جمعة شنب - قاع الجحيم.. قصة قصيرة

دودو! يا عزيزتي!
لا أشعر بأنّني على ما يرام.
لقد كنت كذبت عليك، والآن أطلب الصّفح، بحقّ الإله العظيم، فسامحيني، قبل أن أصارحك!
وكما تعلمين، وربّما لا تعلمين، يا دودو، فإنّ الكذب عيبٌ وجريمةٌ في أعراف كثير من الخلق، وأظنّ أنْ ما من مناصٍ من الاعتراف، لا سيّما في ساعة عصيبة كهذه، لقد كذبت حين أكّدت لك أنّني قضّيت كلّ الوقت الذي مضى، منذ اجتاحنا الوباء، في شقّتي، على الطابق الثالث في (Little Italy) بمدينة منهاتن، منهاتن التي نسمّيها نيويورك، وأذكر أنّني وصفت لك، غير مرّة، ملامح هذا الحيّ الصغير، القديم، الذي لذتُ به من جحيم هذه المدينة، التي تُسخَط اليوم، ولعلّك تتذكّرين، يا دودو، يا صغيرتي، كم مرّةً أكّدت لك أنّ نيويورك مدينة فظّة، ومدينة ترانزيت، ومدينة عفاريت، وكيف أنّني احتميت منها بالحيّ الإيطالي، لا بدّ وأنّك تتذكّرين، فأنت، برغم ما يبدو عليك من بساطة، وبرغم وجهك الصغير، وقامتك الضئيلة، دقيقةٌ، وصاحبة ذاكرة صافية، لكنّني نسيت، في خضمّ كلامنا، نسيت أن أذكر لك أنّ أجرة الشقة باهظة، رغم قدم الحي، ووقوعه في قعر المدينة، باهظة، إلى حدٍّ قد يتطلّب من أحدهم الصفير عجبًا. إنّ قعور المدن خطيرة، بصورة ما، لكن، لا بأس، فالوقت لا يسعفني في الدفاع عنها الآن، ولا في قدحها، الله وحده يعلم كم إنّني مرهق، وموجوع!
لا بأس يا دودو، لا بأس، إذ لم أجد بُدًّا من ذكر هذا، في عجالتي، اليوم، طمعًا في أن تتفهّمي حاجتي إلى المال، وبالتّالي، قد يكون عليك أن تغفري لي خطيئتي الكذب والخروج للعمل، مدّة ثلاثة أيّام متواصلة، في قلب الوباء، وكما ترين يا دودو، كان عليّ النوم في بيت السيّدة جوليا، التي ماتت أمس، عن خمسين عامًا، ماتت، بالطبع، مثل عشرات الألوف، بسبب هذا الفايروس الذي جرؤ وفاق نيويورك وحشيّة وصلفًا، وراح يحصد أرواح قاطنيها، دونما رحمة، أو وجل، لقد كذبت يا دودو، لكن، هاأنذا أخبرك بالحقيقة، ولا بدّ أنّك تعلمين كم إنّ هذا الوباء سريع، وبصورة ما، يبدو مزاجيًّا ومتعجرفًا!
أرجو، يا دودو، أن تتفهّمي الأمر، فالحياة هنا تختلف كثيرًا عنها عندك، وعنها، في أيّ مدينة أمريكيّة اخرى، تختلف، استطيع المجازفة بالقول، أنّها تختلف عن كلّ مدن العالم، يا عزيزتي.
إنّ العمارات الطويلة في قاع المدينة ووسطها تحوي غيلانًا في بطونها، على العكس من تلك العمارات الجيريّة الهائلة، في أعلاها، حيث يقطن كثير من اللّاتينيّين والسود، في هارلم مثلًا، عند الشارع 116، تلك مبانٍ مكدّسة، وقبيحة، فيما السكّان هناك لا يأبهون، البتّة، للأناقة، ولا للباقة، حتّى إنك تكادين تصمّين أذنيك الصغيرتين، وأنت مارّة من هناك، لكثرة الألفاظ الفاحشة التي تتفوّه بها النساء، لا سيّما أولاء اللائي يأكلن البوشار والهامبورغر والدجاج السمين، المقلي بالزيت، وتبدو على وجوه كثيرات منهنّ، بثورٌ جلديّة، غير محبّذة على الإطلاق.
إنّ موظّفي (Wall Street) الأنيقين، في قاع جزيرة منهاتن، حالة خاصّة، متفرّدة، لا تشبه حالة أيّ حيٍّ في قاع مدينة، حتّى لو على ظهر المرّيخ، ولا ادري ما إن كانوا اكتشفوا أيّ (Down Town) في المرّيخ بعد. إنّ هؤلاء الموظّفين، الذين يرتدون أحذية بآلاف الدولارات، وربطات عنق بالمئات، هؤلاء، وإن كانوا مصبوبين كالدمى، إلّا أنّهم قساة، ويمضغون لحوم البشر، كما يمضغون وسائد علكة (Chiclets) و (Trident) ها أنت ذا ترين، لا بدّ، مثلي، كم أنّ هذا الفايروس لا يأبه كثيرًا بربطات العنق وحقائب السامسونايت، وأغلب ظنّي أنّه قد أخذنا بجريرتهم، لا محالة، ذلك أنّنا لم نذهب، يومًا، إلى مكاتبهم في الطوابق العالية، أو إلى بيوتهم الباذخة في الضواحي، ونطلق عليهم النار.
