عبدالرحيم التدلاوي - مواجهة قبح الواقع بالعنف؛ قراءة في مجموعة "كرسي على الرصيف،. للمبدع عبد اللطيف الخياطي

صدرت مجموعة " كرسي على الرصيف"؛ في طبعتها الأولى سنة2003 عن مطبعة سليكي إخوان. وتتضمن ثلاث عشرة قصة على امتداد سبع وستين صفحة.
على الرصيف يجلس رجل حصيف يراقب الشارع، وينصت لنبضه، ويدون تناقضاته؛ قبحه وجماله، اتصاله وانفصاله، حبه وكرهه، قربه وبعده، دنوه وابتعاده، يرسم معالم الكائن والممكن، يحدد التعثرات وبطرف خفي كيفية التجاوز. العبور سمة عليا، والعنف أداة هدم لعالم سادر في قبحه، ونتانته. ومن هنا، تل الفجوة الحاصلة بين السارد والعالم المحيط به والمحبط له، يملأها بقاموس عدائي حد الفجور، فتعرية القبح لا تكون سوى بسلاح أمضى قبحا، فالقبح يطرد القبح ويؤسس لمقاييس ومعايير جديدة تمكن النفس من التنفس والإنسان من العيش.
الجلوس على كرسي موجود على الرصيف كان مقصودا لالتقاط المشاهد المعبرة والمقنعة؛ إنها العين الذكية التي لا تهمل التفاصيل الكامنة وراء المشاهد، تلك التفاصيل الدقيقة والفاضحة للقيم والسلوكات والأفعال والتصرفات.
من خلال الكرسي الفارغ في الجملة والممتلئ تأويلا، إذ لا قيمة لشيء مصمت، يقوم بدور المراقبة وتدوين المشاهد في غياب الفاعل الأساس، ألا وهو الإنسان؛ والقاص تحديدا. يتبين أن الجالس قد يكون المبدع كما يمكن أن يكون القارئ الذي يتوجب عليه التيقظ حتى يلمس بعينيه ما يمور به الواقع، وما يكمن خلفه من تعابير فاضحة، وقيم موجهة.
أن تقتعد كرسيا معناه أن تكف عن المشي، عن الحركة والتجوال و والتحول والانتقال. الجالس شخص محايد لا يشارك في الحياة بغير عينيه النافذتين في الناس والأشياء، شخص ترك صورته مع الناس وجلس يتأملها، ويتأمل من حولها ويتفرس فيهم.
لكن ما كل كرسي يقدرك على النفاذ في العالم من حولك. الكراسي المتحركة الوثيرة – مثلا- قد تكون سدا منيعا بينك وبين الواقع يحجب عنك رؤيته عاريا بلا مساحيق. وحدها الكراسي المنصوبة على الرصيف تغوص بك في واقع الناس والحياة، فتربطك بهم ربط رؤية لا سماع، إنها الكراسي المرددة مع المتنبي :
خذ ما تراه ودع شيئا سمعت به في طلعة البدر ما يغنيك عن زحل
و " ما راء كمن سمع ".
وكأننا بالكاتب يعانق الرصيف مأوى المنبوذين والمطرودين والحفاة والعراة والمهمشين الجالسين على الأرصفة والنائمين عليها محرومين من دفء الحياة ونعيمها، ويستضيفهم في عالمه القصصي. فهل حق هذا أم أضغاث تخمينات؟.1
وإذا كان توتر الشخصيات ناجما عن عدم انسجامها مع واقعها المتردي، وقيامها بردة أفعال عنيفة سلوكا ولفظا، فليس معنى ذلك أنها مريضة تعاني عقدا نفسية خطيرة تستوجب علاجها، لأن المجتمع المختل هو الذي ينبغي أن يستعيد توازنه حتى تنسجم معه تلك الشخصيات، فالهر في القصة التي تحمل اسمه"الهر" ص5، عاش حالة من العنف بفعل عدوانية المجتمع، واستوجب منه الأمر أن يكون وقحا وأشد عنفا ليحمي نفسه، لكن ذلك لم يقتل بعده الإنساني، بدليل شعوره بالبكاء، وشعوره بالشفقة على الطفل المتخلى عنه، وقيامه بجلبه لينقذه؛ بعده الإنساني لم يقتله عنف المجتمع بل بقي متوهجا ينتظر فرصة الإعلان عن نفسه. وفي قصة زليخة، بقي الرجل محافظا على طهارته لم يدنسها رغم شدة مفعول الإغراء... بقيت شخصيات النص محافظة على نقائها وإنسانيتها رغم كم عنف الواقع، وشدة قبحه.
ثم إن شخصية قصة "على ضفاف مملكة الرياح الشرقية" ص9، رغم أنها مدمنة كحول، فإن ذلك لم يمنعها من البذل والكرم، حيث إنها منحت القناني الفراغة للشخص الذي يحصل من ثمنها على قوته، لكنها، حين أبصرت شخصية متدينة سارعت إلى مصاحبتها بغاية نيل الغفران، بيد أن تلك الشخصية نأت بجانبها، وابتعدت، تاركة بطلنا يتبع الفراغ.
ويعزى عنف شخصيات المجموعة الأساس إلى حرصها على حماية نفسها من عنف الواقع وقبحه، ورغبتها في البقاء متوازنة، فعنفها المادي والمعنوي ما هو إلا سلاح للمقاومة والبقاء، كما في قصة "على طريق الوحدة" ص49، فرغبة الشخصية في قضاء غرضها لم يكن بحرية، إذ قيدته نظرات الركاب: وعندما أصبحت في الخارج تدلت نحوي الأعناق من النوافذ، تفحصتني العيون من خلف الزجاج، وظلت الحافلة تتردد في الانطلاق، قبل أن أحك ما بين فخذي وأخرج قلمي لأتباول فترتد الرؤوس إلى جحورها، وتضطر الحافلة لمتابعة طريقها مخلفة وراءها سحابة رمادية كأنما لتحجبني عن الرؤية. ص49.
فالمقطع عدا عن مشهديته المعبرة عن الضيق الذي شعرت به بفعل فضول الركاب ومتابعتهم لفعلها، ورد فعلها الفاضح والموازي للفضول، والقامع له، نجد المفردات المعبرة عنه تدل على استصغار الناس، وحقارتهم، بحيث تم مسخهم وتحويلهم كائنات غير بشرية، وتصير الحافلة جحرا. فعل منح الشخصية الرئيسة تحررا من تلك النظرات الفضولية والمتطفلة. وحقق رغبتها بالبقاء وحيدة بعيدا عن تلك العيون.
فهؤلاء الواقفون عند أطراف حواسنا يبدو أن دورهم في الحياة هو إيقاد الأحزان في دواخلنا وتجريدنا من كل ما قد يطفئها، يقول السارد – معبرا عن هذا المعنى- : " أدرك أنه يتنفس بمشقة، وأن صدره منقبض وأن أولاد القحاب هم السبب " ص10.**
واقع مرير يناهضه بمفرده مرة بالعنف المادي والمعنوي لكونه أعزل إلا من لغته، ومرة يبغي أن يغيره بالعنف عبر ثورة تقلب كل المعادلة، وأحيانا، نجده راغبا في العزلة، ، لا ينشد سوى الوحدة بعيدا عن الناس الذين لا يتسببون سوى في تراكم الحزن والألم.
أما في مواضع أخرى فينطوي السارد على حزنه ويعتزل العالم من حوله، أو يفكر في تدمير ذاته، أو في الموت و( الخلاص) من هذه الحياة المسببة لأحزانه " وهو .. هو متى قال أنه يريد أن يعيش ويمتد به العمر- لم يقل ذلك- على العكس هو يريد الموت " ص15.
ولعل هذا التضارب في الموقف من الواقع داخل المجموعة يجد تفسيره في القلق الذي يعيشه السارد والحيرة التي تمزق دواخله وهو يفكر وحيدا في سبيل أو سبل لخروجه وبني جلدته من حمأة العذاب، لعله القلق الذي يستشعره المرء وهو يقف شاهدا يقظ النفس حي الضمير على واقع " له نكهة الفناء " ص51. ***
ولربما هذا هو السر في خرق عنوان المجموعة للتركيب النحوي، معبرا به عن اختلال المجتمع الذي يستوجب إعادة تنظيمه لينسجم مع قاعدة السواء، وبالضرورة ستنسجم الجملة مع التركيب النحوي السليم.
وقد اعتمد القاص في بناء نصوصه على البعد الغرائببي للتعبير عن غرائبية الواقع وما يعرفه من صور خارجة عن بعدها الطبيعي خارقة لانسجامه بفعل كثرة اختلالاته.، كما في قصة "أبناء السلاحف" ص 19، حيث يتم الانتقال من الحيواني إلى الإنساني، مع حضور للحب يمثل رابطا بين المرأة والرجل، يعيدان بناء سيرة الإنسان الأولى، بيد أن نسيانهما أصلهما الحيواني بات يهدد مستقبل ذريتهما.
والبعد العجائبي حاضر في قصة "جسد له كل الرؤوس" ص35.
أما في قصته الأخيرة والتي تحمل عنوانا مثيرا "عبقري من الشرق أو المنطق في نشأة الدولة" ص61 فنراه يعتمد التركيز والوقوف عند المحطات الأساسية التي قادت الجماعة من منطق السلم والتعايش إلى منطق الدولة والغلبة والتحكم. وبالتالي يمكن القول إنه نص يعبر عن موجز تاريخ التسلط؛ بدايته وامتداده.
وعلى سبيل الختم أقول إن المجموعة ترصد أسباب العنف الكامنة في مواقف الشخصيات الأساس، وفي كلماتها ومعجمها، وهي لا تتلذذ بذلك بل تواجه به قبحا مستشريا في جسد المجتمع المهترئ، وتعبر عن رفضها لمثل هذا الواقع المتردي راغبة عنه مرات وساعية إلى تغييره أحيانا؛ معتمدة في كتابتها لهذا الواقع على طرائق مختلفة، وموظفة أشكالا تعبيرية متنوعة.

**


• 1_ آليات التسامي في المجموعة القصصية " كرسي على الرصيف" بقلم : أبو الخير الناصري
• تاريخ النشر : 2009-11-14
• 2_ نفسه.
3_ نفسه


تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى