محمد بقوح - نيتشه راقصا على جليد جثامين المدينة

1844
تكلم الماء في نهر الإنسان قوة شجر الحياة . أنجبت الشمس الساطعة نورا طالما كان العالم في أمس الحاجة إليه . ولدتك دماء الأحرار مزيجا بين تاريخ أعطاب الروح ومستقبل حياة الأجساد المنفية . كانت صرختك الأولى يا فريديريك نيتشه العظيم . يا قاهر قدّاس المغارات وطارق صناع الأوثان البئيسة . صرخة الغسق بمعية عراء الزمان في عالم أشعث الشعر بلا شاربك الكثيف الذي تحول بقدرة قادر بعد عمر قصير إلى وجهك السعيد بالفلسفة رغم الألم. هي الصرخة الأولى في حضارة حديثة لكنها مريضة معدمة حتى الثمالة . فحروب الأشقاء بين عناصر التراب مشتعلة و الانهيار يركب حصان طروادة إلى قلب كل قلاع عواصم أوربا . هل كان العالم حينئذ يعيش بداية ليل العدمية الطويل كما تصور شوبنهاور؟
1849
فقدت سند الأب كارل القس الشاب مبكرا وعمرك التاريخي في قبضة شباك الخامسة أعوام. وبقي حنين الأم فرانشيسكا محتضنا .. وصدرها العظيم يحميك من عواصف تقلبات الحياة في عالمك الجديد . اختارت لك أمك الشامخة العيش البعيد عن مكان أول الفقدان . حلقت بك الأم الطيبة إلى وكر في أعلى الشجر المثمر . استقرت بك رفقة أختك إليزابيت في سفينة الحياة عند الجدة العجوز في مدينة ناومبورغ . فجأة، وجدت نفسك طفلا كثير الأحلام بين نساء امتهن العاطفة أكثر من التفكير . الجدة الكريمة و الأم الحنونة و العمتان الرؤوفتان و أختك القوية إليزابيت .. أما أنت فكنت الطفل نيتشه المدلل الصغير بينهن .. كنت زورقا كثيرا ما يحلم و يرثي الجراح قبل الأوان.
1849 – 1858
الشرارة الأولى للدرس الديني و الثقافة الكلاسيكية في مدرسة فورتا. اختارت لك أسرتك اللوثيرية التي غالبا ما يلج إليها الصغار في سنك. فراشات حالمة في بداية طريق التحصيل العلمي. غير أنك أبديت منذ الآن مقاومة لنوع التعليم الصخري الذي يتحقق بالشحن و التلقين . توقفت إذن، ورفضت المشي داخل أول الدوائر الكاسحة . رفضت الاستمرار في الدراسة ثم طالبت بالتغيير . تغيير المدرسة الدينية بالدرس الجامعي الحديث بمدينة لبزيك leipzig . هناك حيث سيكتشف النهر مجراه، ويطلع الشاب نيتشه كقارئ متأمل على الفلسفة السوداء لشوبنهاور . سيلتقي أول الفجر بآخر ليالي فصل الشتاء .. ليكون لفعل عمق القراءة هنا ما للخبرة في تفاصيل الحياة في الطفولة و المراهقة هناك. تعلمت كيف تفكر و تثور في وجه معابد الأصنام وتجفف منابع جذور كل أنواع الظلام في العالم منذ سنك المبكر . هي الإرهاصات الأولى لفكرك المُقاوم و لنقدك الجذري الهدّام سعيا وراء تأسيس فكر الحياة و الإنسان الخالص من أعطاب الزمان.
1865
لقاء التلميذ بمعلمه الأول الذي يحلم بالدراسة على يديه الكريمتين.
كان لقاءك بالأستاذ ريتشيل Ritschl بمثابة انفجار عين ماء في تربة شغفك العلمي و الفلسفي . بداية جديدة لحلم حارق قديم. مكنك الدرس الريتشيلي الفيلولوجي من محبة هذا العلم التفكيكي الأصيل، ودراسته من خلال علم الفلسفة الذي كان دوما جزء من حياتك كشخص شغوف بمتعة القراءة . بدأت الرؤية تتضح لديك . مدخل التحرير فلسفة الفيلولوجيا . أما هيكله الأساسي فتاريخ الأشكال الأدبية. لهذا، أظهرت للجميع مدى نبوغك المبهر في الدراسة و الإبداع في الدرس الفيلولوجي، فتوجت بشهادة الاستحقاق. دكتورة فخرية في مادة الفيلولوجيا من نفس الجامعة ليبزيك. بل أكثر من ذلك، أشاد بك معلمك الماهر ريتشيل، وتنبأ لك بمستقبل كبير في الدرس الفلسفي الفيلولوجي لدنيا عالم الجرمان.
1868
في سن الرابع و العشرين تعين أستاذا لعلم الفيلولوجيا بجامعة بال Bale. درست و أبدعت بشهادة الطلبة و أساتذة الجامعة المرافقين لك في درب التدريس العلمي الجامعي . لابد أن يستجيب النبوغ لمستحقيه الأوفياء لطبيعة الحياة المكافحة . فكنت الكائن البشري الذي يفكر بطريقة عضوية وفق تناسب التطور العلمي مع بيئتك التاريخية الحضارية لعصرك الذكي.
1869
الحياة بدون الموسيقى خطأ كبير لا يمكن إصلاحه .
اكتشافك للذة الموسيقى بلقائك العظيم بالموسيقار الشهير آنذاك فاغنر Wagner. بذلك، ستكتشف عالم الصداقة من خلال عوالم فن الموسيقى.
1870 - 1879
محاولة منك يا حامل مطرقة الفلسفة للعمل التضامني الإنساني واكتشاف عالم الدفاع عن الهوية الوطنية بالمشاركة الطوعية في الحرب الألمانية الفرنسية آنذاك، كممرض. غير أنك، لسوء حظك المبتور العين، ستصاب فيها بأمراض مزمنة كثيرة، سترافقك طيلة حياتك القصيرة، كمرض الدوسنطاريا و الدفتريا و الحساسية المفرطة . كانت هذه الأمراض بداية معاناتك مع أوجاع الرأس و الهزال و آلام المعدة التي ستضطرك لاحقا لتقديم استقالتك من التدريس في الجامعة سنة 1879.
1872
أول ظهور بكورتك الفلسفية ذات الروح الفيلولوجية . كتاب: مولد التراجيديا. أو ميلاد المأساة من روح الموسيقى، حسب ترجمة البعض الآخر . الكتاب المختلف الذي لم يتلق الإقبال المستحق في عصره ولقيه في العصور الموالية، بدءا من سنة 1912 . هكذا يكون دوما الكتّاب العظماء.
1873- 1875
وفاء لذاكرة الأصدقاء القدامى كتبت عن صديقيك الفيلسوف شوبنهاور، و الموسيقي فاغنر ما سميته: (تأملات في غير أوانها).
1876
قررت الاستفادة من إجازة طويلة الأمد، لمدة سنة بسبب أمراضك المزمنة التي تفاقمت . كتبت خلال هذه السنة الجزء الأول من كتابك إنسان مفرط في إنسانيته . و انتهيت من كتابة جزئه الثاني سنة 1879. بعد ذلك، ستختار القرار النهائي. تقديم الاستقالة من الجامعة، و البحث عن الخلاص في التفرغ لحياة السفر و الكتابة النقدية، ورفقة حكمة الفلسفية . نقد مقومات العصر الحديث بكل تجلياته . ربما العمل في الجامعة هو ضياع للوقت .. !!
عشر سنوات من عطاء الدرس الفلسفي النقدي كانت كافية لتحقق لحظة الإنتاج و الابداع لولا عائق الأمراض التي أثرت في مسارك الشخصي وليس الفكري، و أجبرتك على التخلي عن التدريس الفلسفي، وتغيير مجرى حياتك، ومن تمّ، خلط أوراقك العلمية و الثقافية، وجعلتك كشخص تختار حياة المخاطرة من أجل الكتابة عن الحرية و الأحرار، وفضح العبودية وصناع العبيد وخلق شروط الاستعباد في الحياة قبل الممات..
1877
السفر هو الوجه الآخر لمقاومة الألم . غير أن سفرك يا مُكلّم زرادشت كان عبر الأمكنة الفيزيقية، بالتنقل بين المدن الأوربية التي ترتاح فيها، وكذلك بمصاحبة فعل الكتابة الذي لم تتوقف شرارته عندك إلا لحظة رقصتك العارية على جليد جثامين المدينة.. أمام عتبة الجنون الأعظم . هكذا تكلمت وقرأنا لك في سلسلة الكتب التي سبقت لحظة توقفك الذهني و الجسدي في هذا العالم.
كان البدء من سويسرا .. ثم إلى إيطاليا .. فالعودة إلى سويسرا مجددا.
انتقلت إلى إيطاليا في نفس العام (1876)، بمدينة تورينو Turin بحثا عن الأجواء المناخية و الطبيعية التي تناسب أمراضك الجسدية، وتستجيب لأشعة شموس إرادتك القوية التي تتجاوز كل الحدود و الأسوار . قرأت مونتيني وباسكال وستندال .. متعة الأدب ولذة الفلسفة تجذبك كما تجذبك أسئلة الحكمة . غير أنك عدت إلى سويسرا لتستقر مجددا بمدينة بازل سنة 1877.
1878
تعود إلى ألمانيا لتقدم استقالتك من مهمة التدريس في الجامعة، بسبب عائق أمراضك المزمنة التي تعاني منها، و أيضا بسبب كتاباتك النقدية الجريئة التي بدأت تشاكس بها على مختلف موظفي السلطة الرسمية، سواء في التعليم الأكاديمي الجامعي الألماني، أو في النسق الثقافي و الفلسفي الأوربي و الغربي السائد بصفة عامة.
1880
في سن 36 سنة، وهو نفس العمر الذي رحل فيه أبوك إلى العالم الآخر، تقرر مغادرة أرض وطنك ألمانيا، لتستقر في عدة بلدان أوربية مجاورة، بدءا بالجنوب المتوسطي في مدينة البندقية الإيطالية . كنت مسكونا بأنوار شموس الحضارة المتوسطية وعبقرية ثقافاتها الأصيلة، خاصة أحرار الإغريق الذين كان لهم حصة الأسد في كل كتاباتك الفكرية و الفلسفية .
هكذا، ومن هنا ستبدأ رحلتك الزرقاء القاسية مع آلام الجسد الذي يفكر، و ابتغاء التحرر منها بالكتابة النقدية الفعالة، عكس النقد الكانطي المُهادن، بحثا عن الإنسان الأعلى القادر على تحقيق التغيير الممكن في أية لحظة، بشرط إذا أراد طبعا، ذلك الكائن البشري الذي لم تكتب عنه كل الأقلام المكيفة و المدجنة و المحنطة في تاريخها الطويل .. تلك التي مرت من هنا .. من منعرجات طريق تاريخ الفكر البشري . إنها رحلة الكتابة عن الفكر المُقاوم الجذري، الذي اخترتَ له أن يبدأ بهدم مقومات التفكير الخرافي، وتأسيس منظورك الفلسفي الجديد و المختلف حول ثقافة الإنسان القوي المبدع ضدّ كريمات العصور وجاذبية الأخلاق الساطعة، طلبا لجوهر الحياة هنا و الآن.
1881
ستعود مجددا مختارا عزلتك إلى بلاد سويسرا، وتقيم في مدينة سلس ماريا .. مدينة الجبال و البحيرات و الأنهار، حيث آثرت هذه المرة أن تتفرغ لقراءة ومرافقة العظيم سبينوزا .. الفيلسوف الذي فجر عبوة الفكر الديني المقنع بالأخلاق، ليسقط شعار القس ذليلا على أرصفة عصره، محررا عقل الإنسان من قيود الخرافة، وممهدا الحضارة البشرية للدخول الاجتماعي و التاريخي إلى عالم الأنوار الحديثة.
1882
ذات أبريل، يشدك حنين السفر إلى مدينة روما الإيطالية . هناك، وعن طريق صديقك بول ري Paul Ree، ستتعرف على شابة روسية اسمها لو أندرياس سالومي Lou –Andreas Salome. سيشتعل فيك لهيب الحب الأول الذي جعلك تطلب منها الزواج. غير أن الشابة اكتفت بمبادلتك صداقة الفكر و الحكمة . فكانت تلك هزة أخرى تنضاف إلى سلسلة الهزات العاطفية التي رافقت حياتك الجميلة بتناقضاتها و مضاداتها الحيوية التي لم تزدك سوى إصرارا، و إنتاج الكثير من تحف الابداع الفلسفي . لهذا قلت ذات يوم أن المرأة كائن يفكر بالغياب أي بالأحلام، و أن جميع النساء يتشابهن، لتؤسس بذلك رأيا يخصك، و تصورا نيتشويا سلبيا عن المرأة كثيرا ما أسال حبر اللدغ و اللسع ضدك.. !!
1883
في ساحل مدينة سيلفا بلانا الإيطالية، ستأتيك فكرة كتابك الفلسفي الأيقونة: هكذا تكلم زرادشت.. كتاب للجميع وليس لأحد. هكذا عنونته. كعنوان هويتك الفكرية تماما .. أنت نيتشه للجميع و ليس لأحد، لأنك قسمت عالم قرائك إلى فريقين يشتعلان تضادا حتى الثمالة. ستنجح في كتابة الجزء الأول للكتاب في ظرف عشرة أيام.. لتنهيه في 13 فبراير 1883، وهو نفس التاريخ الذي توفي فيه صديقك الروحي الموسيقي فاغنر.
ستواصل كتابة الجزء الثاني و الثالث و الرابع في مدينة روما الإيطالية، و في سيلس ماريا السويسرية، و في نيس الفرنسية، و في منتون الفرنسية . قيل أنك استغرقت في كتابته سنتين من يونيو 83 إلى فبراير 85 .. لكن لم ينشر الكتاب بنسخته المتكاملة الأصلية إلا في سنة 1892 . يعني بعد رقصتك العارية الأخيرة على جليد جثامين شوارع المدينة..
1886
في أبريل، ستسافر من نيس الفرنسية إلى روما الإيطالية، حاملا معك مشروع كتاب جديد عن فلسفة المستقبل هو: من هنا الخير و الشر Par – delà Le Bien et Le Mal
1887
ذات دجنبر، ستعود مجددا إلى مدينة نيس الفرنسية. تراسل صديقك بيتر كاست عن القيمة الفلسفية النوعية لكتابك الأخير عن زراديشت.
1888
ذات شتاء، تغادر نيس وتنتقل إلى مدينة تورينو Turin الإيطالية، حيث تتفرغ لكتابة كتاب عن صديقك فاغنر Cas Wagner وفاء لروح الصداقة التي جمعت بينكما. لتعود مرة أخرى، بين شهري يونيو و شتنبر، إلى مدينة سليس ماريا السويسرية . عانيت خلال هذه المرحلة الصعبة من حياتك، من تفاقم أمراضك المزمنة، خاصة آلام الرأس و المعدة و الأعصاب. و رغم ذلك، كنت غزير الإنتاج الكتابي، لأنك كنت بصدد الاشتغال على كتابين: أفول الأصنام Crépuscule des idoles و انقلاب القيم .
و في شتنبر من نفس العام، تمكنت من إنهاء كتابك القيم: ضد المسيح L Antéchrist بمدينة تورينو Turin الإيطالية.
1889
ذات 9 يناير، في بيازا كارلو ألبيرتو بمدينة تورينو، حين رأيت بعينيك الضيقتين حمارا يضرب بقوة غريبة..، لتفقد آنذاك صوابك الأخير الذي كان يربطك بعالم الحواس و الناس، لتبدأ رقصتك العارية على جليد جثامين شوارع المدينة الإيطالية، معتقدا أنك المسيح الذي ينتظره المسيحيون، أو ديونيزوس الحكيم . بعدها، تبدأ رحلتك الأخيرة .. رحلة المحو و الغياب و المنفى الأبدي ..
لم تنفعك رفقة صديقك أفرباك Overbeck التي لم تتأخر لما وصله خبرك الؤلم، إلا من باب واجب الصداقة . ثم جاء في الأخير الطبيعي دور أمك الحنونة التي قدمت من ألمانيا في 17 يناير لتعتني بك في مستشفى خاص بالأمراض العقلية . بعد ذلك، ستهتم بك أختك إليزابيت في البيت راعية أخاها الفيلسوف الكبير الذي عاش مشاكسا بمطرقة فلسفته وشغل الناس بعد رحيله..
1890 - 1900
ذات 24 مارس من عام 1890، ستدخل يا نيتشه العظيم حالة الغياب القصوى التي استمرت طويلا إلى أن لفظت أنفاسك الأخيرة، ليكون رحيلك عن هذا العالم غريبا و مشاغبا وجريئا كما جئت إليه، مفعما بالأسئلة الحارقة، كحياتك تماما.. حياتك الطويلة فكريا و فلسفيا وتاريخيا، و القصيرة بطبيعة لغة عدّ الأرقام.
25 غشت 2020
هي الذكرى 120 لرحيلك الشخصي و التاريخي و ليس الفلسفي.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى