محمد فيض خالد - القالوح.. قصة قصيرة

ظللتُ أرقبُ القوافلَ العائدةَ من هذا الطريق عُمرا ليسَ باليسيرِ، حتى بعد أن كبرت ، أرى في وجوهِ الرِّفاقِ الذين سلكوا هذا الدّرب ، الجَسارة والإقدام ، وفي قلوبهم القوةَ والحزم اللذان حُرِم منهما كثير من أبناءِ جيلي وأنا منهم ، لم يكن لنا من نصيبٍ ، لنخوض غمار التجربة ، ظلّ النّاس في قريتنا ينظرون إلى من يُقدِّم على هذا الفعل ، أنّه أُوتي ما لم يؤت أحدًا من العالمين ، ففيه أمارة دالة على أن كيانا مستقلا، وشخصية منفردة قد نبتا له ، بل وجواز مرورٍ لعالمِ الرّجولة المُبكر ، هكذا جرت حكايا فتيان القرية ، وسُمّار الليل فوقَ المصاطبِ تحت خيوطِ القمرِ والونّاس ، ينتظرون مقدم موسم جمع القصب ( الكسر) بفارغِ الصّبرِ.
اشبعت من قصصهم ، دفعتني لأن ألجّه بخيالي القاصر دون رويةٍ ، انتظر مقدم القافلة، استقرئ وجوهِ أهلها المغبرة ، وملامحها الطافحة بسيما الفحولة قبل أوانها ، احدِّق في شواربهم الرفيعة كخيوطِ الدوبارة ، ولحاهم التي تناثرت شعراتها الصُّفر فوق الخدودِ الضّامرة ، اتسمّع أصواتهم تلك التي اختلطت فيها ، بقايا الطفولة وبواكير الفحولة والنضّج؛ تُلهب حماس حميرهم المُجهدة تحتَ أوساقِ ” الزعزوع ” متصايحة : شي شي حا ، تحثها كي تُكمل المسير للنهايةِ.
هناكَ على رأس ِ الدّربِ اتخذت مجلسي اليومي ، متخفيا في ملابسي من البرودةِ، انتظر تقاطر أهل ” القالوح ” يسوقوا حميرهم التي تئن تحت أوساقِ الزعزوع الثِّقال ، يتقاطر العرق من أجسادها المُنهكة ، وبأيديهم قطع القصب يقضمونما في بهجةٍ ، تلفهم احاديثهم المرحة التي لا تنقطع ،وعبارات الترحاب يستقبلهم بها ذويهم ، تشعرهم وكأنّهم عادوا لتوهم من غزوةٍ ، عودة الابطال المظفرين ، كيف لا .؟! وهل يذهب مذهبهم إلا كُل شجاعٍ صنديد ، امتلأ قلبه شجاعة ، يكفيه فخرا أنّه تخلى عن متعِ دنياه ، فسلخَ عنه عطائه الذي تدثّر بهِ من أولِ الليلِ ، وهبّ وسطَ أكوامِ الصَّقيع ، ليشقّ طريقا ويدفع بنفسهِ في مجاهلِ الظلام ، وكُله عزم وإرادة على ألّا يعودَ حتى يجلبَ ما يكفي بهيمته من طعامٍ.
في قريتنا من أولئك الأبطال كتيرين ، عُرفوا باسودِ ” القالوح ” تتمنى كُلّ أمٍّ ، أن يكبر ابنها ليصبحَ مثلهم ، تُداعبه وسطَ الخرقِ البالية ، تدع الله أن يحفظه حتى يصبحَ رجلا مثل فلانٍ وعلان .
عرفته شابا يافعا ، شمّرَ عن زندهِ القوي ، وأبرز َ ساعده المفتول ، عصّبَ رأسه بعصابةٍ من الصّوفِ البني ، مُحتذيا نعله الميري الثقيل ، يمتطي ظهر َ حماره العالي القوي ، يشمخ بهِ بين رفاقهِ ، يدندن بأغاني الرّيف وأهازيجه ، يمرر يدهُ فوقَ أطرافِ شاربهِ الأصفر النابت حول شفتيهِ العراض . يتنمّر فيمن حوله ، تبحث عينيه في لهفةٍ وجوع ؛ عن معشوقتهِ التي انتظرت مقدمه فوق السطحِ مُبكِرا ، ترميه بلحظها هانئة ، بعد أن عادَت إليها روحها ، لقد رجع صاحبنا سالما تحتَ حملهِ الكبير ، ولم يخيب ظنّها ، لم تُخطئ حين تباهت بهِ بين بناتِ حالتها يوما : دا سبع وسيد الرجاله .. دا عمره ما رجع من القالوح فاضي ..
تمضي الأيام ويذهب صاحبنا مع والده لخطبتها ، ينشرحَ صدر والدها ، وهو يضع يده في يدِّ صاحب أكبر وسق ” قالوح” في البلدِ، مكسب ٌ كبير وشرفٌ أكبر ، أن يكون من نصيبِ ابنتهِ، حتما سترتع مواشيهِ في ” الزعزوع ” طوال الموسمِ، ولن يحتاج إلى معونةِ الأغراب ِ، خاصة وأن أبنائه صبيةً صغار .
لم يتركني شيطاني اتلذذ بأمانيّ ، بل ألقى بيّ لهذا الطريق الموحش ، قلت لقريبٍ لي يوما : عايز أروح القالوح وياك ..
نظرَ نحوي وقد توقّفَ عن أكلهِ فجأةً ، قال مُنبهرا : القالوح مرة واحدة..؟!
ابتلعت بقايا ريقي المتحجّر ، وأنا استغفر الله لهذا التسرّع ، وبعد صمتٍ سادَ طويلا ، عادَ لطعامهِ، رُفعت الطبلية ، ثم دَلَقَ كوز الماء البلاستيكي الأحمر في فمهِ ، تجشّأ كعادتهِ بصوتٍ هادر ، رماني بنظرةٍ ثانية قبل أن يمرّر يده فوق َ فمهِ ، ثم مسحها في صدرهِ ، قال دفعةً واحدة : أمر عليك قبل صلاة الفجر ، جهز حالك ..
رجعت البيت مشتت الذهن ، أيّ ورطة تلك ، لم اخبر أحدًا بهذهِ الغزوة المفاجئة ، كُلّ ما فعلته إني غرست نفسي في الفراشِ ، وألقيت فوقي الغطاء ، رويدا رويدا هدأت الحركة في الدّارِ ، وخفتت الأصوات فلا تسمع إلا ركزا ، غابَ الجميعُ في نومهم إلا أنا ، ظللت اتقلّب فوقَ جمرِ الانتظار، افكر في المجهول ِ الذي ينتظرني ، اجهدني الفكرُ ، وبعد مده داهمني سلطان النوم ، وأصابني سهمه الذي لا يخيب ، امتدت يد أمي لتوقظني ، انتفضتُ من مكاني ، وفي نفسٍ واحد صرحت : القالوح ..
كان النّهار قد علا ، افترشت الشّمس الدّرب بعد أن شاخت فوقَ حيطانهِ ، لبست حذائي البلاستيكي ، هرولت ولكن هذه المرة لم اقف أمام الحشودِ القادمة ، بل تواريت خلفَ جدارٍ خوفا من توبيخِ قريبي ، لقد غادرَ البارحة بعد أن فشلَ في ايقاظي ، ظللت أتوارى منه خجلا طوال الموسمِ، لكن ما وصلني عنه ساعتئذٍ من استهزاءٍ ، يكفي لأن ألعن ” القالوح ” وأيامه .

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى