سامية بن يحي - أزمة كورونا الوجه الآخر للديمقراطية الرقمية

أثارت أزمة كورونا رؤى مبهجة، قد يراها البعض منا وهما، لكن يمكن القول بصوت عال أنها مثلت المشهد الأكثر عدالة بين البشر في عالم يفتقد إلى المساواة، عالم سرقه الزمن في تأسيس ديمقراطية على مقاسات الليبرالية الغربية، عالم ماتت فيه الضمائر قبل أن تؤمن بالقيم الأخلاقية، إنها حقيقة يجب أن تتم مواجهتها بطريقة أكثر تمايزًا، ومن هنا تأخذنا المناقشة المعيارية والتجريبية إلى افتراض أن لعبة الديمقراطية كنهج واحد يناسب الجميع أصبحت لعبة تم استهلاكها بشكل مفرط - بغض النظر عن حجم هوس الشعوب بها- وبالتالي فإننا اليوم أمام حتمية إعادة النظر في مسألة ما إذا كانت مرحلة ما بعد كورونا تمثل الوجه الآخر للديمقراطية، التي يمكن لها أن تفي بكل الوعود الطوباوية للحرية والمساواة المفقودة على أرض الواقع، خاصة في أواسط المجتمعات الهشة.

إذن لقد أجبر الفيروس التاجي البشرية اليوم على التفكير الفعلي في خوض تجربة الديمقراطية الافتراضية ليس من أجل تأمين مبادئ الديمقراطية بحد ذاتها، وإنما من أجل ضمان استمرارية الجنس البشري خلال هذه الأزمة، والاندماج حتى لا يفقد أعماله، ومحاولة تكييف استراتيجياته في كل مجال مع بيئة ما بعد الأزمة، من جهة الحصول على أكبر قدر من الحرية والمساواة، وبالتالي هناك فرضيتان يمكن الإعتماد عليهما في هذا التحليل وهما: فرضية التخفيف من عدم المساواة الناتجة عن إدارة الأزمة البيولوجبية، والمسؤولية الإجتماعية المترتبة سواء على الشركات، أوالمنظمات، أوالدول في ضمان استجابة مثلى لكبح تفشي فيروس كورونا، ثم فرضية زيادة التأهب العالمي لإدارة الأزمات المستقبلية بشكل أكثر ديمقراطية.

وطالما أننا نبدأ عقدًا جديدًا مدركًا تمامًا لهشاشتنا أمام تفشي الفيروس التاجي، فإننا نسلم بإمكانية دمقرطة الوسائط الرقمية كنهج معياريي أو إجباري لرأب الصدع الحاصل في فهم الحريات والمساواة، إذ يعضد هذا الطرح نقاد المنحنى الإستبدادي في السياسة العالمية الآخذ في الارتفاع نتيجة لـ covid-19 طالما أننا نشهد تراجعا في منحنى الديمقراطية التمثيلية، مما يؤدي إلى تفعيل ديناميكية فكرية جديدة للديمقراطية الحالية، أو إصلاحها، و من زاوية أخرى فإن رقمنة الإتصالات في ظل أزمة كورونا- يمكن الجزم أنها بلغت النضج- قد عززت مجموعة من التوقعات العالية عن الديمقراطية، وفرض نماذج جديدة للقواعد الديمقراطية - المساءلة الديمقراطية لمعاقبة القادة السياسيين على أخطائهم- قد تصبح بمثابة أدوات غير مسبوقة للتمكين، والتواصل الذاتي عبر شبكة الإنترنت، على أساس إعادة توزيع السلطة وإعادة الصلاحيات بشكل عادل، قد يكون هذا عزاء الشعوب عندما تكون الديموقراطية التمثيلية على المحك.

فمسألة توقع العلاج لكل العلل التي أبان عنها نموذج الديمقراطية التمثيلية، خاصة في العقدين الأخيرين عبرالإنتقال الرقمي يثير نقاشات محتدمة، وبهذا الصدد يشير كل من كولمان ونوريس في دراساتهما عن الديمقراطية الإلكترونية ( 2005) أن "القاسم المشترك للديمقراطية الإلكترونية هو فكرة التحسين المحتمل للجودة الديمقراطية، إلى جانب الجدل المعياري حول إمكانات تكنولوجيا المعلومات، والاتصالات للعمليات الديمقراطية، وغالبًا ما تتبع دراسة إمكانات دمقرطة الوسائط الرقمية نهجًا معياريًا أو إجباريًا.

ومن هنا، فإن توفير بيئة ديمقراطية رقمية يمكن أن تساهم في إعادة اختراع نموذج جديد للديمقراطية من خلال تطبيق التقنيات الرقمية المتقدمة والمستقبلية، حيث سيتم تشكيل مستقبل هذا النموذج من خلال تقنيات مثيرة من شأنها طمس الفجوة بين الواقع والإفتراض وهو التوجه الذي فرضته أزمة كورونا، لكنه يطرح عديد الأسئلة الجوهرية: كيف سيتم تطبيق مثل هذا النموذج الديمقراطي طالما أنه يعكس صناعة رقمية غربية؟ وهل يمكن أن يلبي طموح الشعوب التي ثارت ضد الأنظمة الإستبدادية؟ و هل يضمن مثل هذا النموذج الإنتقال السلس بين الأطر القانونية والسياسية والمؤسسية والعملية والاجتماعية والتعليمية والتواصلية والاقتصادية والمعرفية؟ كيف تترجم القواعد الديمقراطية الرقمية إلى تشريعات ملزمة تضمن مراقبة تنفيذ القرارات؟

بطبيعة الحال إن العودة إلى تجارب الماضي القريب يبرز أن الآليات الرقمية في ظل الأزمات استطاعت لعب دور في إعطاء صوت لمن لا صوت لهم، فخلال ثورات الربيع العربي تزايد مستوى التعبير، و مكنت وسائل التواصل الإجتماعي المجموعات المهمشة، والمسلوبة الحرية تحدي القيم الديمقراطية الأساسية، وبالتالي أعطت الوسائل الرقمية مزيدا من وضوح تلك الآراء والمواقف التي تمثل وجهات نظر الأقلية، وعززت خياراتهم في الاستماع والتأثير على الأجندة العامة.

واليوم أثبتت أزمة كورونا عمق تأثير التحول الرقمي في المواقف والمجموعات الديمقراطية والمعادية للديمقراطية، أو المعادية للنظام والليبرالية و العولمة، وأبرز مثال لاحظناه انتقاد الشعب الصيني للنظام، وتحميل الحكومة مسؤولية موت الطبيب الذي اكتشف فيروس كورونا بسبب طريقة النظام في تعامله أثناء تفشي الوباء، وهذا عكس الصورة النمطية للأنظمة الشمولية، أضف إلى ذلك تذمر الكثير من الشعوب التي حاولت مرارا تقديم صورة إيجابية عن الديمقراطية الليبرالية في أوروبا،أما العالم الثالث أبانت الحكومات عن فشل آخر يضاف إلى سجلها الأسود في إدارة مختلف الأزمات، وتطلعات شعوبها.

في نهاية المطاف على الرغم من أن الوباء ظاهرة عالمية، فإن تأثيره يتشكل بشكل كبير من خلال القرارات التي تتخذها الحكومات الفردية، وما يمكن أن تحمله الوسائط الرقمية من تحد وبالتالي فإن الوجه المشرق للديمقراطية الرقمية فرصة لفرض التغيير، والتقييم، وتقديم تصور جديد لنموذج محتمل للديمقراطية المستقبلية التي تواكب مرحلة ما بعد كورونا.

بقلم الباحثة سامية بن يحي / باتنة/ الجزائر.

البريد الإلكتروني : [email protected]

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى