عبد الفتاح كيليطو - في معنى الأدب : النص واللانص

كيف تتم التفرقة بين النص واللانص؟ كيف يصير قول ما نصا؟ العملية تتم اذا انضاف الى المدلول اللغوي مدلول آخر، مدلول ثقافي يكون قيمة داخل الثقافة المعينة

في حديثنا المدرسي وفي مناسبات أخرى نستعمل كلمة أدب، الا أننا في الغالب لا نفكر أو لا نرغب في تحديدها وتوضيح معالمها، فكأنما المدلول الذي تؤديه معروف وطبيعي ولا يشكل معضلة خليقة بأن تؤدي الى دراسة مستقلة وجدية. وهكذا نلاحظ أن مقرراتنا، سواء بالعربية أو بالفرنسية، لا تتضمن أية فقرة تعنى بهذه المسألة وتناولها في كل جوانبها. والغريب أن العديد من الكتب التي تطلع علينا تحت عنوان “تاريخ الأدب” تمضي في سبيلها دون أن تشعر بأدنى حاجة الى تعريف الكلمة السحرية، بل لا تعلن عن الدوافع التي أدت بها الى اختيار نصوص معينة والى دراستها على أنها نصوص أدبية.
صحيح أن بعض الدراسات تهتم بالأثر الذي تخلفه – أو يجب أن تخلفه – النصوص الأدبية في المجتمع. لكن هذه الدراسات تمر بجانب المسألة التي نحن بصدد اثارتها، لأنها تصب اهتمامها على وظيفة الأدب وتفترض أن طبيعة الأدب معروفة. فإذا أردنا أن نخرج من الحلقة المفرغة (الأدب هو الأدب) فلا بد أن ننتبه الى توضيح القرار الضمني الذي يجعلنا نصف بعض النصوص بأنها نصوص أدبية.
الا أننا عندما نحاول القيام بهذا العمل نجد أنفسنا أمام سؤال لم يكن في الحسبان. ذلك أننا انزلقنا، بدون شعور، الى استعمال كلمة سحرية أخرى وهي كلمة “النص”. لهذا فإنه ينبغي قبل كل كلام عن الأدب أن نوجه جهدنا الى تعريف النص بصفة عامة. فما معنى النص؟
أول ما نلاحظ أن كلاما ما لا يصير نصا الا داخل ثقافة معينة. فعملية تحديد النص ينبغي أن تحترم وجهة نظر المنتمين الى ثقافة خاصة، لأن الكلام الذي تعتبره ثقافة ما نصا قد لا يعتبر نصا من طرف ثقافة أخرى، بل هذا ما يحدث في الغالب. في هذا الإطار أشار بعض السيميائيين الى أنه من وجهة نظر ثقافة معينة تظهر الثقافات الاخرى كخليط من الظواهر العشوائية التي تواجد دون رباط يجمع شتاتها ويجعل منها نظاما موحدا ومتلاحم الأجزاء. هذا ما كان يحدث مثلا للرحالة العرب عند اجتيازهم لحدود مملكة الإسلام، حيث كانوا يشعرون بمزيج من الدهشة والنفور، وهو شعور نابع من كونهم لم يكونوا في الغالب يلمسون الثقافات الأجنبية كوحدة عضوية تتمتع بنظام محكم وكامل. اذا قبلنا هذه الفكرة نستطيع أن نرسم الجدول التالي:
ثقافة ≠ لا ثقافة
نظام ≠ لا نظام
واذا أخذنا بفكرة أن الثقافة مكونة من مجموعة من النصوص فإنه يتعين علينا أن نضيف الى الجدول ما يلي:
نص ≠ لا نص
هنا لا بد من الإشارة الى أننا عندما نتكلم عن النص، فإننا نفترض عادة وجود اللانص. علينا اذن أن نبين الفرق بين النص و اللانص. فمثلا هل نعتبر المكالمة الهاتفية نصا؟ هل الحوار اليومي المتقطع نقول انه نص؟ قد يقال بأن النص هو ما هو مكتوب، ولكن هل الإعلانات التي على واجهات المتاجر تعتبر نصا؟ وما هو المصير الذي نخصصه للإعلان عن بيع سيارة في جريدة؟
كيفما كان الحال فإنه لا يكفي أن تكون هناك جملة أو مجموعة من الجمل، سواء أكانت شفوية أو مكتوبة، لنقرر بأنها نص. لا بد من شيء آخر، لا بد أن تحكم عليها الثقافة المعنية وترفعها الى مرتبة النص. فحسب لوتمان وبياتيغورسكي توجد في كل مجموعة بشرية نسبة ضخمة من الأقوال هي بمثابة لا نصوص وكالخلفية التي تنبع منها النصوص. كيف تتم التفرقة بين النص واللانص؟ كيف يصير قول ما نصا؟ العملية تتم اذا انضاف الى المدلول اللغوي مدلول آخر، مدلول ثقافي يكون قيمة داخل الثقافة المعينة. اللانص يذوب في المدلول اللغوي ولا ينظر اليه الا من هذه الزاوية. أما النص فإنه يتمتع بخاصيات اضافية أي بتنظيم فريد يعزله عن اللانص. الحكم والأمثال لها صياغة تميزها عن غيرها من الأقوال التي لا تعتبر نصوصا. هذا لا يعني أن اللانص ليس له تنظيم، الا انه تنظيم لغوي ولا يستشف منه – بخلاف النص – أي مدلول ثقافي. وربما نستطيع أن نلمح نوعا من المشابهة بين النص والثقافة من جهة وبين اللانص واللاثقافة من جهة أخرى فنقترح القول بأن علاقة النص بالثقافة كعلاقة اللانص باللاثقافة.

* عن كتاب “الأدب والغرابة دراسات بنيوية في الأدب العربي” – عبد الفتاح كيليطو

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى