أحمد أبو اليسر - الموتى، الأحياء، الحب..

– كررررررت كررررررت كرررررت..
يرن الهاتف من جيب بنطاله الأمامي مرارا ولا يرد، وهو ساهم في الغروب الذي ترتسم ألوانه الوردية الحمراء فوق أمواج البحر المتلاحمة.. يزعجه رنين الهاتف ويُدخل يدَه في جيب بنطاله ويضعه على الصامت دون أن يعرف هوية المتصل..
يستمر في تأمل ألوان الغسق وهي تحمر وتنعكس على مرآة البحر في آخر نقطة يصلها بصره، وهو يستمتع بالأغاني الحزينة الصامتة التي تصدرها مجرتنا في هذا الوقت، عندما يلتحم كل شيء فيها بسواد الليل البهي..
– ازززززززت ازززززززت اززززززت.. يقطعه فيبرير الهاتف مرة أخرى من التناغم مع هدوء موسيقى الطبيعة فيقذف شتيمة نابية في الهواء: – حمار بن الداعرة ما الذي يريده مني هذا القضيب العفن؟
يُخرِج الهاتف ويرد دون أن يعرف هوية المتصل، فيأتيه صوت أنثوي معهود بالنسبة إليه، ولكنه مليء بنبرة الرعب والهلع حد الإغماء:
— هلا حبيبي هل رأيت ما جرى اليوم؟ هل شاهدت السماء اليوم؟ لقد حدث عندنا اليوم شيء لم يحدث ولم تسمع به البشرية في طول تاريخها على الإطلاق.. شيء لم يصل إليه ولا حتى الخيال العلمي.. أرجوك حبيبي أن تسرع للبيت فأنا سأموت من الهلع إذا بقيتُ لوحدي في البيت مع هؤلاء الزومبي.. أنا خائفة جدا حبيبي.. خائفة... خائف... خائ... خا...، وينقطع صوتها المتسارع من شدة الهلع دون أن تعطيه فرصة ليعرف ماذا جرى..
أعاد الاتصال عليها وهو مرعوب، فبدأ الهاتف يرن ويرن ويرن حتى رجع الخط دون رد..
استدار للخلف إلى سيارة هونداي بيضاء قديمة اشتراها قبل سنوات عدة.. أشعل المحرك ببطئ وهو يرسل بخار السيجارة أمامه ويفكر فيما يمكن أن يرعب زوجته الشابة التي ما زال جسمها يعج بالحياة والرقة والجمال..
فور ابتعاده عن كورنيش البحر ليدخل المدينة لاحظ اكتظاظ الشوارع بمئات الآلاف من الناس الفارين من المنازل وتدهسهم السيارات الفارة في مشاهد هيستيرية فوق الوصف لا تحدث لا في الأحلام ولا في أفلام الجريمة.. رنين السيارات يملؤ الدنيا ضجيجا وكأنه مشهد لزفاف أحد قياصرة رومانيا القديمة، لكن الغريب أن الناس أيضا يهرولون مفزوعين بمئات الآلاف بين السيارات هاربين أطفالا ورجالا، ونساء، وعجزة، في ليلة قيامة عجيبة، انكسرتْ فيها كل إشارات المرور على الطرق، ولم يعد من أحد يتذكر فيها قوانين السير، فحدث اكتظاظ وحوادث تعفنت فيها الطرق بسيول الدماء وأشلاء قتلى الحوادث.. لم يبق عمود كهربائى لم يسقط.. توقفت جميع تقنيات شركات الكهرباء فغرقت المدينة في قبر من الظلمات لولا إضاءات السيارات التي تعكس لك هنا وهناك بياض أسنان الموتى المبتسمين، وبياض عيونهم وكأنها عيون ثعالب.. لم يكن أمام روبرت روميو إلا أن يوقف سيارته غصبا في أول طريق معبد تدخل المدينةَ عبر الكورنيش من خلاله، ويقف وسط أمواج وبحور من أبناء البشر الهاربين نحو أن يُغرِقوا أنفسهم في البحر ويختفوا من الحياة مدى الأبد..
أنزل زجاج السيارة على يمينه وصرخ مستفسرا: – وحق إبليس ما الذي يجري يا ناس؟
لم يتوقع أن يسمعه أحد داخل أهوال القيامة هذه، لكنه تفاجأ بشخص دهسه هو نفسه دون أن يدري وهو يلملم رجله المكسورة حتى التصقت بالطريق وهو يجيبه: –انظرْ إلى السماء أيها المغفل، وانظر إلى الأرض لتعرف ماذا جرى.. ألا ترى الخرق الكبير الأسود الذي دخل السماء وسقطت من خلاله كل آبائنا الموتى؟ لقد رجع آباؤنا وأجدادنا، لقد رجعوا إلينا في بيوتهم.. أقسم لك أن جدتي دخلت المنزل علي وهي قادمة من الجنة وتحمل معها بعض حلويات الفردوس لنا، وهي تطير في غرف البيت بأجنحة من النور منذ العصر إلى الآن، وجدي أيضا رجع من جهنم وعنده أسنان حمار تشتعل لهبا، ووجهه الوسيم سابقا صار ملعونا وكأنه وجه عقرب، وله ذيل يشبه الأفعى، إضافة إلى أنه ثمة مرحاض مركب في رقبته القصيرة.. رجلاه وصدره ويداه كلها لم تعد موجودة، بل صار مجرد بطن منفوخة تتحرك بشكل قبيح جدا في البيت، ويوجد وجهه في أعلاها..
تألَّم روبرت روميو بعمق حد الذهول والشلل الكلي عندما عرف نبرة صاحب الصوت الذي يجيبه بهلع ممزوج بألم عميق: إنه صوت زوجته إيليزا سبونفيل التي تتحدث معه قبل قليل في الهاتف، وها هو يدهسها عن غير قصد حتى يلتحم نخاع ساقيها بسواد الطريق المعبد.. أحس بدمعة حارقة تخرج من شرايين قلبه مباشرة قبل أن يركل باب السيارة تاركا جسده الطويل الرياضي يتهاوى عليها دون وعي.. لم يسقط عليها بل سقط قريبا منها لأن أباه الميت قبل عقد من الزمن سقط فجأة من الخرق في السماء وحال بينهما وهو يشتعل نورا ويبتسم له فاتحا ذراعيه ليضمه إلى صدره بحنان الأبوة..
لم يدرك روبرت نفسه إلا عندما أحس بوجع شديد في رقبته وأدرك أنه سقط برأسه من علا سريره إلى بلاط الغرفة وهو يرتعش خوفا من هول الحلم اللعين، ولكنه قبل أن يتنفس بحمد الله أنه مجرد حلم ويعود لجانب زوجته المستلقية على السرير في نوم رهيب تبادر إلى ذهنه سؤال فلسفي رديء: هل يحب الأبناء أباءهم الموتى فعلا؟ هل لو حشر الله الآباء إلى أبنائهم مجددا فسيحبونهم فعلا؟ أم أن الحب يقتصر على الأحياء فيما بينهم فقط؟ لا أعرف.. الأهم من كل هذا هو أن أعود للنوم وأن لا أحلم مرة أخرى بعودة الموتى الذين نفتخر بهم..!

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى