز لإبراز فداحة الغياب القسري. وقد اعتمد على التضاد باستدعاء اللون: البياض والسواد، والحالة الشعورية: الصداقة العداوة، فضلا عن المفارقة الزمنية بين الحاضر البئيس، والماضي المشرق، لتحقيق الدلالة من دون خطابة.
ويوظف القاص تقنية السينما في قصته "حافة الحياة" ص15، حيث نجد النص مؤلفا من مشهدين؛ واحد طويل، والثاني قصير للغاية؛ الأول اعتمد التفاصيل الدقيقة في رسم المشهد بشخصيات واضحة المعالم، وبأسماء تدل على هويتها وتجذرها في الأرض، تصارع الزمن من أجل كسب القوت، بخلاف المشهد الثاني غير واضحة معالم شخصياته، وهو دليل على غياب ارتباطها بالأرض، كل همها الاستمتاع غير عابئة بمحنة الناس وما يكابدونه من أجل العيش.
النص بمثابة فيلم قصير اعتمد على المفارقة بين المشهدين، مفارقة معبرة عن طبقتين اجتماعيتين؛ فقيرة وغنية، الفقيرة تناضل وتتشبث بأرضها رغم الصعوبات، والثانية كل همها مشاهدة مناظر الطبيعة الخلابة غير عابئة بمحنة الفئة الثانية، وتبلد مشاعرها يظهر من خلال انتباهها لجمال الشلال لا لمشهد موت المرأة.
فرهان قصة "حافة الحياة" ص15 إبراز معاناة المرأة التي تتجرع ألم الحياة في غياب الرجل الذي لا يحضر إلا في سياقات معينة (الحديث عن الأب...) ... مشاهد لثنائيات ضدية...الجمال والقبح، المتعة والألم، الشقاء والسعادة، الحضور والغياب، الموت والحياة، الاهتمام والإهمال...
تبرز القصة معاناة الوحدة ، الرفض، الاقصاء ... فالبطلة لا تطلب لا المال ولا الطعام ولا المأوى... تريد دفئا نفسيا... تملأ به فراغها النفسي الضاج... قد تكون لحظة قصيرة بزمن نفسي طويل ... وكل إنسان يمكنه ان يعيش ما عاشته البطلة، ويمر بتجربتها..
لم تستسلم البطلة في البداية، فقد قامت بمبادرات، اجتهدت، وحاولت مرارا... لكن الانسان فقد انسانيته. فغياب التواصل يدل على برودة الإنسان وجفائه؛ جفاء معبر عن الخواء والأنانية والفردانية.
أما قصة "احتفال وغياب" ص69، فتوظف المسرح كتقنية لعرض أحداثها، وإبراز فاعلية شخصياتها؛ وهي قصة تورد مصطلحات هذا الجنس التعبيري بصراحة ومن دون مواربة. بل يمكن اعتبار القصة مسرحية قصيرة جدا. إذ نجد تقديم المشهد على الركح قبل دخول الشخصيات وقيامها بالحوار المعبر عن مواقفها ونوعية شخصياتها... ولعل اعتماد القاص على المسرح كان بغاية السخرية من الحفل وما حف به من مشاهد عبثية، إذ إن الحضور لم يهتم بالشاعرة المحتفى بها، كل همه انصب على الانصات للموسيقى والحلويات. كما أن القصة ركزت بشكل كبير وبلقطات قريبة ومكبرة على تفاهة الشاعرة التي تصر على الحضور في كل محفل، وتسافر لتمثل بلدها بوصاية منها ودون أن يكلفها أحد بهاته المهمة. يساندها في تضخم ذاتها نقاد متملقون...
لقد فقد الاحتفال معناه الحقيقي بغياب مدعو رئيسي وهو الدراسة الجدية والموضوعية ... لأعمال الشاعرة... وفي هذه الإشارة انتقاد مباشر لما أضحى عليه " توقيع" ديوان أو مؤلَف...
القصة السير ذاتية؛ أو لبوس السيرة الذاتية كما في قصة "نهاية مفتوحة" ص33؛ فالسارد يتحدث بضمير المتكلم، كتعبير عن صدق القول وصدق وقوع الأحداث، كما أن القصة تسرد رحلة الشخصية المحورية في مجال التعليم من البداية إلى لحظة التقاعد ولكن بسرد سريع يعتمد على الاساس مع تركيز شديد على الاهم بتوظيف الفجوات والبياضات لتحقيق التسريع وبسط الرحلة.
تؤكد المجموعة على أن الأدب بحق نافذة جديدة تسمح للقارئ بأن يطل على حيواتٍ مختلفة، مشاهدة مكثّفة وعميقة في عمق ذواتنا الإنسانية، يقدمنا لنا بفن تجارب مررنا بها، فالأدباء ليسوا فقط حكّائين مهرة، ولكنهم مؤرخون أيضًا لتاريخ المشاعر الإنسانية المعقّدة، الأدباء يجعلون قصصنا مخلّدة ودائمة بدوام الإنسان على الأرض، يسمح لنا الأدب بالتعرف على أنفسنا من خلاله، ويمكننا من الوعي بسلبياتنا قصد تجاوزها بإصلاحها، وبهذا نتمكن من أن نصير متعاطفين مع الآخر، ومتقبلين للاختلاف.
مجموعة غنية بتيماتها وتنوع أساليبها وطرق بنائها، وجمالية لغتها الشاعرية ذات الكثافة الرمزية في غير غموض.



Aucune description de photo disponible.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى