مقتطف محمود شاهين - (23) حب ومحبة وحزن!

( فصل من رواية قصة الخلق )

فاجأت محمود أبو الجدايل بإنهاء الحلقة كما فاجأته بأن طلبت مرافقته ، حين عرفت أنه سيخرج ليتمشى ويحرك ساقية بناء على نصائح الطبيب .. بدا مسرورا للفكرة ، فهو سيجد من يؤانسه خلال مسيره ، أما أنا فمسرورة ليس للمرافقة فحسب بل لاقتناص الفرصة ودعوته إلى بيتي..

انعطفنا من الدوار الثالث يسارا عبر الشارع الموصل إلى اللويبدة والعبدلي والشميساني..

كنّا نسير بخطوات متمهلة ليس فيها ما يشير إلى غايات رياضية تنشد الصحة :

- هل تعتقدين أن هذا السير يساعد على تحسن الصحة ؟

- على الأقل يساعد على حركة الدورة الدموية وهذا جيد !

- أشك في أنه يساعد! ما رأيك أن نسرع قليلا ؟

- ممكن !

- هيا ..

المؤسف أنني أحتذي كعباً عالياً ويتوجب علي أن أسير بحذر شديد. تنبه محمود للأمر وحاول قدر الامكان أن يسير بما يتناسب مع خطواتي.. سرنا قرابة ستمائة مترلننعطف يمينا وندخل أحياء جبل اللويبدة.

- أحب أحياء اللويبدة أكثر من أي أحياء أخرى في عمان . قال محمود .

- ربما لأنك لم تعش إلا فيها .

- لا أعرف . أجد أنها ليست مكتظة كغيرها . وبناياتها القديمة جميلة .. وتعجبني أشجار التين المثمرة التي تزرع على أرصفتها .. كثيرا ما أكلت منها .. وكذلك ثمة أشجار ليمون وتوت تفيض عن بعض أسوار المنازل ليقطف منها المارة .. عدا أشجار الياسمين التي تتدلى أغصانها خارج الأسوار أيضا .. أما أشجار السرو العملاقة فتكاد تكون هي الأجمل بطولها الباسق الذي يتطاول ليعلو أعلى البنايات ..

بلغنا ساحة متحف الفنون الجميلة . دخلنا إلى الحديقة . جلسنا لبضع دقائق على مقعد . كان ثمة تمثال حجري على مقربة منا .. لم يكن في التمثال ما يشير إلى شيء محدد .. ومع ذلك راح محمود يتأمله . سألته إن رأى فيه شيئا . قال:

- يبدو أن ناحته أراد له أن يكون كحجر طبيعي صقلته مياه الأمطار والعوامل الطبيعية .

- وعلى ماذا يمكن أن يدل ذلك ؟

- ربما على الطبيعة أصل الأشياء كلها .. وربما على غموضها رغم وضوحها .

- كيف تكون غامضة وواضحة ؟

- كوجودنا واضح لكنه غامض من حيث الغاية منه ، لذلك ضاع الناس في آلاف الأفكار والعقائد والمذاهب.

- لكن ذلك أغنى الثقافة البشرية حسب ما أعتقد.

- أغناها في جوانب وأساء إليها في جوانب أخرى .

- ما الثقافة التي يمكن أن تسود المجتمعات البشرية بعد مئات أوآلاف الأعوام ؟

- رغم كل ما نراه في العالم من سلبيات، فإن الوقائع تشير ولو بقدر ضئيل، إلى تفوق نوازع الخير على نوازع الشر في المجتمعات البشرية بشكل عام . والدليل على ذلك هو الزيادة في تكاثر المجتمعات البشرية رغم كل المآسي .. هذا في زمننا فكيف بعد مئات أو آلاف الأعوام .. على الأغلب أن ثقافة المحبة والتسامح والتعاون بين البشر سينجم عنها دين انساني أو ثقافة انسانية تسود بين البشر.

أطرقنا للحظات دون أن أن نتكلم .. لا يبدوعلى محمود أنه يفكر فيّ غرامياّ ، بينما أنا تخيلت نفسي للحظات عارية معه في السرير وأنا أداعبه لأجعله يتأوه من أعماقه ويذوب بين يدي. كدت أن ادخل في حالة شبقية تخرجني عن طوري، لولا أنني طردت الصورة من مخيلتي في محاولة يائسة لأن أبدو طبيعية ، ورحت أفكر في الطريقة التي سأستدرجه فيها إلى بيتي. تساءلت لنقطع الصمت:

- ألن نتغدى ؟

- لمى تنتظرني على الغداء ويجب أن أخبرها إذا ما فكرت في تناول غدائي في الخارج.

- أخبرها لأنني سأدعوك إلى تناول الغداء في بيتي !

- لماذا لا تذهبي معي ونتغدى مع لمى . ستفرح بقدومك . لم ترك من أشهر.

يبدو أن محمود لم يدرك نواياي أو أنه تجاهلها . وضعت يدي على فخذه وقلت بتوسل لا يخلو من غنج :

- حبيبي . دعني أكون معك وحدي ولو لساعة واحدة في العمر!

لم يبعد يدي عن فخذه . فرك جبينه بأصابع يده اليسرى . لا شك أنني فاجأته بوضع محرج للمرة الثانية هذا اليوم .

- أسيل .. اقدر محبتك لي وشعورك تجاهي.. لكن ليس في وسعي أن البي رغبتك بالحد الذي تفكرين فيه ، رغم أنني أشتهيك . وثقي أنك ستكتشفين أنك كنت مخطئة باندفاعك نحوي ، فأنا رجل عجوز ليس في جسدي ما يغري ، بل ما يثير القرف، وقد تؤدي الممارسة إلى كرهي. حاولي أن تنسي الموضوع . هيا لننهض . نحن على مقربة من بيتي الذي لم أره منذ أن انتقلت إلى بيت لمى. سنذهب للإطمئنان عليه.

نهضنا وأنا أحاول أن أنسى شبقي ولو قدر الإمكان.. والحق أنني قد أكره نفسي يوما لذلك .. لا أعرف إن كانت شهوتي تفوق شهوة بعض النساء ، ما أعرفه أنها حين تجتاحني لا أستطيع أن أخرج منها بسهولة . أضطر إلى ممارسة خاصة مع نفسي لأكثر من مرة .. لا أفضل البحث عن أي رجل .. أشعر أنني لا أحب الرجال العاديين، ويندر أن ألتقي شابا يعجبني .. معظمهم خاوون وجوف ! قد تكون الممارسة مع حمارأو كلب أفضل من الممارسة معهم ! أعشق الحرية لذلك رفضت الزواج لأنه يقيدها .. أريد أن أبقى حرة مدى حياتي.. وإن احتجت إلى طفل سأحاول الحصول عليه من علاقة حرة ، مع أنني أشك في حاجتي إلى الأمومة حاليا وفي المستقبل .. أشعر أنني لم أخلق لحياة عادية ، بل لحياة متمردة، لا أعرف إن كان ما أعيشه يشكل شيئا منها .

سألت محمود ونحن نقترب من بيته كما يبدو:

- إذا كنت تشتهيني فلماذا تمنع نفسك عنّي!

- لم أمنع نفسي ألم أقبلك ولو بالحد الأدنى من المتعة !

ضحكت ..

- ولماذا تكتفي بهذا الحد الأدنى وأنت ترى أنني متولعة بك ؟

كنا قد بلغنا مدخل بيته فلم يجب. دفعني برفق لأنزل أمامه الدرج النازل إلى بيته في الأسفل. يتفرع الدرج إلى درجين، أحدهما ينتهي إلى ممرمستطيل والآخر ينزل إلى أسفل . أشار إلي محمود أن أسلك الممر .. انعطفت مع المستطيل إلى مدخل البناء ثمة درح يصعد إلى الطوابق العلوية في البناء ودرج آخر ينزل إلى بيت محمود على اليمين أسفل البناء ، أشار إلي محمود أن أنزله . وما أن نزلت درجتين ونظرت إلى اليمين حتى رأيت حنشا كبيرا يربض متلوًّياً على نفسه أمام بيت محمود. ندت عني صرخة خافتة وأنا أرتد إلى الوراء ليتلقاني محمود بين ذراعية . لا تخافي إنه حنش بلاستيكي على الأغلب وضعه هؤلاء الأوغاد. دفعني إلى الوراء أعلى الدرج ونزل هو على مهل متفحصا وضع الحنش. نزل الدرج ليقف على بعد قرابة مترين من الباب . لم يبد على الحنش أي حركة . اقترب محمود أكثر وصفق بيديه .. لم يتحرك الحنش. دنا منه . كان بلاستيكيا بالفعل. حمله محمود من ذنبه وألقاه خارج الباب الموصل إلى بيته من أسفل الدرج الثاني .. حيث فسحة تنزل منها مياه الأمطار لتذهب عبر مصرف إلى أسفل حيث الطابق الأرضي.

دعاني إلى النزول وهو يخرج مفتاح البيت من حقيبة كتفه.

دخلنا .. جدران البيت تعج باللوحات . أحجام مختلفة .. نسيت رغبتي في محمود ورحت أتفرج على اللوحات .. قال: تفرجي سأعمل قهوة .. ضعت بين ما هو تجريدي، وما هو انطباعي تراثي، وما هو رومانسي .. بعض اللوحات التجريدية أعجبتني أكثر من غيرها .. الأشكال التي فيها مدهشة .. لا أعرف كيف رسمها .. حتى اللوحات التراثية التاريخية مرسومة بطريقة مميزة . جلت في مختلف غرف البيت وممراته . بينما هو يعد القهوة .. في غرفة نومة عادت الرغبة تراودني وأنا أتأمل سريره .. تخيلت نفسي عارية على السرير وهو يمارس طقوسه على جسدي.. ناداني من الصالون معلنا أن القهوة جهزت .. حاولت طرد الصورة من مخيلتي وأنا أخرج من غرفة النوم وألج الصالون .

جلست إلى جانبه على أريكة مستطيلة . كان الجو حارا بعض الشيء .. فككت زرين من القميص عن صدري ليبدو نهداي في حمالتيهما النهديتين، وزرين من تنورتي ليبدو فخذاي في أوج تألقهما، ووضعت ساقا على ساق لينكشف أكبر قدر من فخذي ، في آخر محاولة لإثارة محمود أبو الجدايل واستدراجه إلى ممارسة الحب معي. لم يبد عليه أنه أثير مما فعلته، أو أنه تجاهل الأمر. كان قد سكب القهوة في فنجانين ..قلت بعد أن أخذت رشفة قهوة :

- لم تجبني على سؤالي ؟

- أي سؤال؟

- سؤال ما قبل الدخول إلى البناء!

- تقصدين لماذا أكتفي بتقبيلك بالحد الأدنى من المتعة؟

- أجل .

- لأنني لا أريد ان أنقاد خلف شهوة خادعة ، كما أنني لا أريد أن أجرح شعور زوجتي.

- ليس من الضروري أن تعلم !

- لا أستطيع أن أخفي ما أقوم به عمن أصبحت شريكة عمري..

- لماذا أنت حريص على مبادئك إلى هذا الحد ؟

- لأنني كذلك .

- وماذا تقصد بشهوة خادعة ؟

- ما تشتهيه النفس قد لا يتفق مع قدرة الجسد على القيام به .

رن هاتفه . كانت لمى . يبدو أنها سألته أين هو فقد أجاب:

- هلا حبيبتي أنا في بيتي مع أسيل . كنا نتمشى وأحببت أن أطمئن على البيت . ماذا لدينا غداء هذا اليوم؟

" أم بشير أحضرت لنا طنجرة ورق دوالي! وأم أمل طنجرة محاشي!"

- ياه ! سأدعوا أسيل معي لتناول الغداء.

- أهلا وسهلا .

- باي حبيبتي.. سنحضر حالا.

يبدو أن محمود قطع أي أمل لي في مواقعته . سواء بقدرة جسده على القيام بما قد يعتمل في نفسه ، أو بإخباره لمى أنني معه ودعوته لي على الغداء.

لو لم يكن الرجل الذي يجلس معي محمود أبو الجدايل لركلته بقدمي وقلت له : من أنت يا حثالة حتى ترفضني ، بينما المئات يسعون ولو إلى كلمة حلوة مني ، وحتى تقبيل قدمي أو لعق مؤخرتي من قبل بعضهم؟

وجدت نفسي في حال غير قادرة حتى على مبادلة محمود القبل التي نتبادلها في مكتب القناة. أخذ الفنجانين ودلة القهوة إلى المطبخ . غسلهما وعاد ليطلب إلي النهوض.

كنت في وضع لا أعرف كيف أصف نفسي فيه .. أراوح بين الإحراج والكسوف والخيبة والسفاهة. شعرت للحظات أنني أريد أن أبكي ، بل هممت للبكاء ، نهضت وألقيت نفسي على صدر محمود ورحت أغرق بالبكاء..

راح محمود يحتويني ويربت على ظهري، ومن ثم يمسح دموعي ويقبلني على جبيني وخدّي قبلات أبوية ولا أجمل ، تمنيت لو أبقى في حضنه إلى الأبد .

قال بعد أن رآني أستعيد وضعي الطبيعي.

" هيا، لمى تنتظرنا "

ومد يده إلى لوحة للقدس معلقة على الحائط . نزعها وقدمها لي قائلا " هذه هدية لك " سأكتب لك اهداء عليها فيما بعد .

*****

تعليقات

أعلى