لا بدّ أنّك رأيت نيويورك في الأفلام السينمائيّة، رأيت الزحام في قاع نيويورك، ووسطها وأعاليها، ورأيت سيّارات الليموزين الممطوطة بصورة مبالغ فيها، إنّ في هذه السيارات زجاجات شمبانيا فادحة الثمن، لو تعلمين. لقد صادف وظهرت أنا نفسي مع المشاة في أكثر من فلم، أعلم، يا دودو، أنّ كلّ الناس، تقريبًا، قد رأوا نيويورك على الشاشات، ولربّما تمنّوا العيش فيها، لا سيّما الشباب، أصحاب الطموح والتقدير العالي لذواتهم، لكنّني أعيش فيها، على الأقلّ، حتى اللحظة التي أكتب لك فيها.
أنا لست بخير، وسأترك حديث الهراء عن المدينة لمرّة أخرى، فثمّة الكثير ليقال، لستُ بخير، ولا تحزني، لكنّني سأكذب عليك مجدّدًا، لو جرؤت وقلت أنّني غير حزين، أنا حزين يا دودو، وضعيف، يعلم الله، وأفكر، ربّما للمرة العشرين، أفكّر في أن أطلب منك أن تتزوجي رجلًا لا يتعمّد التّاتأة في حديثه، ولا يكتب حكمًا على فيسبوك، إنّ رجال الأعمال ورجال العصابات والسّاسة المهمّين هنا لا يتأتئون، حتّى حين يكون في فم الواحد منهم سيجار كوهيبا ثمين، إنّهم أناسٌ عمليّون منتجون ومباشرون، ولا يقولون الحكم، وأنت يا دودو طيّبة وبسيطة، أبسط بكثير من السلحفاة التي أسمع بوضوح صوت مضغها تحت سريري، إنّ السلاحف مخلوقاتٌ هادئة، وعنيدة، وتبدو كما لو أنّها صاحبة مشروع، حتى لو اقتصر على العيش لمدّة طويلة، على عكس هؤلاء الرجال، فإنّهم لا يليقون بك، ذلك أنّ مشروعهم الوحيد التباهي، وفي أغلب الأحيان يتبدّى كم أنّ شواربهم أعزّ عليهم من نسائهم، لدرجة أنّهم يقسمون بها، ويرفعون من شأنها، فيما يحطّون من شأن النساء، الصغيرات والكبيرات، على حدٍّ سواء، هذا فوق أنهم معتدّون أكثر مما ينبغي، تزوجي رجلًا رقيقًا، خجولًا ما أمكن، إنّ الرجال الخجولين رقيقون وأصحاب قيم عالية في الغالب، فوق أنهم يتفهّمون حاجات النساء، في نهاية الأمر، بل إنّ الرجال الخجولين هم فحول الحياة، بصورة ما، ولا أظنّ خطيبك الخجول سيمانع شراء ذهبك من سوق الصاغة، في قاع عمّان، حذار أن تشتري ذهبًا من الأحياء الجديدة، يا دودو، ويعنّ على مخيلتي السقيمة الآن، بائع الفستق الساخن، في مدخل السوق، عند شارع الشابسوغ، أودّ أن استحلفك بالله أن تصرّي على خطيبك أن يتوقّف هنيهة، لتشتري لك فستقًا، من عند الرجل اللطيف، في مدخل السوق، لقد كنت أشتري منه بعشرة قروش، كلّما مررت من سوق الذهب، لا بدّ وأن كيسه الورقيّ الصغير، قد صار بنصف دينار، احرصي على أن تنقديه دينارًا، نصفًا عني والآخر عنك، إنّني أكتب إليك، وأخشى أن يكون لجأ إلى الأكياس البلاستيكيّة التافهة.
سأقول لك سرًّا صغيرًا، فأنا ذاهب الآن إلى المجهول، وأريد أن أريح ضميري: التسجيل الذي أرسلته لي من عندك أول أمس، عن سيّارات الشرطة، التي جاءت في موكب، لتطلق زواميرها أمام بيت الطفل الضّجِر، الغاضب، الذي اتصل والده بالبوليس، وأخبرهم أنّ عيد ميلاد ابنه يصادف اليوم، وأنّه ناقم، ذلك أنّ الحجر المنزلي قد حال دون حضور أصحابه حفل عيد ميلاده، هو وجه واحد لعملة بوجهين، كما يقولون، وهنا، لا أجد مناصًّا من أن أخبرك، أنّ السيّدة التي استقبلت مكالمتي قبل ستّ ساعات، على رقم الطوارئ 911، لم تكن لطيفة البتّة. لقد كان سؤالها فظًّا، ولا يناسب واحدًا في مثل حالتي، عاش جلّ حياته في بلد يتكلّف الناس فيها الكثير عند المخاطبة، ليس من اللّائق يا دودو أن تسألني تلك السيّدة ما إن كنت أموت في تلك اللحظة أم ليس بعد، إنّ اللغة الإنجليزيّة فقيرة، ومباشرة بصورة فظّة، حتى على لسان سيّدة.
أنا حزين، ولا أريدك حزينة، بمقدورك الزواج من بعدي، وسأنتظرك، كما اتفقنا مرة، سانتظرك، يا دودو، عند مدخل النفق النوراني، ثمّ اخطفك، وأحلّق بك، ونطوف طويلًا بين أناس ودودين، نزيهين، خفاف، غير معتدّين بشيء، ويتمتّعون بالسكينة.
لقد تركت لك مع Ted أشياء بسيطة، سيعمل على أن تصل إليك في حال لم أعد، تعرفين تِد، عازف الجيتار في المتنزهات ومحطات القطارات، الذي يقطن معي ونتقاسم، من ثمّ، أجرة الشقّة، لقد سبق وفتحت الكمرا خلال حديثى معك، ورأيتِ كيف نعيش في شقتنا، إنّها، كما تعلمين يا صغيرتي، غرفة صغيرة، وصالة بحجم زنزانة في سجن الكاتراز، تذكرين فيلم الكاتراز يا دودو، إنّني أذكر جيّدًا، يوم اتصلت بي، وأخبرتني أنك تشاهدينه، كما سبق ورأيت تِد وهو يعزف من فوق سريره، شبه الملاصق لسريري، هو أشقر وفوضوي وطيّب، وسبق وأعجبته فكرة النفق الضوئي، ويريد أن يكون صاحبنا هناك، فوق أنّه يطرب لصوت عبد الباسط حين يعنّ لي أن أسمعه بحضوره، لقد أمسك جيتارته مرةً وراح يعزف، وسألني أن أوقف التسجيل لحظة، وأشرح له " وإذا الموؤدة سئلت، بأيّ ذنب قتلت" وراح يهزّ رأسه، وقتئذ شعرت كما لو أنّه تحوّل إلى قدّيس لطيف، حين كان يهزّ رأسه بوقار فائض، فيما أصابعه تنقر اوتار جيتارته. قد تقولين إنّ تد يطلق شنبه الأشقر برعونة، فأقول لك إنّ شنبه العريض ولحيته الكثّة ليسا دليل اعتداد وفحولة، بقدر ما هما تعبير عن لامبالاته، برغم أنّه يرعى امرأة مسنّة، يومين كلّ أسبوع، ومنذ ثلاث سنوات، وبصرامة، دونما فوضى، ودون أن يتقاضى، لقاء هذا، ملّيمًا واحدًا، إنّ تِد، لو تعلمين، رجل غير معتدٍّ بشيء، البتّة، ونبيل، بصورة ما.
أنا، يا دودو، لا أهذي، لم أدخل غيبوبة من أيّ نوع، لكنّ الأفكار متزاحمة، ويخيّل إليّ أنّ الوقت اللعين غير كافٍ بالمرّة، لهذا تركت لك أشياء مسجّلة بصوتي، لا يحسن أن أرسلها لك الآن، حتى لا تفزعي، وإن قيّض الله لي الشفاء، فسوف لن تسمعيها.
لقد ماتت ديبرا أيضًا، إنّه لأمر مفزع أن تموت على يد الفايروس غير الرّحيم، لقد نحلت في السنة الأخيرة، وشحبت مثل ساق بامبو عطشان، رغم أنّها شابّة يافعة، لكنّها أسرفت في المدّة الأخيرة بتعاطي المخدّرات، إنّها، وكما تعلمين يا دودو قد استنزفت مالي، وصرفته دون هوادة على الكوكائين، ولم يتبقّ على مقابلتنا كزوجين، في دائرة الهجرة سوى ثلاثة أسابيع، كما تعلمين، وأحصل على كرتي الأخضر، ويكون بمقدوري السفر وخطبتك، يا دودو. يا لله كم كنت ناحلة وضئيلة على الكاميرا، أوّل ما سمعت عن وصول الفايروس إلى نيويورك، كنت شاحبة يا دودو، وكأنّما دخل الفايروس غرفة نوم والديك الكريمين، بالطبع.
يا للشّقاء، يا دودو الطيّبة الوادعة، لقد هذرتُ كثيرًا، وكنت أريد أن أقول أشياء أخرى، لكن سيّارة الإسعاف تزعق أسفل العمارة، وأرى أشخاصًا يرتدون بدلات كتلك التي في أفلام الحروب البيولجيّة، عمومًا، يا صغيرتي، فقد تركت لك، مع تد أيضًا، رقم دخول صفحتي على فيسبوك، لقد كنت أكتب أشياء، وأحدّد جمهورها ب "أنا فقط" أريدك أن تقرأيها، وتفتحيها للعامّة، وإن حدث ولم أتواصل معك، فإنّني أريدك أن تكتبي نعيي باللّغتين، العربيّة والإنجليزيّة، وتوقعي ب دودو، يا صغيرتي، يا دودو!

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى