سوسن إسماعيل - بهجة السّرد ومتعة التّأويل..

تمهيد:
يقول أرسطو: "ما من شيء يحدثُ فيما بعد في النّصّ إلّا وله نواة في الاستهلال"( )، وعليه فالقارئ لمنجز عبد الفتاح كيليطو الجديد والمعنون بـ "من نبحثُ عنه بعيداً يقطنُ قربنا" سيستلّذُ بهذا العنوان المُبسط المرن في حضوره، ليجدَ في صفحته الأولى بعد الإهداء تفاصيل هذا العنوان وقد ذُيّل باسم كافكا من يومياته، لينتقل الكاتب على التوالي إلى حكاياته وفضاءاته السّردية تحت ظلال هذا العنوان. يُدهشني في الواقع هذا الواقع الإقبال الجمالي العالي للناقد المغربي الشهير عبد الفتاح كيليطو الذي طالما عُرفَ بسردياته النقدية الخاصة والمفعمة بعبق الحكايا والتّراث الشرقي، وهو صاحب استراتيجية نقدّية يقرأ بها في إطار المصطلح النقدي وخارجه ــ وهو يغوصُ في سحر الليالي لشهرزاد، وكأنه المُنقّب وسفير المعنى لـ "ألف ليلة وليلة"، فيُزيحُ عنها غمامات مُعتمة، ويبثّها للضوء، بعدما كانت قريبة منا جداً؛ ولكننا لم نبحثْ عنها إلا في المسارات البعيدة حتى يفتحَ النوافذ المغلقة على حكاياتها، وكأنّ الحكايات ترياق لسردياته الممكنة والمغايرة التي تدفعُ بالمخيّال لذاكرة الأمكنة والأزمنة.
عبد الفتاح كيليطو/ كاتب وناقد مغربي من مدينة الرباط، يتقنُ كتابةً اللغتين العربية والفرنسية، حاصل على شهادة الدكتوراه من جامعة السوربون الجديدة، ويعمل أستاذاً في كليّة الآداب جامعة محمد الخامس، له مؤلفات عديدة منها ( الأدب والغرابة، العين والأبرة، لن تتكلم لغتي، الأدب والارتياب، لسان أدم، أنبئوني بالرؤيا، بحبر خفي)، وقد تُرجمت الكثير من أعماله إلى عدة لغات كالإنكليزية، الألمانية، الاسبانية، والإيطالية، وبخصوص منجزه الجديد؛ الذي نحن بصدد التطرق إليه والولوج إلى عوالمه النقدية فهو الموسوم بـ "من نبحثُ عنه بعيداً يقطنُ قربنا"، والكتاب من إصدارات دار توبقال. يمتدُّ الكتاب على مساحة تزيد قليلاً عن تسعين صفحة، بترجمة لـ إسماعيل زيات، حيث يتوزّعُ الكتاب في عشر قصص/ حكايا/ سرديات/ مقالات عن ألف ليلة وليلة في الشرق، وعلاقاتها التناصية مع حكايا كُتبتْ فيما بعد في الغرب، ليكتشفُ القارئ الأهمية والأثر الواضح لحكايات ألف ليلة وليلة في الثقافة الغربية، حيثُ اتجه الكثير من المثقفين العرب إلى قراءة الليالي بعد أن تداوله الباحثون والمتخصصون الغربيون في الثقافة العربية بالدّراسة والترجمة، والحكايا العشر هي بالترتيب هي: شهرزاد الأولى، حلم ليلة في بغداد، أوجيني والحالمان، في الحياة وفي الممات، الليالي والقَدَري، "لا أحد هو اسمي": من أوديسيوس إلى السندباد، السّفرة ما قبل الأخيرة، "الشّجرة التي في وسط الجنّة"، "بأي لغة سيكون عليّ أن أموت؟"، والكِتاب الذي كانوا يتمنّون كتابته، ثمّ ينهي بـ ببلوغرافيا لجملة الكتب المُتطرقة إليها، وملحق لـ بينيد لوتيلي: (بحث عن القراءات القاتلة)، ثم بفهرس وسرد لعناوين أعمال/ عن الكاتب.
استراتيجيّة الكتابة عند كيليطو:
ستحاول القراءة تقديم عرض مكثّف لاستراتيجية الكتابة عند عبد الفتاح كيليطو في في كتابه "من نبحثُ عنه بعيداً، يقطنُ قُربنا"بهذا العنوان يؤسِّس كيليطو استراتيجية القراءة وفق الثنائيات التالية: اقتراب وابتعاد، حضور وغياب، اختفاء وتجلٍّ، مكان ثابت/ ساكن، قريب منّا جداً، ومكان بعيداً آخر علينا أن نقصدهُ، لا لشيء إنّما بحثاً عن القريب/ القاطن قربنا، فالعنوان قائم على المتزاوجات/ المتقابلات المتضاربة، كما أنَّ عمليّة البحث في العنوان، وربما لاحقاً النصوص/ الحكايا المنثورة بين طيّات هذا الكتاب، تتطلبُ من القرّاء/ الباحثين الابتعاد والتّنقل ثمّ السكون والصمت مرّة أخرى، لأنَّ عمليّة البحث تقتضي التجوّل والتّجوال، في الوقت الذي ربما لا يستدعي منا الحركة لأن ما نبحث عنه لصيقٌ بنا ويجانبنا.
يقول باسكال: "إنَّ آخر شيء تجدهُ عندما تؤلّفُ كتاباً هو أن تعرفَ الشيء الذي يجبُ وضعه في البداية"( ) وربما هذا ما دفع بالكاتب أن يختارَ بداية تثيرُ الأسئلة لدى القارئ/ الباحث عن الأيديولوجية التي أراد منها في العنوان الإيحائي، الاستهلال، وكذلك من الحكاية الأولى "شهرزاد الأولى"، فلماذا شهرزاد الأولى؟ هل ثمة دلالة/ أثر؟ هل ثمّة شهرزاد ثانية أو ثالثة أو ربما عاشرة؟، إلى ماذا يدعو كيليطو قارئه/ باحثه، وبماذا عليه أن ينشغلَ، وإلى أيّ متاهة يدفعُ الكاتب القرّاء/ الباحثين أن يسلكوها!
يسعى الناقد في قراءته للبحث عن الجذور الأولى للنّصّ، في الوقت الذي تتجه القراءة/ القارئ للبحث عن مركز وجود النّصّ بعيداً عنه في الغرب، يكمنُ مركز الحكاية في الشرق قربه، فهو في عملية قائمة على البحث عن المؤلف الحقيقي للحكايات/ مفهوم المؤلف، أو المؤلف المزيف لقصة شهرزاد "هي التي تدشّنُ دورة الحكايات، متقدمة على شهرزاد التي لن يكون لها شأن إلاّ فيما بعد"( )، فهذه المفاهيم التي تبرز ملامحها خلال النّصّ، تؤكد على أهمية اللغة وقوتها في رسم الدلالات المكثفة والعميقة "فالاستعانة بآلية الغياب في القراءة النقدية المعاصرة تعدّ من ركائز التفكير التفكيكي"( ).
وكأنَّ كيليطو يتقصّدُ أن يضعَ قارئه/ باحثه في دائرة من التيّه والضياع، فيما يتعلقُ بالعنوان، فهو قائم على جملة من الثنائيات المتضادة، مع أنّهُ ــ الكاتب ــ يضعُ بين يدي قارئه خيوط التأويل، ثمّ يطلبُ منه أن يسترشد بهذه الخيوط اللامتناهية والمتشابكة إلى الطريق الصحيح، لربما يرى ويكتشف ويفسّر جملة من التقابلات الواردة في العنوان ذاته وفي الحكايا/ السرديات أيضاً، حيثُ يبدو أنّ للحكايا سُرّادٌ كثر قبل شهرزاد، فالكاتب يشيرُ في الحكاية الاستفتاحية "شهرزاد الأولى"، إلى (الصبيّة) التي تخرجُ من العلبة التي في الصندوق الزجاجي، والذي كان مع الجني الخارج من البحر، والتي تكشفُ عن نفسها للأخوين (شهريار وشاه زمان)، اللّذين غادرا قصرهما بحثاً عن حقيقة أو اكتشاف أمراً ما يريدان معرفته، فهل ما دار بينهم وبين (الصبية اللعوب) من أحاديث، هي المقدمة التي ستسبقُ الحكايا التي ستسردها شهرزاد، أم هي حكاية من الحكايا المُسبقة؟ فالجني/ شهريار أو أخوه/ المغدورون، الصبيّة اللعوب/ الزوجتان/ الخائنتان، الصندوق الزجاجي/ القصر/صندوق باندورا، وفكرة السّاردة الأولى، وكذلك عمليّة التقابل بين ما حدث في القصر وما شاهداه تحت الشجر، عدد الخواتم/ عدد الحكايا ــ فهل الخواتم هي البدايات لكل الحكايا، وكذلك عمليّة التأويل التي يجريها، فقصة الجني والصبية، لربما هي القصة الإطارية أو القصة العتبة لليالي لاحقاً، فالصندوق هو القصر، والصبيّة هي كل النساء/ الزوجات الخائنات، عدد الخواتم في الكيس لربما هي عدد الليالي، وهل الكلام الذي جرى بين الصبية والأخوين، له علاقة بما سيجري لاحقاً، لأنَّ الكلام هو الحياة، ولأن وجود شهرزاد مرهون بالكلام/ بالحكايات، وهو ميدان انطلاق كيليطو إلى كلّ الحكايات، حيثُ يقوم بتوليفة من العلاقات والتقابلات فيما بينها، لأنَّ "تعدُّد الدلالات ينتجُ من تعدُّد العلاقات، فالنصّ يغدو غنيّاً بالمعاني عندما يفلحُ القارئ في تركيب علاقات خفية بين عناصره وعناصر نصوص أخرى"( )، أو يمكننا تسميته بـ "فائض الدّلالة"، على أساس أن اللغة هي التي تُشكّل المنتج للمعاني، وبحضورها يُلغى دور المؤلف، وكلّ هذه الأفكار التي يُحيلنا إليها كيليطو هي أفكار ملتبسة جدا، طالما كان الالتباس مأوى سردياته وخاصة في "ألف ليلة وليلة"، لأن "مدلول نصّ ما قضية لا أهمية لها، والمدلول النهائي سرّ يستعصي على الإدراك"( ).
وضمن هذه الاستراتيجية يتحرُّكُ كيليطو مع حكايات مُنجزه النقدي، فهو يحاول الكشف عن جملة من الخطوط المعرفية والفكريّة، والتي يريدُ منها أن يُنقلَ بقارئه إلى أعماق المعاني اللانهائية للغة الحكايات التي يستنطقها ويؤولها؛ يقول في حكاية (حلم ليلة في بغداد): "تلقى هذا الشخص وهو من بغداد، أثناء نومه نداء (أو أمراً) من قبل صوت ليلي، صوت من؟ ليس هناك من تحديد، إنه مجرد "قائل"، أهو الذي "لا تأخذه سنة ولا نوم"؟ أهو مجرد مبعوث؟ من عهد إليه بإيصال الرسالة؟ أو يمكن أن يكون الحلم ذا مصدر شيطاني"( )، فالبغدادي جاهل لمكمن كنزه/ مكانه، فكان لابُدَّ من السفر والابتعاد/ الاختفاء عن بغداد، ليكتشفَ بعد ذلك مكان الكنز من شخص غريب وبعيد، هو الوالي، فثمّة حلم واحد، هو (مكان الكنز)، ولكن ليتحقق هذا الحلم، لابُدّ من صوتين وطرفين، هما من تقعُ على عاتقهما إيصال الرسالة، أي البغدادي والوالي، عليهما أن يختلفا ليلتقيا، وليتحقق التقابل بين الحلمين، كان لابُدّ من السفر إلى مصر، حيثُ صاحب الحلم الثاني، الذي يسرُّ عن حلمه المكرر للبغدادي، بينما الثاني، احتفظ بسرّه ولم يبحْ به لأحد، لا في بغداد ولا في مصر، فحلم الوالي هو مفتاح الكنز، الذي يأخذُ به البغدادي راجعاً إلى بيت والده، حيثُ الكنز هناك تحت فسقيّة بجنينة الحوش، إذن ثمّة مكانان، حالمان، حلمان، وزمنان، وصوتان مختلفان، جملة من التقابلات في الحكاية، كـمفهوم (العمى والإبصار)، العمى في بغداد والإبصار كان لابُدّ أن يكون في مصر، فجملة من التحولات يجب أن تتم حتى يتمّ تثبيت الحلم، هناك حالم متحرك/ متنقل/ صامت/ صدقَ الصوت/ لم يفشِ بحلمه، وحالم ثابت/ ساكن/ أفشى بحلمه/ أرتاب في الصوت ولم يصدقه، كما حدثَ مع يوسف الذي أفشى بسره لأبيه، نحن أمام عدد من الأزواج المتقابلة والمتضادة معاً، فثمة من أفشى بسره لأبيه وفاز كما في قصة يوسف، بينما الوالي أفشى وخسر، في الوقت الذي لم يفشِ البغدادي وفاز هو الآخر، وكذلك النبي إبراهيم، الذي صدق الخطاب الذي توجه إليه من القرآن الكريم وفاز هو الآخر، فكلّ الذين لم يرتابوا فازوا في النهاية. ثمة من ابتعد وفاز، ومن لم يبتعد لم يحصل على الكنز، وأمام هذه القراءات العديدة، "لا توجد قراءة صحيحة وقراءة خاطئة، ولكن توجد قراءات لا نهائيّة"( )، وكذلك موضوعة الاختلاف التي يشيرُ إليها الكاتب فيما يخصُّ الأمكنة، فالحالم ينام ليلته في المسجد، حيث اللصوص والذين لهم هدف في الحصول على المال/ الكنز، بينما نجد أن الكاتب "الروماني نيكولاي دافيدسكو يستعيد الحكاية ولكن المشهد يدور عند حلاق"( )،
فكيليطو يتقنُ جيداً متى عليه أنْ يشدَّ بخيوطه ثمّ يعيدها إلى رشدها/ إلى رشد اللغة التي يحاول ــ معها ــ فيها أن يتركَ للقارئ البابَ موارباً بعض الشيء، ليدرك للدّوال دلالات وانزياحات متعددة، فحالم بغداد ليس بلص للمال، ولكنه لصّ لحلم الوالي، حالم بغداد يتجه غرباً من الشرق، من بغداد إلى مصر، لكن عند بورخيس الحالم هذه المرة من الغرب إلى الشرق، من القاهرة إلى أصفهان، في الوقت الذي يملك حالم بورخيس اسماً هو (محمد المغربي)، نجد أن حالم بغداد بدون اسم، ولربما أراد بورخيس من ذلك، الربط بينه وبين اسم النبي (محمد)( )، فالكاتب يطرح ضرورة التخلص من الطريقة النقدية التي تسعى إلى البحث عن قصد المؤلف، "ويرى أن محاولة استعادة قصد المؤلف لا تتعدَّى مستوى الافتراض"( )، فاللغة عنده أثر/ علامات/ ودوال غير منتهية/ مفتوحة على كل وظائف التفكيك والهدّم ــ إنْ صحّ التعبير ــ فها هو يضع القراءة أمام عدة مواضيع/ إيديولوجيات، الاقتراب والابتعاد، الحضور والغياب، فالصوت الذي يسمعه حالم بغداد غير معروف/ غريب، بينما الصوت في حكاية سندباد هو صوت والده الميت، وهو يعرفه جيداً، وفي حكاية (أوجيني والحالمان)، يتجه شارل إلى الهند، فصوت الأب قبل الموت يدّله على السفر من أجل الثروة "ليرحل، مسافراً إلى الهند"( )، وكذلك والد أوجيني يريدُ التخلص منه، "فيطلب منه الذهاب للبحث عن الثروة"( )، وضمن هذه الاستراتيجية يسرحُ الكاتب بقارئه عبر تقابلات متضاربة، لأنّ المعنى عنده دائماً غير كافٍ ويحتاج المزيد، ولأنّ اللغة مفتوحة على قراءات متعددة، يبحثُ كيليطو عن معنى النّصّ اعتماداً على الاشتقاقات، كما أنه يدفع بقارئه إلى دائرة التشكيك الدائم، فالقارئ أمام عدّة من الأصوات الصادقة:
ــ صوت ليلي لحالم بغداد/ المبعوث/ صوت غريب/ غائب
ــ صوت والد سندباد/ ميت ولكنه معروف لدى الحالم
ــ صوت والد شارل/ الحي والمعروف لديه
ــ صوت لوالي مصر/ الغائب/
وماذا بخصوص صوت حالم بغداد؟ إن الكاتب يدفعُ بقارئه لعدم اليقين والشك بالصوت، وذلك اعتماداً على آليّة التناص مع القرآن الكريم "لا تأخذه سِنة ولا نوم"( )، فالقراءة أمام عدة مضامين وربما أكثر قد لا ندرك كنهها بعد، كما في حكاية سندباد، نلاحظ تضمين حكاية سيدنا سليمان بن داوود، فهل حقاً قبر سيدنا سليمان في تلك الجزيرة في آخر البحار، وكأن كيليطو لا يقيد قارئه بالتأويل، فنهاياته غير معروفة، ومفتوحة على الاحتمالات، ومتضاربة في الحكايات، فجاك القدري وشهريار وشاه زمان ينتقمون للغدر والخيانة، أما الماركيز فأنه يذعن لمصيره، في الوقت الذي يستمتع شهريار، ثم يقوم بتنفيذ عملية القتل، ولكن عملية القتل دائما تؤجل، لأن نهاية الحكاية لم تُعرف بعد، فثمة إرجاء دائم، يقول جاك: "قال جاك مئات المرات إنهُ مكتوب في السماء أنهُ لن ينهي قصته"( )، كما أنَّ كيليطو في حكاية "لا أحد، هذا هو اسمي" من أوديسيوس إلى السندباد"، يحاول أن يقدِّم لمفهوم الجزاء والعقاب، فرغبة الحصول على الكنز والسعي إليه، مصدر يحققُ السَّعادة، كما أنّ كشف الكنز قد يكون عقاباً، كما في حالة شارل، فالكنز دلالة على الفرح والعقاب، وكذلك فإنَّ العقاب تجلّى في تحطم وتفكيك مركب سندباد، فهل ثمّة عقوبة تنتظر كلّ من يخاطر في السفر بعيداً والإبحار بحثاً عن الكنز، أو بحثاً عن لغة ليجيدها، كما حصل مع بورخيس وهو يسعى لتعلم اللغة العربية، فكان جزاء تعلمه بعد ذلك، إن أسلم الروح، كما أن رحلة الطريق والبحث تتشابه بين سندباد وأوديسيوس، ولكنهما يختلفان في طريقة الرجوع والعودة، فثمة من ينتظر أوديسيوس في أرض أبائه، وهي إيثاكا، بينما لا أحد ينتظر سندباد، مع أن أوديسيوس وسندباد في ترجمة دانتي، يتجاهلان العودة لأرض الآباء، كما أنّ سندباد يقسم بالله ويتضرّعُ إليه، عندما أحسّ أنه على وشك الغرق والموت، فيقسم بأن تكون سفرته الأخيرة، ولكن أي سفرة يقصد بها الأخيرة، فعليه العودة إلى بغداد، وهو بذلك يقوم بسفرة أخرى، وكأنّه "يتمّ ممارسة تعسفيّة بنسف كلّ القوانين اللغويّة، والتمرد المستمر على القصد والاستقامة، إنها منهجيّة استفزازية، لا يروقها الاستقرار النّصي"( ). كما يتمُّ الإشارة إلى مفهوم "تفكيك الهوية"، فثمّة سندباد بحري وآخر سندباد الحمّال، "عند سؤال السندباد البحري: فما يكون اسمك؟، يجيبُ الحمّال: يا سيدي، اسمي السندباد الحمّال"( )، وهو تأكيد على التضارب بين الاسمين، مع غياب لصورهما، فسندباد في عروض السينما شاب/ صغير، أما في السرديات فهو "رجل عظيم محترم قد لكزه الشيب في عوارضه، وهو مليح الصورة، حسن المنظر، وعليه هيبة ووقار وعزّ وافتخار"( )، بينما في الأوديسة يتغير أوديسيوس إلى "صورة رجل عجوز طاعن في السن، وهيئة شحاذ"( )،
لكيليطو مشروع نقدي متميّز في تناول الموضوعات التي يتطرقُ إليها، فموضوعاته هي إحياء وفضّ نوعاً من الضباب عن التراث العربي، سردياته هي قصّ لحكايا إنسانية، محاولاً أن يفضفضها/ يفككها لتتوضّح للقارئ مكامن الجمال من حكمة وتأثير وقنوات معرفيّة، كالسندباد الذي يتمّ تقديمه كمسلم يتلفظ باسم (الله جلّ جلاله)، بينما عند دانتي، فلا اسم يُذكر، إنما هو "كما شاء أحدهم، كما شاء العلي، كما شاء الآخر، وفقاً لأمر علوي"( )، يقول كيليطو في كتابه المسار: "إنَّ الأدب يُدرسُ في ضوء الأدب"( )، فهو أمام نصين مختلفين ولكن يحفرُ عميقاً في مسارات هذه النصوص، رغبة في تمتين الجسور بين القراءة التراثية والقراءات الثقافية الجديدة، فجلجامش، بلوقيا، الإسكندر، وشهريار، الكلّ يتخلى بشكل مؤقت عن المُلك وحياة الرفاهية، ليسيحوا في الأرض، بحثاً عن حقيقة ما. جلجامش يعيش حياة متوحشة في البراري بحثاً عن نبتة الخلود، وكذلك الإسكندر بحثاً عن الخلود عينه، بينما شهريار لا يتوقُ للحياة بقدر ما يتوقُ للاندثار، بعد ما أصابه، بعكس جلجامش والإسكندر فهما يتمسكان بالحياة، وما يجمع جلجامش وشهريار هو موضوعة عمليات القتل، ثيّمة الموت/ الحياة، أما بلوقيا ففي سعيه، معرفة ورغبة في اكتشاف شخصية (محمد الرسول)، فالأربعة يهيمون في الأرض، مع أربعة مرافقين لهم، فالطريق دائماً يحتاج صديق، كما الحلم بحاجة لحالم ومبعوث للحلم، وبهذه التقابل بين الثنائيات، فالحية أخذت العشبة في غياب جلجامش عنها، والخضر أخذ/ شربَ من ماء الحياة قبل الإسكندر، وأوديسيوس رفض الخلود وفضّل البقاء مع أهله، بينما الإسكندر رفض البقاء وفضّل البحث عن ماء الخلود. وهكذا فكلّ هدم لفكرة في النّصّ، هو إعادة ترميم أو بناء لفكرة جديدة، ومعنى جديد؛ أيّ بمعنى ثمّة ما يريدُ النّصّ الإفصاح عنه ولكنه يبقى مخفيّاً للقارئ الجديد، أو لقارئ آخر، وكأن اللغة تراوغ عن نفسها، وتختلف من ترجمة لأخرى، فعند دانتي لا يجوز لسندباد التسبيح باسم الله، في الوقت الذي يسمح فيها للملائكة بالتسبيح باسم الله في السَّماء، فاللغة في التفكيك: "تعتبر قاعدة الكينونة، فالعالم بالنسبة إليها عبارة عن نصّ غير متناهٍ، ولأنّ اللغة تشكّل البشر باعتبارهم جزءاً من العالم، فإنّ البشر عبارة عن نصوص عند التفكيكية"( )، وربما هذا يدفعُ القارئ للتساؤل والبحث، هل سيدنا سليمان في الحكايا هو نفسه سندباد؟ وهل سندباد البحري هو نفسه السندباد البريّ؟ هل الاختلاف يكمن في الترجمات التي تناولت الحكايا، أم هذا الاختلاف يكمن في الشرق والغرب؟ ولربما هذا الاختلاف هو الذي تفسره ثقافة البشر، يقول سندباد الحمّال "والله إنَّ هذا المكان من بقع الجنان، أو أنَّهُ يكون قصر ملك أو سلطان"( )، كما أنّ اللغة لم تسعفْ بلوقيا فأخطأ، وهذا الخطأ كان سبباً في موت عفان. تخبّطُ اللسان/ اللغة كان السبب في وقوع كارثة، ولأن اللغة مراوغة، لا يمكن الحكم عليها وتفسيرها بحسب عملية التخاطب، يقول جبريل لبلوقيا "يا بلوقيا، اذهب إلى حال سبيلك فإنَّ زمان محمد بعيد"( )، فكيليطو يبتعد في كتابته السّاحرة عن التخندق في منهج معين، كما إنهُ لا يتناول النّصّ بعيداً عن النظريات النقدية الحديثة، في إثراء هذه النصوص القديمة، فيُخرجُ النّصّ الحكائي من حالة الانغلاق إلى حالة أكثر قُرباً لما يسمى بـ "لذّة النّصّ". في الحياة والممات، كلّ يبحث عن الكنز والحب بطريقته، كما سندباد الذي يتمّ تزويجه، ليجري تعميق جدليّة الحياة والموت، تقابلات وثنائيات، الرغبة واللارغبة، الزواج والمصلحة، الانتماء للمكان ومخالفته، ضيافة وعقاب ــ وإن كان الكاتب يتحركُ في مضمار التفكيكية ومفاهيمها الإجرائية، لكنه لا يصرّحُ بذلك علانيةً ــ لأن الانتماء للمكان يعني الموت فيه، وأن يلحق بأحبته الذين غادروا "إذا مات الرجل ندفنُ معه زوجته، وإذا ماتت المرأة ندفنُ معها زوجها"( )، زواج يرافقه موت ــ ليعودَ سندباد بعد ذلك وينكر على نفسه، أنه من أهل البلد/ فهو غريب، وليس له شأن بالمرأة التي هي زوجته، لأنها غريبة عنه ولا يرضى أن يُدفنَ معها، ويقدم سندباد عند ذلك مبررات عديدة، بأنه متزوج مسبقاً من امرأة في بلاده وله أولاد، وهو بذلك يزيدُ عليه العقوبة على نفسه، لأنه اقترف جرمين معاً، حتى يتمّ له التبرير، بأنه محمدي بحسب ترجمة أخرى، فثمّة ما يجمع شخصيات هذه الحكايا في الشرق والغرب، مع الاختلافات القائمة الثقافية والمعرفية.
جميعُ الحكايا الواردة في هذا المُنجز، ذات صلة بمشروع الأيديولوجي نفسه، لهذا النصوص، وهو الخطاب القائم على ثنائيات متضادة ومتقابلة، الاقتراب والبعد، الانغلاق والانفتاح، وبذلك يُلغي كيليطو فكرة المدلول المطلق، طالما كانت اللغة مراوغة وغير مستقرة، وقد أجرى كلّ التّأويلات، ليؤكد أنَّ ليس ثمة مركزية للمعنى/ للغة، فهو يحاول جاهداً، أن يزعزع من فكرة، أنَّ لا ثابت في المعنى، كما أنَّ الأيديولوجيا تتناقض ولا تتزامن معاً في شيء، وإن كانت نواتها تتقارب ولكن سرعان ما يحاول الكاتب أن يفجر هذه النواة ويباعد في دلالاتها، كما في تقديمه للعنوان الأول بـ "شهرزاد الأولى"، فثمّة تفكيك للإشارات اللغوية في هذا العنوان، أيهما يقصد؟ شهرزاد بشخصها، أم شهرزاد الحكائة، زوجة شهريار؟، فالقارئ أمام مفارقات دلاليّة، ويشتغل ضمن المقابلات أو وفق التوازي بين الدوال، ومع كلّ هذا التناقضات والشكوك حول النّصّ، فإن السّرد النقدي لدى كيليطو، يدفعُ بالقارئ دفعاً لبهجة مثيرة ولبساطة بعيدة عن عوالم الكتابة النقدية المضطربة، ولربما يسألُ القارئ/ الباحث، عن الوسم الإجناسي الذي يتبعه الكاتب عبد الفتاح كيليطو، فالسرديات عنده ملاعب شاسعة، تُعشِبُ فيها طقوس اللغة والتأويل، وفضاءات لا متناهية من حكايا ملوّنة المعاني.


أعلى