عبد الرحيم جيران - الهوية بين الندرة والوفرة

نشير إلى أن الهوية تُقام على تضافر مبادئ عدة نذكر منها: الصيرورة السردية والتحقق والتصور، وقبل ذلك علاقة الذات بالموضوع، والاستثنائي؛ كل هذه المبادئ منظورٌ إليه من خلال مبدأ عام هو إرادة البقاء مقابل إرادة الحقيقة وإرادة القوة. وسنركز في هذا المقال على الاستثنائي انطلاقًا من ارتباط هوية الذات بهوية الموضوع وتحديده. وتدعونا هذه المهمة إلى توسيع مفهوم الاستثنائي- كما وُظف في «علبة السرد في مستوى التسرد الدلالي- من طريق إعطائه بُعْدًا قيميا من داخل العيش. ونقرر قبْل هذا أن الذات السردية كلما استطاعت تحديد موضوعها حددت نفسها في هيئة انفتاح على الزمان المستقبلي؛ ومن ثمة الانفتاح على مشروع هوية قيمي قائم على التوقع. ولا تكتسب الذات قيمتها الهوياتية، بل لا تصير ذاتًا، إلا بفعل القيمة التي تؤول إليها من موضوعها. وما أن يُثار البعد القيمي- في هذا النطاق- تُثار معه ثنائية (الندرة/ الوفرة). وتتعين هذه الثنائية داخل الحقل الاقتصادي؛ حيث ترتفع قيمة الموضوعات بفعل قلة وجودها أو ندرتها، كما هو الحال بالنسبة إلى المعادن والأحجار الكريمة وغيرهما.
كيف تتدخل هذه الثنائية في إمكان نشوء الذات السردية وتحديد الانفتاح الهوياتي؟ لا يقبل أي فعل متطلع التسرد إلا إذا تعين موضوعُه في خانة الندرة، لا الوفرة؛ فندرة وجود الشيء هي التي تُنتج التعلق به والسعي للحصول عليه؛ وتخلق طابعه الاستحواذي على الذات. كما أن ندرة الموضوع هي التي تحدد تميز الذات عن الآخرين، وتفوقَها عليهم، ودرجةَ اختلافها عنهم التي تبلغ الذروة بفعل شدة الندرة. أما وفرة الشيء فلا تُخرج الذات من نطاق المشابهة، ومن نمطية الوجود، لأنها تُعَد في متناول الجميع، ولا تتضمن في بنيتها صعوبة التحقق أو استعصائه اللذين يُميزان العلاقة بالموضوع النادر؛ ومن ثمة تُغرق الوفرة الجميع في التطابق غير المميز، وفي تكرار النسخة الواحدة من السكن في العالم. وتنبغي إعادة تفكر علاقة الذات باستعمال الموضوع- هنا- في إطار النزوع نحو البقاء؛ فهذا الأخير لا يتحدد بتحسينه وحسب، بل أيضًا بطبيعة شكله المميز؛ وينتج هذا الشكل عن البعد القيمي للموضوع والماثل في درجة ندرته، وارتباط هذه الدرجة بالرؤية إليه. ومن الضروري إعادة النظر بموجب هذا الشرط القيمي- الشكلي في محتوى الندرة أيضًا، فليس بالضرورة أن يكُون متفقًا على محتواه من قِبَل جل أفراد المجتمع، أي أن هناك ندرة منشودة موضوعة في خانة الإيجابي (الماس- الجمال الفائق- الأفعال المُعْجِزة، الخ)، وهناك ندرة متجنبة أو غير مرغوب فيها موضوعة في خانة السلبي (كل الأفعال المخالفة للعرف- كل أشكال الشذوذ في تعاطي العالم والعيش: سكن- لباس- استهلاك الزمان…الخ)؛ ومن ثمة يُمْكِن إخراج البعد القيمي للندرة من طابعه المعياري كما يحدده المجتمع والهيمنة الرمزية؛ حيث تصير دالة على غير الشائع، وغير المعتاد أيضًا.
تتضمن الندرة في بنيتها- في ضوء التحديد الذي أُعْطِيَتْ- خاصيتين ملازمتين لها، هما: أ- استعصاء تملكها من قبَل العموم، وب- انتهاج تعاطي العالم فعلًا وموضوعًا على نحو غير نمطي. كما أنها تُحدد وفق رؤية الذات إليها، التي تمنحها شكل تحققها في الوجود، وتكمن هذه الرؤية في الطاقة الإرشادية (مقولة التوجه المصنفة: المعرفة والفكر والاقتناعات)، كما هو الأمر بالنسبة إلى علاقة أورليانو بوينديا بالمرأة المومس في رواية «مئة عام من العزلة» لغابرييل غارسيا ماركيز، التي تُحدد انطلاقًا من اقتناع بتهديم قيم عالم قائم وإحلال قيم عالم مختلف محلها. وتُحدد الندرة أيضًا بفعل الخرق الذي تمارسه الذات السردية تُجاه استعمال موضوع الندرة؛ أي قلب محتوى الفائدة منها؛ كأن يستعمل إثبات قدرة الذكاء أو مهارة التفوق في ترجيح كفة الشر، كما هو الأمر في رواية «مقبرة براغ» لأمبرتو إيكو، ويمتد هذا القلب ليمس الشكل الروائي وندرته الماثلة في اليوتوبي فيضع محله ندرة شكل مدمر للقيم الإيجابية؛ فينشأ من جراء هذا القلب إبراز فاعلية هوية الشيطاني. ولا تقف الهوية بوساطة الندرة عند قلب محتوى الفائدة من الموضوع وحسب، بل تتعداه أيضًا إلى خرق البعد الأخلاقي المحدد له من قلب إثبات صلاحية الشرعي ضدا على صلاحية غير الشرعي؛ كما هو الحال في رواية «اللص والكلاب» لنجيب محفوظ؛ حيث تتحول السرقة من كونها موضوعًا منتميًا إلى الوفرة (العادي) بفعل عدم شرعيتها إلى موضوع ندرة من طريق جعلها موضوعًا شرعيا.
لا تقف معالجة اتصال الندرة بالهوية عند محتواها، ولا عند الرؤية إليها وحسب، بل تمتد أيضًا إلى الوسائل المنتهجة في تحققها في نهاية جريان الحدوث؛ حيث تكُون طبيعة الوسائل من طبيعتها؛ أي متصفة بدورها بالندرة، بما يعنيه هذا من حضور لشَرْطَي الاستثنائي فيها، والخبرة لتحديد بعدها الأَنطولوجي (الواقعي). وهذان الشرطان مشروطان أيضًا بالتحققات التي تُعَد دليلًا على الفعل. وتمنحنا الليالي مثالًا جيدًا في هذا الصدد؛ فندرة مجابهة القتل هو عمل بطولي استثنائي يتأتى من كونه يخرق مبدأي النجاة من الهلاك، والنأي بالنفس عن المخاطر. وتتمثل ندرة الوسيلة في اعتماد الكلام (الحكي) لتعطيل عمل السيف الذي هو رمز لعدم التفاوض، بل لتنفيذ كلمة السلطة الآمرة. وتكتسب الوسيلة طبيعتها – هنا- من محتوى ندرة الفعل الذي تنتهجه شهرزاد. فالأكيد أن في فعل شهرزاد درجة عليا من التهور، لكن هذا الأخير يصير أكثر حرجًا لمنطق الأشياء حين يُقام على وسيلة مشكوك في نجاحها (الحكي). ويكمن خلف هذا التسريد المميز لليالي تاريخ الندرة؛ أي ندرة الفعل البطولي الذي يُعيد للذات للعرق العربي تتويجه التاريخي المفقود.
يتأسس البعد الإشكالي لاتصال الهوية بالندرة المؤسس للحكي في الأغلب- وخاصة في النصوص الحكائية الحديثة والمعاصرة – في كون الندرة مستعصية التحقق، وكونها لا تقبل تعويضها بوساطة بدائل أخرى، سواء أكانت واقعية أم رمزية؛ أي أن النادر تمظهر للفرص في الزمان، ولا يُمْكِن تلافي تفويتها أو إخطاء تحققها على نحو مُرْضٍ وتام بمحاولات استبدال الموضوع النادر من صنفه، لأن ندرته تكمن في طابعه الملموس المفرد، لا في جـــوهر ماثل في النوع أو الجنس. ويكفي ألا تتصل الذات بموضوع ندرتها المفرد لكي ينشأ التوتر بين التطلع والتحقق، وينشأ من ثمة البعد الإشكالي المميز للحكي.


٭ أكاديمي وأديب مغربي
القدس العربي

عبد الرحيم جيران

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى