جمعة شنب - عمارة تحت الحجر.. قصّة قصيرة

شعر كريم بكثير من الرضا، حين تيقّن من أنّه أنجز مهمّته على أكمل وجه؛ عزّز شعوره هذا، أنّ أحدًا من قاطني العمارة لم يتدخّل، برغم الجلبة التي وقعت في الشقّة الطابقيّة، على الطابق الرابع.
كانت عمارة (الخرزة الزرقاء) الواقعة على شارعين عريضين، مكوّنةً من إحدى عشرة شقّةً، عدا التسوية التي يقطنها السيّد كريم، المغترب الستيني، منذ ثلاث سنين، وتملكها المواطنة السيّدة ليلى، وهي أرملة في النصف الثاني من الأربعينات، تعيش وحيدةً في الطابق الأخير منها، بعد أن تزوّجت بنتها الوحيدة، وهاجرت إلى كندا، وصارت تتواصل معها عبر تطبيقات FaceTime و WhatsApp و Messenger بالطبع.
طرق كريم باب ليلى بهدوء، ولحظ أنّ العدسة الصغيرة المثبثة في باب الشقّة القرميدي العريض، قد أعتمت؛ ما يعني أنّ السيّدة قد رأته، وستفتح له، دون ريب، اعتقادًا منها أنّه قد أحضر إيجار قبوه، بعد أن قامت بحثّ السكان على دفع الأجور، على صفحة واتس أب، التي استحدثتها، وأضافت عليها كلّ قاطني العمارة، في أوّل يوم من أيّام الحجر.
لقد انقضى أحد عشر يومًا على الحالة هذه؛ لم يمرّ واحدٌ منها دون تذكير من السيّدة المالكة للسكّان، بأنّ أجور الشقق هي مصدر دخلها الوحيد، وقد لمزت أحد القاطنين، وهو موظّف حكوميّ غامض وماكر، ترفّع إلى الدرجة الأولى قبل سنتين، ولا يُرجّح أن يُرَفّع إلى الدرجة الخاصّة، ويحمل، من ثمّ، جواز سفر دبلوماسيًّا، لشبهة رشوة، كتبت عنها بعض مواقع الفضائح السقيمة؛ غمزته السيّدة ليلى، غير مرّة، مُلمحةً إلى أنّ من العيب تأخير الإيجار، لا سيّما وقد قبض راتبه المجزي، قبل استحقاقه، وأضافت أنّ من غير المستبعد أن يموت أيّ أحد، لا سيّما وأنّ هذا الوباء من نوع مختلف عن ما ألفه الناس، وأنّه يحصد كلّ الأرواح، دون أن يراعي مشاعر كبار الموظّفين، حتّى.
وبالفعل، فتحت السيّدة الباب؛ راسمةً ابتسامة مزيّفة على شفتيها الدقيقتين، وهو أمر لم يثنِ كريمًا عن نيّته، لا بل إنّه قد شعر بتدفّقٍ أشدّ للأدرينالين في جسمه، تكوّم في أطراف أصابع يده اليمنى، التي مدّها إلى عنق السيّدة، وأطبق عليه، حتى جحظت عيناها، وكان يفكّر في تلك الثواني الدقيقة، كم إنّه تجاوز مسألة التباعد الاجتماعي، التي ما فتئت المؤسّسات الدوليّة والمحليّة، تحثُّ عليه، الطبيّة منها، وغير المعنيّة بالوباء على الإطلاق؛ أدار ظهره، ونزل الدرج بهدوء، وحين فكّر أنّ من الرجولة إسبال عينيّ السيّدة المفتوحتين، نطّ عن الفكرة، وتابع النزول، برويّة وتأنٍّ.
لقد أضافته السيّدة ليلى إلى صفحتها على فيسبوك قبل أقلّ من سنة، وكان يتابعها بشيء من الصمت والرّيبة، على الرغم من أنّه غامر، وأعجب بثلاثة من منشوراتها خلال تلك الفترة؛ الأوّل كان عن صينيّة لازانيا، والثاني عن قطّة شيرازيّة ابتاعتها، أمّا الثالث فكان عن مثلّث برمودا.
وفي منشور اللّازانيا، وبعد أن مهر إعجابه، أرسلت إليه، تخبره، أنّ بمقدوره الصعود إلى شقّتها، وتناول العشاء معها، لكنّه اعتذر بلباقة، بحجّة أنّه يؤثر الملوخيّة على الأطعمة الإيطاليّة، أمّا في منشور القطّة، فقد دعته للصعود لرؤيتها ومداعبتها، إن شاء، فاعتذر متحجّجًا بأنّه من أنصار الكلاب، وهو بالمناسبة لا يحبّ أيًّا من حيوانات البيوت، إلّا إنّ عنده حنينًا قديمًا للسخلات الضئيلات، لا سيّما ذوات اللون الأشهب، لكنّ إعجابه الثالث لم يدم طويلًا، إذ قام بمسحه خلال ثانيتين، خشية أن يتلقّى دعوة للذهاب في رحلة مع ليلى، هناك، وسرعان ما أرسلت، تسأله سبب تراجعه عن الإعجاب، ما أشعره بذعر، وإن بدا غير مبرّر، فلم يردّ، وامتنع، مذّاك، عن إبداء أيّما إعجاب بالمنشورات الغزيرة التي تجود بها السيّدة ليلى على قرّاء صفحتها.
عانى كريم من كوابيس دائمة، بل شبه أسبوعيّة، وعلى مدار أكثر من خمسة عقود، يختنق فيها، بصور متباينة، ويصحو فزعًا، لاهثُا، مثل كلب أجرب، مذعور، فارٍّ من أولادٍ أشقياء؛ يصحو وقد التصق لسانه بحلقه، فيهرع إلى شرب الماء، ثمّ يسحب نفسًا طويلًا من هواء الغرفة المشبع برائحة السجائر المطفأة، يكتمه في رئتيه، لوهلة، قبل أن يزفره، ثمّ يروح يتمتم، حتى ينام من جديد.
رافقته الكوابيس هذه منذ وشت به أمّه، يوم ضبطته، متلبّسًا، يدخّن سيجارة مكسورة، قرب قنّ الدجاج، في آخر حوش الدار، توعّدته، ولم تُجدِ استغاثاته ورجاءاته، حتّى إذا ما عاد أبوه من عمله، ناداه، وبطحه، وقعد على ظهره، فانقطع نفسه، وأغمي عليه.
لم تكن نشرات الأخبار تتردّد في عرض تسجيلات لنساء ورجال، يقدّمون نصائح للناس، بالعزل والحجر والتباعد وعدم الاستهتار، وكانت تبثّ صورًا من غرف العناية الحثيثة، لنساء منفوخات العيون، ورجال غير قادرين على التنفّس؛ يروون تجربتهم مع الشعور بقلّة الأوكسجين، فيهزّ رأسه؛ كان يرقب كلّ هذه المشاهد، ويفكّر في الكوابيس التي ستدهمه في مناماته، حتّى انهالت الإشعارات على صفحة العمارة، على برنامج واتس اب، تترى؛ أحد عشر إشعارًا، كلّها عن رجال مختنقين، ونساء لاهثات، كان آخرها تسجيلًا لطبيب زائيريّ، يؤكّد فيه أن كوفيد 19 لا يصيب إلّا المدخّنين، سبقه تسجيل لطبيبة فنزويليّة، تُطمئن فيه من هم دون الستّين، وتحذّر من هم فوق هذه السنّ. كانت الفيديوهات الأحد عشر كلّها من السيّدة ليلى، عدا عن عشرات النشرات والأبحاث الطبيّة الطويلة، والمتناقضة، التي رمت بها دون وجل، على صفحة العمارة، وعلى مدار أيّام الحجر، الأحد عشر، وزاد من سوء الحالة، أنّ كريمًا، تابع في نهاره أكثر من تسعة منشورات على صفحتها على فيسبوك، تنوّعت بين صور من ثلاجتها المكتنزة، وأدعية استغاثة، وأغنيات من الزمن الجميل والحديث، وكان المنشور الأخير قبل ساعتين، وفيه تبدو السيّدة ليلى، وقد فرغت من خبز معجّنات، كتبت فوقها، إنّها ستقوم بتفريزها للأيّام الطويلة القادمة.
وعندما حدثته نفسه أنّ من الحمق قتل امرأة بسبب منشورات متلاحقة، على تطبيقات مختلفة، باتت تستخدم بكثرة، كان المصعد قد وصل إلى الطابق -1 وانفتح، وفاحت منه رائحة مادة معقّمة، تنشقها، وضغط زر الطابق الأخير.
وفي المسافة القصيرة بين باب المصعد وباب بيتها، لم يراوده ما قد يراود رجلًا، يهمّ بقتل سيّدة، للمرّة الأولى في حياته، فضغط جرس الباب، الذي ما إن انفتح، حتّى خنق المرأة المتمترسة وراءه.
بدت السيّدة ليلى امرأة ضئيلة، وهي تحاول الإفلات من قبضة السيّد كريم؛ ضئيلة ومثيرة للشفقة، لكنّ أغرب ما في اللّحظة تلك، أنّ كريمًا لم ينفعل، ولم يشعر بألم، أو غضب، حين سدّدت ركلة بين فخذيه، وندّت عنها حشرجة، بدت عالية، وبدا أنّها صرخة مستغيثة، حتّى لو بالموظّف الحكومي، المقيم في الطابق تحتها، إلّا أنّ أحدًا لم يسارع لإنقاذها.
نزل كريم الدرجات بتؤدة، وكان يعمد إلى الوقوف في ممرّات الطوابق بضع ثوانٍ، كأنّما ليقول للعيون المطلّة من عدسات الأبواب إنّه يراها، وكان كأنّما على يقين، من أنّ السكّان قد تداولوا أمر زيارته للطابق الأخير، وأنّه لا بدّ وأن أحدًا منهم قد أتصل بالشرطة، تبرئة للذمّة، متذرعًا، ربّما، بخشية الاختلاط بالمتقاتلين، في الطابق الأخير من العمارة.
لكنّ الحقيقة أنّ السيّدة أروى، وهي شابّة عشرينيّة، تقطن في الطابق الأول، هي التي قامت بإبلاغ الشرطة، بعد أن أخبرها زوجها بالحادثة، قبل أن يغلق الهاتف مع الموظّف الحكومي في الطابق الثالث، ويصعد باتّجاهه، بعد أن علم منه أنّ أمرًا جللًا يحدث في الطابق الأخير، وأنّ على أحد ما، غيره، أن يفعل شيئًا.
حضرت سيّارتا شرطة وسيارة إسعاف، بعد أقلّ من نصف ساعة من التبليغ، وانطلق الممرّضون قاصدين الطابق الأخير، ليجدوا السيّدة ليلى جالسةً على الأريكة، تداوي بعض الخدوش على رقبتها، فيما طوّقت الشرطة العمارة، واقتحم ثلاثة منهم بيت السيّد كريم، ليجدوه، وقد مات مختنقًا !

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى