بهاء المري - وظلَّت تنتظر..

الوقتُ شتاءً والسُّكون قاتِل، تُسَلِّي نفسها بالتلفاز تارةً، وبالقراءة تارةً أخرى؛ من دون الحصول على طاقة.
تلجأ إلى سطح الفيلَّا تبتغي مُتنَفسًا لها خارج الجدران المُطبِقةِ على ضُلوعها، اتخذَتْ رُكنًا من السطح في الجانب البحري؛ لتجلس على أريكة تحت "البرجولة" المُغطَّاة بالقِرْميد اليوناني، أطلقَت العنانَ لبصَرها ليَسْرحَ في الأفُق البعيد عَبْرَ مياه البحر، وجدَتْهُ غريبًا عنها، لم يَكُن البحر الذي تعرفه، مياهه تضربها زُرقةٌ قاتمة تميلُ إلى السَّواد، وبعض طيور النورَس تتقاتَل بمناقيرها وتَنعق بأصواتٍ صاخبة مُرعبة تتناهَى إلى سمعِها.
عادت لتجُولَ بناظريْها فيما حولها من مبان، تلَمح باب فرندة الفيلَّا المجاورة مَفتوحًا وأصائِص الورود والزهور تتوزع بتناسق بديع في جنبَاتها وعلى حَوافِّ سُورها، راحت تُملِّي عينيها بجمالها.
يخرجُ من الداخل شابٌ وسيم، يمسكُ بمرَشَّة مياه ويهزُّ الورود والزهور لينفض عنها الغُبار ثم يسقيها برفق، ينتقل بتؤدَةٍ وسعادةٍ بدَتْ على وجْههِ من إصِّيصٍ إلى آخر.
يُلقي عليها الشاب التحية، تُبادله إياها، على استحياءٍ يبدآن حديثًا اقتضاه بَدْء التَّعارُف، شيئًا فشيئًا اتسَعتْ مساحة الحديث، وجدَتْ في هذه المساحة أنيسًا لها.
في الصباح التالي توجَّهت إلى السطح وجلسَتْ بذات الرُّكن تحت "البرجولة"، أشعلَتْ سيجارة وأرسلَتْ بناظريْها إلى أُصُص الوُرود والأزهار، خرج عليها بابتسامةٍ صافية فور جُلوسها وكأنه كان على مَوْعدٍ معها، فرِحَتْ وانفرَجتْ شفتاها عن ابتسامةٍ رائقة.
يدعوها لجلسةٍ على رمال الشاطئ عند العَصاري، كان يومًا صافيًا انكسرَتْ فيه حِدَّة البرد وصفَتْ السماء من الغُيوم، تغَلْغَلتْ أشعة الشمس في جسدها وهما يتمشَّيان يقصِدان الرمال قُرب المياه، جاوَرها عن قُرب؛ شعرَت بقشعريرةٍ مُفاجئةٍ تضربُ جسدها حينما لامَسه وهو يجلس إلى جوارها، تذكَّرت أول لمسةٍ ليدها من حبيبها في أيام الصِّبا وكيف ارتعدتْ يومها بعُنف، لاحظ ارتعاش جسدها، مدَّ يديه واحتضن بهما يدها، شعرَتْ بدفءٍ أكثر يتسرَّب إلى أوصالها؛ ولكن سرعان ما سحَبتْها ببطء من يده.
عادت من اللقاء مَسرورة، شابٌ مثقَّف، حُلو القَوْل يملكُ ناصيةَ الحديثِ وجَذْب أذُن المستمع، غير متزوج، لديه أشغالٌ كثيرة ولكنه يُؤمنُ بأنَّ لكل شيءٍ حقًا وأوله بدَنُه، يأتي إلى هذا المكان دائمًا ليَخرُج قليلاً من مَدارِ ساقية مَشاغل الحياة، هكذا حدَّثها عن نفسه.
يَتكرَّر اللقاء؛ ولكنْ هذه المرَّة في استقبالِ أحد الفنادق بشاطئ العَلمَين، صمَّمَ على تناولها الغَداء معه، لم تُمانع، اختار مكانًا غير المطعم، كبائن مفتوحة قُرب الشاطئ؛ كل واحدةٍ منها مُحدَّدة بجوانب أربعة تفصلها عن غيرها؛ فيتحقَّق من خلال ذلك خُصوصيَّة، أو كما يُسمُّونها أماكن العائلات، جمَع العاملُ ما تَبقَّى من طعام وعادَ إليهما بمشروبات.
يأخذه الفضول إلى معرفة حكايتها، يسألها بصوتٍ رقيق وابتسامةٍ ساحرة:
- لِمَ هذا الحزن الذي يكسُو ملامحك؟
أطرقَتْ، خشِىَ أن يكون قد جرَح كبرياءها فاعتذر لها عن فُضوله.
وجَدَتها فرصة لأنْ يَسمعها أحَد، لأنْ تُزيح شيئًا مِن جبَل الهمُوم الجّاثِم فوق صدرها، راحَت تحكي بصوتٍ مَخنوق يَلفُّه ألم:
- في بداية هذا الأسبوع؛ عادَ من عَملِه مُتأخرًا كعادته، قصَدَ غرفة النوم مباشرة؛ لم يُكلِّمني كلمةً واحدة؛ تبِعْتُه لأتحدَّثَ معه؛ لأعْرفَ مَدَى ذلك الفُتور القاتِل الذي يَضربُ حياتنا ومتى سَينتهي استغراق عَمله لكلّ وقته؛ - حتى في أيام الإجازات - ويُهملُ مشاعري.
استبدلَ ملابسه سريعًا وتَمدَّدَ في السَّرير وأْولاني ظَهره وسَحبَ غِطاءً خفيفًا شدَّهُ عليه ليُخفي به وجهه، فارَت أعصابي وتملَّكني الغضب، صرختُ فيه:
- أين وعُودكَ الماضية؟ أين حقوقي كأنثى؟ هل تعلم منذ متى لم تَقربني كزوجة؟ أمْ أنَّ أموالكَ هي كل ما يَحتلُّ ذاكرتك؟
يبدو الامتعاض على وجه الشاب، يسألها برفق:
- إلى هذا الحد يُهملك؟!
تستمر:
- نهضَ من رقْدتهِ وثارَ في وجهي ثورةً عارمة، انتابَتْهُ حالة مُفاجئة من الهياج الهيستيريّ، همَمْتُ أنْ أتكلَّم فلم يَخرج صوتي، تحوَّل كلّ انفعالي في لحظة إلى نَوبة بكاء لم تُثِر شفقتَه، رفعَ سبَّابتهُ في وجهي وجحظَتْ عيناهُ وانتفخَتْ عروقُ رقبته وانطلق كالمدفع:
- لن أكلِّمكِ، كرهتُ الحديث مَعكِ، كرهتُ الأسطوانةَ المشروخةَ عن انشغالي عنكِ، عن شعوركِ بالوحدة، فأنتِ وشأنك في شُعورك بها، ماذا تريدين مِنِّي؟ أأتركُ أعمالي وأجلسُ إلى جواركِ نُمثِّل قِصصَ الحب التُّركيْ؟
يُتابعها الشَّاب باهتمام بالِغ، تصمُتُ لبُرهة، يمدُّ يده برفق ليرفَع وجهها بهدوءٍ إلى أعلى؛ ويدعوها بصوتٍ نالَ منه الحزن إلى أن تُكمل:
- ثم ماذا؟
تنظرُ في عينيه، تَلمح مدَى التأثُّر الذي بَدا على وجهه، تُكمل وقد انفرجَتْ شفتاهَا عن ابتسامة رقيقة ولكنها حزينة:
- ثم اقترحَ إبعادي عنه؛ أرسلَني إلى هُنا بإرادته لألتقيكَ وأحكي لكَ عن هُمومي، قال في ثورته تلك: لدَيَّ اقتراح أخير وبعدها لنجد حلاً لهذا الهوَسْ، اذهبي لمدة أسبوع إلى فيلَّتنا في الساحل الشمالي حتى تهدئي وبعدها فلْنرَ ماذا سنفعل.
يُقاطعها:
- لا اُصدِّقُ مثلَ هذه القسْوة.
تَسترسل:
- حاولتُ أن أُثيرَ لديه رُجولة مَنسيَّة في زوايا تجارته ومَخازنه ومَشاريعه الاستثمارية، ولكنه لم يَستطع أنْ يَرصُدَ نورًا يشعُّ في جسدي؛ ولا نِيرانًا تلتهم مشاعري وأنا أنتظره كزوجة، كأنثى لها مُتطلباتها.
لم أترَدَّدْ في قبول اقتراحه، فالبيتُ صار بالنسبة لي سِجنًا انفراديًا، وقبل لُقياكَ كانت الفيلاَّ أكثر سِجنًا، لولا لجأتُ إلى السطوح ووجدتُكَ وتكلمتُ معكَ.
يربتُ برفقٍ على ظهر يدها الممدودة على المنضدة ويسألها:
- هل تَزوجتِه مِن دون قناعة؟
تَسحب نفَسًا عميقًا تُخرجه زَفرة طويلة وتُكمل:
- كان حبُّنا مُستعِرًا في بدايته، ولمَّا بلغَ من النجاح في أعماله مَبلغًا، وجدْتُني وكأنِّي لم أعُد في حياته، صارت حياته كلها مُقابلات للعُملاء، سَفريات، اجتماعات، نَهمًا للمال مِن دون حساب، وحين يعودُ للبيْت؛ يكون مُنهكًا كمَن يحملون أثقالاً من عُمال المعمار، وإذا حدَّثتهُ في شيءٍ يقول "ليس الآن، ليس الآن" لم يعُدْ يَتقبَّل مُجرَّد النِّقاش، يقول:
- ما مَعنى وِحدة؟ كل طلباتك مُجابة!
لم يفهَم أنَّ طلبات الأنثى ليست كلها مادية، إنما التواصل والإحساس بالآخر، الشعور بالأمان النفسيّ، الاحتواءُ ولو كان الطَّرفان يغرقان في المادِّيات، صار البيت سِجنًا بمعنى الكلمة، لم أعُد أتحمله ولم يَعُد يَتحملني.
لم يُقاطعها، كان مُنْصتًا إليها بعناية، لاحظَتْ على وجهه ردّ فعل آلامها وهي تحكي، تنقبض ملامحه حين تتوتَر وتنفرج حين تَهدأ.
ولما بلغَتْ في الحَكْي تفاصيلَ ذلك اليوم العاصِفْ سالت دموعها؛ وشرَعتْ في فتح حقيبة يدها، كان أسرع منها تَصرُّفًا، هَبَّ إلى علبة المناديل وانتزَع منها اثنين أو ثلاثة أعطاها لها.
تَرفع إليه وجهها بعد تَجفيف دموعها، فإذا ملامحه قد بَدا عليها أثرَ حَكْيها، أومَأ إليها لتُكمل فاسترسلَت:
- وبعد ثورتهِ هذه، لو كنتُ قد نطقْتُ حَرفًا لقَتلني، لم أرَ منه ثورة مثل هذه الثورة، ابتلعْتُ الكلامَ ساعَتها، ليس مَنعًا لزيادة حِدة الشِّجار معه؛ وإنما خوفًا ورُعبًا، لأول مرّة أجد حياتي في خَطر، لم يكن بهذه الحدَّة من قَبل، ولكنْ زادَتْ بعد كثرة مُجادلتي له حول اهمالي كزوجة، لاحظتُ ذلك بعد أن عثرتُ ذاتَ يوم في ملابسه على أقراص "الترامادول" المخدِّرة.
يتهدَّج صوتُها بالبُكاء، تُمسِكُ عن الكلام، تعود دموعها لتنحدر على وجنتيها من جديد، في هذه المرَّة انتزع مناديلَ جديدة من العُلبة، ولكنه لم يُناولها لها، مدَّ يده بها وراح يُجفِّف دموعها.
ما أن فَعل هذا؛ حتى ارتفعَ قليلاً صوتُ بكائها، زادَتْ دموعها في الانحدار، اقتربَت منهُ، مالتْ إليه من خلال مقعدها، طوَّقَتْ كتفه بذراعها وضمته إليها قدر ما استطاعت وهو جالسٌ في مقعده، اقتربَ منها برأسه، طبَعَتْ على خدِّه قُبلة، اعتدلَ في جلسته، مالَ نحوها على حين غِرَّة، التقطَ شفتها بين شفتيْه، ارتدَّتْ إلى الخلف، انتَصبَتْ واقفة، طلبَتْ منه الانصراف؛ فانصرفا.
في اليوم التالي شعرَتْ بلهفةٍ إلى رُؤيته، إلى الحديث معه، إلى لمس إحساسه بالاهتمام بها، قامت إلى هاتفها تطلبه ولكنها عادت وأحْجَمَتْ، تذكَّرَتْ أنها زوجة، وكذلك تلك اللَّقطة حين التهمَ شفتها على غَفلة، كانت هذه الصورة تُعذِّبها في الليلة الفائتة.
تحرَّكَتْ في الصالة ذِهابًا وإيابًا، مَشاعر مُتناقضة تَعْتملُ في نفسها، شُعورٌ بارتياح لم تَشعُر به من قبل؛ يأخذها إلى شوقٍ جارفٍ لأنْ تراه الآن؛ أو تتحدثَ معه؛ ثم رَفضٌ داخليّ لما وقَعَ بالأمس ينحُو بها إلى فِكرة قَطْع علاقتها بهِ فورًا عند هذا الحدّ.
تَنكفئُ على نفسها؛ تُلقي على داخلها نظرة لتُدركَ كُنهِ ما حدَثْ وما يُمكِنُ أن يَحدث، لم تَهتدِ إلى شيء؛ هذا التناقض يُعذِّبها، فتحَتْ هاتفها، أرسلَتْ لزوجها رسالة: " أنا في انتظارك".



تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى