مخلص الصغير - العزلة صانعة العظماء.. والآن ماذا عن المعري الذي لزم بيته أربعين عاما؟

هناك أدباء ومفكرون اختاروا العزلة فانتخبتهم ضمن عظماء الإنسانية. يصبح المعتزل محصنا ضدا العالم، كما يقول بول أوستر في “اختراع العزلة”، وهو ما يجعله يبلغ أقصى درجات الإبداع. في كتابه “تاريخ العزلة”، الصادر قبل أيام، يرى الباحث الإنجليزي ديفيد فنسنت أن عزلة المفكرين والأدباء منذ العصر الرومانسي الأوروبي كانت بمثابة محاولة للهروب من صخب العالم، والبحث عن خلوة لتأمله من بعيد. وهو في ذلك إنما يستفيد من أطروحة أب النهضة الأوروبية الشاعر والمفكر الإيطالي فرانشيسكو بيتراركا حول العزلة، وكان أول من ألف فيها، هو الذي ألهم الرومانسيين والإنسانيين بأهمية العزلة في تمجيد الكائن.

الكتّاب والمفكرون الذين اختاروا العزلة ابتعدوا عن العالم والناس من حولهم، فالتقوا ببعضهم في كتب الأعلام وسير العظماء وسجلات الخالدين عبر تاريخ الإنسانية. هكذا التقى شيخ المعرة أبوالعلاء المعري بفرانز كافكا وإميلي ديكنسون وإيميل سيوران وفرناندو بيسوا في نادي المعتزلة الكبار. وبحسب الكاتب الأسكتلندي توماس كارلير، “يُظهر التاريخ أن أغلب من قاموا بعمل عظيم قد قضوا حياتهم في عزلة”. يمتلك المعتزل هذه القدرة على تأمل العالم والمجتمع من حوله، بمجرد ما يخلق مسافة تضعه في زاوية نظر بانورامية شاملة. يحدث ذلك على غرار وضعية الكاميرا البانورامية في الإخراج السينمائي، والتي تدور إلى حدود 360 درجة لتصوير ما يسمى “المشهد العام”. لكن العزلة، بما هي انتصار للفرد، واحتفاء بالكائن الإنساني، تكون أيضا بمثابة استبطان داخلي، لتكشف عما يعتمل في أعمال الذات الإنسانية، ولتنصت إلى ما لا نسمعه في ضجيج العالم.

المعتزلة الجدد

بعيدا عن صخب اليومي وتفاصيله، يتخلص المعتزل من كل ما هو سطحي ولحظي وعابر، ليقدم فكرا خالصا وإبداعا طافحا بالعمق والحكمة. ولعل هذا ما دفع الشاعرة الأميركية إيميلي ديكنسون إلى التزام العزلة منذ شبابها المبكر. وهذه الشاعرة هي صاحبة القصيدة الشهيرة “زيارة إلى السماء”، وفيها اعتزال للأرض، وفيها، أيضا، تلك الرؤية البانورامية إلى هذه الأرض ومن عليها. هذه الرحلة، أو “المغادرة” هي التي قام بها المعري في رسالة الغفران على نحو عجائبي، عبر تحليق فلسفي إلى أبعد مدى. وبينما حار مؤرخو الشعر الأميركي في القرن التاسع عشر في أمر هذه الشاعرة، وأسباب نزوعها نحو العزلة، فقد خلصوا إلى أن السبب الأساس هو محاولة تأمل العالم من بعيد، لأن الاقتراب من الواقع ليس إلا ضربا من التيه في تفاصيله والغرق في شجونه.

من “المعتزلة الجدد” أيضا الكاتب الروماني إيميل سيوران، الفيلسوف الملعون، صاحب الشذرات الساخرة والاعترافات المثيرة، والذي عاش منعزلا في غرفة لأحد أصدقائه في قلب العاصمة باريس لمدة تقارب الأربعين عاما أيضا. لكنه كان يغادر بيته من حين إلى آخر.

كان مؤلف “سيرك العزلة” يرفض المشاركة في اللقاءات الثقافية والحوارات الإعلامية، ليردّ بلغته الساخرة دائما أنه “لا أحد يستطيع أن يحرس عزلته إذا لم يعرف كيف يكون بغيضا”. وهي سخرية سوداء، مردها إلى تشاؤم راسخ يذكرنا بتشاؤم المعري. وسيوران، هو الآخر، حين يختار العزلة، فهو لا يعتزل الناس وحسب، بل يعتزل الأفكار السائدة والمجترة، ليعانق فكرا جديدا مخالفا، وتصورات مغايرة، كما يشدد على ذلك في سجله النثري الساخر.

أما فرانز كافكا، فقد بلغ بالعزلة أقصى مراتبها، هو الذي يتحدث متمنيا “أرغب في عزلة تخلو من التفكير، أكون فيها وجها لوجه مع نفسي”. وأكثر من ذلك، يذهب الكاتب التشيكي في يومياته إلى أن أيّ صوت كان يصله من الشارع، وهو في عزلته، كان يؤثر على صفاء أفكاره. في “اليوميات”، كذلك، يذهب كافكا إلى أنه في الغربة إنما يستجمع ذاته. وعبر عملية “استجماع الذات”، التي تتم بفضل العزلة، “فقد استطعت -وأنا ذلك اليائس في وحدته – أن أسحب ذاتي ثانية”. هذا الانحياز إلى العزلة لدى كافكا مرده، كما يقول، هو أن “الحياة المشتركة غير قابلة للاحتمال”، وأنها إنما تقوم بتنميط الكائن وحرمانه من عزلته الخاصة، التي تكمن منذ البداية في فرديته، في كونه فردا مستقلا ومتحررا مما سواه.

عزلات المعري

شيخ المعرة هو شيخ المعتزلين وسيد الكتاب الذين آثروا العزلة. والعزلة عند المعري عزلات، كما في بيتيه الشهيرين “أراني في الثلاثة من سجوني

فلا تسأل عن الخبر النبيث
لفقدي ناظري ولزوم بيتي
وكون النفس في الجسد الخبيث”.

وإذا كان البعض قد اعتبر عزلة المعري اضطرارية، حين تجنب اللقاء بالآخرين، لكونه صار ضريرا، فلم يقو على البقاء في العاصمة بغداد، حيث اجتمع فلاسفة عصره.

إلا أن طه حسين سيعتبر عزلة الرجل اختيارية، فها هو أبوالعلاء “يعتزل الناس ومن حقه أن يلقاهم، ويلبس خشن الثياب ومن حقه أن يتخير لينها، ويأكل غليظ الطعام ومن حقه أن يتذوق رقائقه. ثم يلتزم في القافية حرفين وقد رخص له الله التزام حرف واحد. فهل وفق إلى تنفيذ هذا القانون؟”، “نعم، إلا العلم”، يجيبنا طه حسين، حيث ظل بيت الشاعر الفيلسوف قبلة لطلبة العلم في المعرة. قانون المعري هو “لزوم ما لا يلزم”، وهذه المجاهدة هي التي تقود إلى الحقيقة، بطريق المتصوفة.

غير أن طريق المعري معرفية لا عرفانية، فإن حاد عن المعرفة سلك طريق الخيال، كما في رسالة الغفران، أو طريق الشعر، كما في دواوينه. كان المعري أول من ألف دواوين شعرية بالمعنى المعاصر، دواوين تجمع نصوصا شعرية وفق رؤية فنية وتأملية، مع وضع عنوان للديوان “سقط الزند” ثم “لزوم ما لا يلزم”.

لزوم البيت

لزم المعري بيته، كما لزم البيت الشعري العربي، في تجديده الفني. بل إنه التزم بحرفين متماثلين في قافية كل بيت شعري. والكثير من النقاد ودارسي “اللزوميات” اقتصروا على هذا التجديد العروضي في تعريف اللزوميات، وفي تحديد معنى “لزوم ما لا يلزم” في البيان الشعري لأبي العلاء المعري.

نعم، لقد صدَّر الشاعر هذا الديوان ببيان شعري مطول، يمتد على مدى 31 صفحة تقريبا، كلها في طرحه العروضي، بل في علم القافية تحديدا. بينما ينتهي البيان في 32 صفحة، والمقصود هنا الطبعة الأولى من تحقيق الخانجي الشهيرة. لكننا في الفقرة الأخيرة من الصفحة 31، ثم في الصفحة الأخيرة من المقدمة/البيان سوف نعثر على كلام آخر. فالمعري سيتحدث هذه المرة عن تصور جديد للقول الشعري، موجها نقدا كليا للتقليد الشعري العربي، ولأغراض الشعر المتداولة، كما حددها رواة الشعر قبل نقاده من العرب القدامى.

هذا ما ينبهنا إليه كيليطو في “أبوالعلاء المعري أو متاهات القول”، رغم أن المعري نفسه يقصر معنى اللزوم على لزوم الرويّ المزدوج في القافية، حين يقول “وجمعت ذلك كله في كتاب لقبته “لزوم ما لا يلزم”، ومعنى هذا اللقب أن القافية تلزم لها لوازم لا يفتقر إليها حشو البيت”. لكن طرح المعري على مستوى مضمون الشعر ليس جديدا، كما يقول كيليطو، قياسا إلى ديوانه الأول “سقط الزند”.

بل إن المعري نفسه يبدأ الفقرة الخاصة بـ”الشعر والصدق” في هذا البيان بقوله “وقد كنت قلت في كلام لي قديم إني رفضت الشعر رفض السقب غرسه والرأل تريكته، والغرض ما استجيز فيه الكذب، واستعين على نظامه بالشبهات. فإما الكائن عظة للسامع، وإيقاظا للمتوسن، وأمرا بالتحرز من الدنيا الخادعة وأهلها الذين جبلوا على الغش والمكر، فهو إن شاء الله مما يلتمس به الثواب”.

ويوجه المعري النقد مباشرة لأحد كبار الرواة، منظري أغراض الشعر، وهو الأصمعي، مستحضرا ومستنكرا ما ذهب إليه من أن “الشعر باب من أبواب الباطل، فإذا أريد به غير وجهه ضعف”. بينما يرد المعري بأن “الشعراء توصلوا إلى تحسين المنطق بالكذب، وهو من القبائح”. لكن، لا ننسى أن الفقرة الأولى التمهيدية من بيان المعري كانت قد صدرت عن هذا التصور الشعري الجديد، وهو يردد “كان من سوالف الأقضية أني أنشأت أبنية أوراق، توخيت فيها صدق الكلمة، ونزّهتها عن الكذب والميط… وجمعت هذا كله في كتاب لقبته لزوم ما لا يلزم”.

هكذا، كان على المعري أن يلزم بيته، وأن يلزم رويّا مزدوجا من الناحية الموسيقية، وأن يلزم الصدق في شعره “صدق الكلمة”، وهو الضرير الذي يصبح مثل “إنسان العزلة في حاجة إلى التبصر”، حسب أنطوني ستور في كتاب “العزلة.. العودة إلى الذات”.

وفي الأخير، فإن كتّاب العزلة ومفكّريها، منذ المعري، هم أشخاص قاسوا في مجتمعاتهم، وتعرضوا لسوء الفهم والتقدير، فلزموا بيوتهم يتأملون هذا العالم عن بعد، مستعيضين بتجاربهم الإنسانية الحدية. و”العزلة وطن الأرواح المتعبة” كما كان يقول همنغواي.

مخلص الصغير

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى