خورخي لويس بورخيس - حول فن الشعر.. الاستعارة

ترجمة: صالح علماني

في العام 1967 دعي خورخي لويس بورخيس الى الولايات المتحدة لإلقاء سلسلة محاضرات في جامعة هارفرد. المحاضرات الست التي ألقاها هناك بقيت منسية الى أن أزاح الغبار عنها أحد أساتذة الجامعة فأعاد تحقيقها لتصدر في كتيب بعنوان "فن الشعر".

في العدد الماضي نشرنا في "نوافذ" إحدى المحاضرات "الشعر وفن حكاية القصص". في هذا العدد ننشر محاضرة ثانية، وهي الأولى في الكتاب تتصل بالاستعارة الشعرية ومعناها.

***

بما أن موضوع محاضرة اليوم هو الاستعارة، فسوف أبدأ باستعارة. وأول الاستعارات التي سأحاول تذكرها تتحدر من الشرق القديم، من الصين. فالصينيون، إذا لم أكن مخطئاً، يطلقون على العالم تسمية: "العشرة آلاف شيء" أو "العشرة آلاف كائن" ـ وهذا يعتمد على ذوق المترجم ومزاجه.

أعتقد أننا نستطيع أن نتقبل، بحذر شديد، تقدير العشرة آلاف. من المؤكد أن هناك أكثر من عشرة آلاف نملة، أو عشرة آلاف إنسان، أو عشرة آلاف أمل، أو عشرة آلاف خوف أو كابوس في العالم. ولكننا إذا ما تقبلنا العدد عشرة آلاف، وإذا ما فكرنا في أن كل الاستعارات هي اتحاد شيئين مختلفين، فإنه يمكن لنا عندئذ، إذا ما أتيح لنا الوقت، أن نتوصل إلى عدد هائل من الاستعارات المحتملة. لقد نسيت ما تعلمته من الجبر، ولكنني أعتقد أن الكمية ستكون 10000 مضروبة بـ9999، مضروبة بـ9998، إلى آخره. من الواضح، أن كمية التوليفات المحتملة ليست غير نهائية، ولكنها تُذهل المخيلة. وهكذا يمكن لنا أن نفكر: لماذا يتوجب على شعراء العالم كله، والأزمنة كلها، أن يلوذوا بمجموعة الاستعارات نفسها، بينما يوجد كل هذا القدر من التوليفات المحتملة؟

الشاعر الأرجنتيني لوغونيس، كتب منذ زمن، في العام 1909، بأنه يعتقد أن الشعراء يستخدمون دوماً الاستعارات نفسها، وأنه سيقدم على اكتشاف استعارات جديدة عن القمر. وقد ابتكر، في الواقع، عدة مئات منها. وقال أيضاً، في مقدمة كتاب بعنوان Lunario sentimental، إن كل كلمة هي استعارة ميتة. هذا التأكيد هو، بكل تأكيد، استعارة. ولكنني أعتقد أننا جميعنا ندرك الفرق بين الاستعارات الحية والميتة. إذا ما أخذنا معجماً اشتقاقياً جيداً (وأنا أفكر بصديقي القديم والمجهول الدكتور سكيت)، وبحثنا عن كلمة، فإنني واثق من أننا سنجد استعارة مخبأة في مكان ما.

فكلمة reat على سبيل المثال ـ ويمكنكم رؤية ذلك في أبيات بيوولف Beowulf الأولى ـ تعني "الجموع الغاضبة"، ولكن كلمة threat، "تهديد" يشار بها الآن إلى النتيجة وليس إلى السبب. ولدينا كلمة king، "ملك". فـKing كانت في أصلها cyningأي الرجل الذي يمثل معشره ويدافع عنهم، أي يمثل الأسرة kin، يمثل الشعب. وهكذا فإن king، و kinsman قريب، نسيب"، وgentleman هي الكلمة نفسها. ولكنني إذا قلت "جلس الملك ليحصي نقوده"، فإننا لن نفكر في أن كلمة king هي استعارة. وعملياً، إذا ما اعتمدنا خيار الفكر المجرد، علينا أن ننسى أن الكلمات كانت استعارات في الأصل. علينا أن ننسى، على سبيل المثال، أن هناك في كلمة "تأمل" considerar ظلاً من التنجيم: فكلمة ـ consider كانت تعني في الأصل "ما له علاقة بالنجوم"، "قراءة الأبراج".

وأنا أقول إن المهم في ما يخص الاستعارة هو واقع أن يتمكن القارئ أو السامع من إدراكها كاستعارة. وسأقتصر في هذه المحاضرة على الاستعارات التي يدركها القارئ كاستعارات، وليس على كلمات مثل king أو threat وربما يمكننا أن نواصل إلى ما لا نهاية.

أحب، في المقام الأول، أن أهتم ببعض الاستعارات النمطية، بعض الاستعارات النموذجية. وأستخدم كلمة "نمط" لأن الاستعارات التي سأوردها، وإن بدت للمخيلة مختلفة جداً، فإنها تبدو للمنطق متطابقة تقريباً. وهكذا يمكننا أن نتحدث عنها كما لو كانت معادلات. فلنتناول أول نمط منها يرد إلى ذهني؛ وليكن المقارنة النمطية، أو التشبيه الكلاسيكي للعيون بالنجوم، أو العكس، النجوم بالعيون. وأول مثال أتذكره يأتي من الأنطولوجيا الإغريقية Antologia griega، وأظن أنه ينسب إلى أفلاطون. أبيات هذا المثال هي (أنا لا أعرف اليونانية) كما يلي تقريباً: "أرغب في أن أكون الليل/ لأرى نومك بألف عين". هنا نلمس، دون شك، رقة العاشق؛ نشعر أن رغبته قادرة على رؤية الحبيبة من نقاط كثيرة في الوقت نفسه. إننا نشعر بالرقة خلف هذه الأشعار.

فلنرَ الآن مثلاً آخر أقل شهرة: "النجوم تنظر إلى أسفل". إذا ما تبنينا التفكير المنطقي بصرامة، فسنجد هنا الاستعارة نفسها. ولكن تأثيرها في مخيلتنا مختلف تماماً. فجملة "النجوم تنظر إلى أسفل" لا توحي لنا بالرقة، بل ربما هي تدفعنا إلى التفكير في أجيال وأجيال من بشرٍ يُنهكون أنفسهم دون حدود، بينما النجوم تنظر إلى أسفل بنوع من عدم المبالاة السامية.

فلنتناول مثالاً مختلفاً، أحد أكثر المقاطع الشعرية التي أثرت بي. الأبيات مأخوذة من قصيدة لتشيسترتون بعنوان: "طفولة ثانية".

"لكنني لن أهرم إلى أن أرى انبثاق الليل الهائل،
سحابة أضخم من العالم،
ومسخاً مكوناً من عيون".

ليس مسخاً ممتلئاً بعيون (فهؤلاء المسوخ نعرفهم منذ رؤيا القديس يوحنا)، وإنما هو ـ وهذا أشد رهبة ـ مسخ مكوَّن من عيون، كما لو أن هذه العيون هي نسيجه العضوي.

لقد تفحصنا ثلاث صور يمكن لها أن تحيلنا إلى النمط نفسه. ولكن المظهر الذي أود إبرازه ـ وهذه في الحقيقة هي إحدى النقطتين الهامتين في حديثي هذا ـ هو أن الشاعر في الحالة الأولى، في المثال الإغريقي، وإن كان النموذج هو نفسه، "أرغب في أن أكون الليل"، يجعلنا نحس برقته، بلهفته؛ أما في المثال الثاني، فنشعر بنوع من عدم المبالاة الإلهية تجاه الأمور البشرية؛ وفي المثال الثالث، يتحول الليل المألوف إلى كابوس.

لنتناول الآن نموذجاً مختلفاً: فكرة الزمن المتدفق، والذي يتدفق مثل نهر. المثال الأول مأخوذ من قصيدة كتبها تينسون عندما كان عمره، على ما أعتقد، ثلاث عشرة أو أربع عشرة سنة. لقد أتلف القصيدة؛ ولكن بيتاً منها نجا، لحسن حظنا. وأظن أنه يمكنكم العثور عليه في سيرة تينيسون التي كتبها أندريو لانغ. البيت هو: Time flowing in the middle of night "تدفق الزمن في منتصف الليل". أظن أن تينيسون قد اختار زمانه بحكمة كبيرة. ففي الليل، كل الأشياء صامتة. البشر ينامون، ولكن الزمن يواصل تدفقه دون ضجيج. هذا واحد من الأمثلة.

هناك أيضاً رواية (وأنا واثق من أنكم فكرتم فيها) تسمى ببساطة "عن الزمن والنهر" Of Time and the River. مجرد اتحاد الكلمتين يوحي بالاستعارة: الزمن والنهر، كلاهما يتدفق. وهناك حكمة الفيلسوف اليوناني المشهورة: "لا أحد ينزل مرتين إلى النهر نفسه". هنا نجد بصيص رعب، لأننا نفكر أولاً في تدفق النهر، في قطرات الماء ككائن مختلف، وبعد ذلك ننتبه فجأة إلى أننا نحن النهر، وأننا لا نقل عن النهر تفلتاً وهروباً.

ولدينا أيضاً أبيات مانريكي:
حيواتنا هي الأنهار
التي تجري لتصب في البحر
الذي هو الموت.

هذا التأكيد لا يدهش كثيراً بالإنكليزية. عساني أتذكر كيف ترجمها لونغفيلو في "مقطوعات مانريكي". وإن كنا نجد، دون ريب، (وسأعود إلى هذه القصة في محاضرة أخرى)، وراء الاستعارة النمط، موسيقى الكلمات المهيبة.

حيواتنا هي الأنهار
التي تجري لتصب في البحر
الذي هو الموت.
إلى هناك تمضي الأبهة الأرضية،
مباشرة إلى الانتهاء
والنفاد?

الاستعارة، مع ذلك، هي نفسها، بالضبط، في الحالات كلها.

وسننتقل الآن إلى شيء مطروق بكثرة، شيء ربما سيجعلكم تبتسمون: المقارنة بين النساء والأزهار، وكذلك بين الأزهار والنساء. ولا شك في أن الأمثلة هنا وفيرة جداً. إلا أن هناك مثالاً (قد لا يبدو لكم مألوفاً)، أحب أن أتذكره، من ذلك العمل البارع غير المكتمل، Weir of Hermiston، لروبرت لويس ستيفنسون. يروي ستيفنسون كيف يذهب بطله إلى الكنيسة، في اسكتلندا، حيث يرى فتاة: "فتاة رائعة"، حسب ما يخبرنا. ونعرف أن البطل على وشك الوقوع في حبها. لأنه ينظر إليها، وعندئذ يتساءل إذا ما كان ثمة روح خالدة داخل تلك الهيئة باهرة الجمال، أو أنها مجرد حيوان بلون الأزهار. وفظاظة كلمة "حيوان" تتكسر، دون ريب، بعبارة "لون الأزهار". لا أظن أننا بحاجة إلى مزيد من الأمثلة على هذا النمط، الموجود في كل العصور، وفي كل اللغات، وفي كل الآداب.

فلننتقل الآن إلى نمط آخر من الأنماط الأساسية للاستعارة: نمط الحياة كحلم، هذا الإحساس بأن حياتنا حلم. والمثال الجلي الذي يخطر لنا هو "إننا مصنوعون، كما الأحلام، من المادة نفسها". حسن، وإن كان له وقع التجديف ـ فأنا أحب شكسبير كثيراً بحيث لا يمكن لهذا أن يقلقني ـ أظن أنه يوجد هنا، إذا ما تفحصناه (ولا أظن أنه يجب علينا أن نتفحصه عن قرب شديد؛ وإن يكن علينا أن نشكر شكسبير على هذا وعلى هباته الكثيرة الأخرى)، يوجد هنا تناقض خفيف جداً بين واقع أن تكون حيواتنا مثل حلم أو تمتلك جوهر حلم، والتأكيد، الحاسم بعض الشيء، "إننا مصنوعون، كما الأحلام، من المادة نفسها". لأننا إذا كنا واقعيين في حلم، أو إذا كنا حالمين فقط في حلم، فإنني أتساءل عندئذ إذا ما كان بإمكاننا القيام بمثل هذه التأكيدات القاطعة. جملة شكسبير تنتمي إلى الفلسفة أو إلى الميتافيزيقيا أكثر من انتمائها إلى الشعر، مع أن السياق يرفعها، بكل تأكيد، ويسمو بها إلى مرتبة الشعر.

مثال آخر من النمط نفسه يأتي من شاعر ألماني كبير؛ إلا أنه شاعر صغير بجانب شكسبير (ولكنني أعتقد أن الشعراء جميعهم صغار إلى جانبه، باستثناء اثنين أو ثلاثة). إنني أتحدث عن مقطوعة مشهورة للشاعر فالتر فون دير فوجيلويد Walter von der Vogelweide. وأظن أنها كما يلي (أتساءل كيف هي معرفتي بألمانية العصور الوسطى؛ على حضراتكم أن تعذروني): "تراني حلمت حياتي، أم أنها كانت حلماً؟". أظن أن هذا يقترب أكثر مما يحاول الشاعر أن يقوله، إذ بدلاً من التأكيد القاطع، نجد سؤالاً. فالشاعر حائر. لقد حدث ذلك لنا جميعاً، ولكننا لم نعبر عنه مثل فالتر فون دير فوجيلويد. الشاعر يسأل نفسه عما إذا كان قد حلم حياته، أم أن حياته نفسها كانت حلماً، وشكه يحمل إلينا، على ما أظن، جوهر الحياة هذا كحلم.

لست أذكر إذا ما كنت قد أتيت، في المحاضرة السابقة (لأن هذه جملة أستشهد بها كثيراً، دوماً، وأستشهد بها مدى الحياة)، على ذكر الفيلسوف الصيني تشوانغ تزو. لقد حلم أنه فراشة، وحين استيقظ، لم يدر إذا ما كان بشراً حلم أنه فراشة، أو أنه فراشة تحلم الآن أنها إنسان. أظن أن هذه الاستعارة هي الأكثر رهافة. أولاً، لأنها تبدأ بحلم؛ وبعد ذلك، عندما يستيقظ تشوانغ تزو، تواصل حياته امتلاك شيء من الحلم. وثانياً، لأن الفيلسوف، بنوع مما يشبه السعادة الإعجازية، اختار الحيوان المناسب. فلو أنه قال: "تشوانغ تزو حلم بأنه نمر" لكان سطحياً. ففي الفراشة شيء مرهف وسريع التلاشي. وإذا ما كنا أحلاماً، فإننا نحتاج إلى فراشة من أجل الإيحاء بذلك، بصدق، وليس إلى نمر. ولو أن تشوانغ تزو حلم بأنه ضارب آلة كاتبة لما أصاب مطلقاً. أو بأنه حوت: لن يكون مصيباً أيضاً. أظن أنه اختار الكلمة الدقيقة بالضبط لما كان ينوي قوله.

فلنتفحص نمطاً آخر: ومن الشائع في هذا النمط الجمع بين فكرتي النوم والموت. وهو شائع حتى في اللغة اليومية؛ ولكننا إذا ما بحثنا عن أمثلة، فسنلحظ أن هناك أمثلة مختلفة جداً. أظن أن هوميروس يتحدث في مكان ما عن "حلم الموت الحديدي". وهو يقترح علينا، بهذا، فكرتين متعارضتين: الموت هو نوع من الحلم، ولكن هذا النوع من الحلم مصنوع من معدن صلب، لا ينثني، وقاس cruel: الحديد. إنه نوم أبدي وغير قابل للكسر. ولدينا أيضاً، بالطبع، هاينه: Der Tos dass ist dir fr?he Nacht "الموت هو الليل المبكر". وبما أننا في شمالي بوسطن، أظن أنه يتوجب علينا أن نتذكر تلك الأبيات التي ربما تكون معروفة جداً لروبرت فروست Robert Frost:

The woods are lovely, dark, and deep,
But I have promises to keep,
And miles to go before I sleep,
And miles to go before I sleep.

"الغابات جميلة، قاتمة وعميقة،
ولكن عليّ وعود يجب إنجازها
وأميال لأقطعها قبل النوم،
وأميال لأقطعها قبل النوم".

هذه الأبيات بالغة الكمال تجعل من الصعب علينا التفكير في أن هناك حيلة. ولكن كل أدب، للأسف، مصنوع من حِيل، وهذه الحيل أو الخدع، تخرج على المدى الطويل إلى النور. وعندئذ تنهك القارئ. ولكن الحيلة في هذه الحالة بالغة الفطنة إلى حد أنني أخجل معه من تسميتها حيلة (وأسميها بهذا الاسم، لعدم وجود كلمة أفضل). لقد حاول فروست هنا شيئاً جريئاً جداً. نجد البيت نفسه مكرراً كلمة فكلمة، مرتين، ولكن المعنى مختلف. ففي المرة الأولى And miles to go before I sleep "وأميال لأقطعها قبل النوم": تعني شيئاً مادياً محضاً؛ فالأميال هي أميال في المكان، في نيو انجلند، وsleep تعني "النوم". أما في المرة الثانية ـ And miles to go before I sleep ـ فيجعلنا نفهم أن الأميال لا تشير فقط إلى المكان، وإنما إلى الزمان أيضاً، و"النوم" تعني "الموت" أو "الراحة". ولو أن الشاعر قال الشيء نفسه بكلمات أكثر، لكان أقل فعالية بكثير. لأن التلميح، حسب فهمي، أكثر فعالية بكثير من الإسهاب. ربما هناك ميل في العقل البشري إلى رفض التأكيدات الجازمة. تذكروا أن إمرسون كان يقول إن البراهين العقلية لا تقنع أحداً. وهي لا تقنع أحداً لأنها تُقدَّم لنا كتأملات عقلية. عندئذ نتأمل فيها، نفكر فيها ملياً، ثم ندير لها ظهورنا ونقرر عكسها.

ولكن عندما يقال شيء فقط أو ـ بعبارة أفضل ـ عندما يوحى به، فإن مخيلتنا تحتضنه بنوع من كرم الضيافة. ونكون مستعدين لتقبله. أتذكر أنني قرأت، منذ حوالي ثلاثين سنة، أعمال مارتين بوبير Martin Buber، وقد بدت لي قصائد رائعة. وفي ما بعد، عندما ذهبت إلى بوينس آيرس، قرأت كتاباً لصديق لي، هو ليو دوخوفني Dujovne، واكتشفت في صفحاته، وهو ما أذهلني، أن مارتين بوبير كان فيلسوفاً، وأن كل فلسفته متضمنة في الكتب التي قرأتُها على أنها شعر. ربما أنني أتقبل تلك الكتب لأنني احتضنتها على أنها شعر، على أنها إيحاء أو تلميح، عبر موسيقى الشعر، وليس كتأملات عقلانية. أظن أنه يمكن لنا أن نجد، في أعمال والت ويتمان، في مكان ما منها، الفكرة نفسها: فكرة أن العقل razon قليل الإقناع. أظن أن ويتمان يقول في مكان ما إن هواء الليل، النجوم الفسيحة والقليلة، هي أكثر إقناعاً من التأملات العقلية المحضة.

يمكننا أن نتأمل أنماطاً أخرى من الاستعارة. فلنأخذ الآن مثال المعركة والنار (وهذا نمط غير شائع مثل الاستعارات الأخرى). في الإلياذة نجد صورة المعركة التي تسطع مثل حريق. ولدينا الفكرة نفسها في مقطع فينسبيرغ Finnesburg البطولي. هذا المقطع يحدثنا عن المعركة بين الدنماركيين وفريسيي ضفاف بحر الشمال، عن بريق الأسلحة، عن الدروع والسيوف. وعندئذ يقول الكاتب إنه يبدو كما لو أن فينسبيرغ كلها، كما لو أن قلعة فين Finn، تشتعل لهباً.

يخيل إليّ أنني نسيت أنماطاً من الاستعارات الشائعة جداً. لقد تحدثنا، حتى الآن، عن العيون والنجوم، النساء والأزهار، الأنهار والزمن، الحياة والموت، الموت والنوم، المعارك والحرائق. ولو أتيح لنا الوقت والمعرفة الضروريان، لاستطعنا العثور على عدد آخر من الأنماط التي ربما تقدم لنا استعارات الأدب كلها تقريباً.

ما هو مهم حقاً ليس وجود عدد محدود جداً من الأنماط، وإنما واقع أن هذه الأنماط القليلة تتقبل عدداً غير متناه تقريباً من التنويعات. ويمكن للقارئ المهتم بالشعر، وليس بنظرية الشعر، أن يقرأ، على سبيل المثال، "أرغب في أن أكون الليل"، وبعد ذلك "مسخ مصنوع من عيون" أو "النجوم تنظر إلى أسفل"، دون أن يتوقف عن التفكير في أن هذه الأبيات جميعها تُحيل إلى نمط وحيد. ولو أنني كنتُ مفكراً جريئاً (ولكنني لستُ كذلك؛ فأنا مفكر هياب، أتقدم متلمساً طريقي)، سأقول إنه لا وجود إلا "لدزينة" من الاستعارات، وإن كل الاستعارات الأخرى ليست سوى ألعاب اعتباطية. هذا يعادل التأكيد أنه، بين "العشرة آلاف شيء" في التعريف الصيني، يمكننا أن نجد فقط اثنتي عشرة توليفة تشابهات أساسية. لأنه يمكن لنا، بالطبع، أن نجد تشبيهات أخرى تكون مدهشة وحسب، والدهشة تكاد لا تستمر أكثر من لحظة واحدة.

أتذكر أنني نسيت مثالاً باهراً لمعادلة الحلم ـ الحياة. ولكنني أرى أنني أتذكره الآن: إنه للشاعر الأمريكي كامينغز Commings. وهو من أربعة أبيات. عليّ أن أعتذر عن البيت الأول منها. من الواضح أن من كتبه هو شاب يكتب للشباب، وهذا امتياز لم يعد بإمكاني المشاركة فيه: فأنا عجوز بما يكفي لمثل هذا النوع من الألعاب. ولكن علينا أن نورد المقطع كاملاً. البيت الأول هو: "وجه الرب الرهيب، أكثر لمعاناً من ملعقة". يكاد هذا البيت الأول يبدو لي مؤسفاً، لأن أحدنا يستشف، دون شك، بأن الشاعر قد فكر أولاً بسيف، أو بنور شمعة، أو بالشمس، أو بترس، أو بشيء لامع تقليدياً، وقال عندئذ: "لا، فأنا شاعر حديث، ولهذا سأُدخل ملعقة". وكانت له ملعقته. ولكننا نستطيع أن نغفر له بسبب ما يأتي بعد ذلك: God_s terrible face, brighter than a spoon,

/ collects the image of one fatal word "وجه الرب الرهيب، أكثر لمعاناً من ملعقة،/ يلتقط صورة كلمة مشؤومة". هذا البيت الثاني أفضل، على ما أعتقد. وفي ملعقة، كما قال لي صديقي مورشيسون Murchison، كثيراً ما نجد صوراً كثيرة ملتقطة. أنا لم أفكر في ذلك قط، لأنني ظللت حائراً بالملعقة ولم أشأ الإكثار من تقليبها.

God_s terrible face, brigher than a spoon,
collects the image of one fatal word
so that my life (which liked the sun and the moon)
resembles something that has not occurred.

"وجه الرب الرهيب، أكثر لمعاناً من ملعقة،
تلتقط صورة كلمة مشؤومة،
وهكذا هي حياتي ـ المعجبة بالشمس والقمر ـ
تشبه شيئاً لم يحدث".

"تشبه شيئاً لم يحدث": هذا البيت يتضمن بساطة نادرة. أظن أنه ينقل إلينا جوهر الحياة كحلم أفضل من أولئك الشعراء الأوسع شهرة، شكسبير، ولتر فون دير فوغلويد.

لا شك في أنني اخترت بعض الأمثلة القليلة فقط. وأنا واثق من أن ذاكرتكم تغص باستعارات رحتم تختزنونها، وهي استعارات ربما تنتظرون سماعي أستشهد بها. أعرف أنني بعد هذه المحاضرة سأشعر كما لو أن تأنيب الضمير يداهمني، حين أفكر في الاستعارات الكثيرة والبديعة التي استبعدتها. وأنتم، بالطبع، ستقولون لي في حديث جانبي: "ولكن، كيف نسيت تلك الاستعارة الرائعة لفلان؟". ويكون عليّ أن أعتذر وأن أواصل البحث متلمساً.

أما الآن، فأعتقد أنه علينا الاستمرار في استعارات تبدو أنها تتجنب الأنماط القديمة. وبما أنني تحدثت عن القمر، فسوف أتناول استعارة فارسية قرأتها في مكان ما من تاريخ الأدب الفارسي لبراون Brown . ولنشر إلى أنها لفريد الدين العطار، أو عمر الخيام، أو حافظ، أو أحد كبار الشعراء الفرس. يتحدث عن القمر بتسميته "مرآة الزمن". يخيل إليّ، من وجهة النظر الفلكية، أن فكرة كون القمر مرآة ستكون مناسبة، ولكن هذا أقرب إلى عدم الكشف من وجهة نظر شعرية. فكون القمر فعلاً مرآة، أو عدم كونه، يخلو من أدنى قدر من الأهمية، ذلك أن الشعر يتحدث عن التخيل. فلنتأمل القمر كمرآة للزمن. أظن أنها استعارة رائعة: في المقام الأول، لأن فكرة المرآة تنقل إلينا إضاءة القمر وهشاشته، ولأن فكرة الزمن، في المقام الثاني، تذكرنا فجأة بأن القمر المضيء الذي نراه، عتيقٌ جداً، وهو مفعم بالشعر والمثولوجيا، وقديم قِدم الزمن.

وبما أنني استخدمت عبارة "قديم قِدم الزمن"، يتوجب عليّ أن أورد بيت شعر آخر، ربما هو بيت يجول في أذهانكم. لا يمكنني أن أتذكر اسم صاحبه. وقد وجدته مقتبساً في كتاب ليس واسع الشهرة لكيبلنغ عنوانه From Sea to Sea: ويقول البيت: "مدينة وردية اللون، قديمة كما الزمن تقريباً". لو أن الشاعر كتب "مدينة وردية اللون، قديمة قِدم الزمن"، لما كتب شيئاً حاسماً. ولكن "قديمة كما الزمن تقريباً" تنقل إلينا نوعاً من التحديد السحري: إنه نوع التحديد السحري نفسه الذي تتوصل إليه الجملة الإنكليزية الغريبة والمتداولة I will love you forever and a day "سأحبك إلى الأبد ويوم". Forever تعني "زمن بالغ الطول" ولكنه تجريد لا يمكن معه إيقاظ المخيلة.

نجد هذا النوع نفسه من الحيلة (وأستميحكم عذراً لاستخدامي هذه الكلمة) في عنوان هذا الكتاب المشهور، ألف ليلة وليلة. ذلك أن ألف ليلة تعني للمخيلة 7-7-الليالي الكثيرة7-7-، مثلما كانت كلمة "أربعون" تستخدم في القرن السابع عشر، لتعني "كثيرين". ويكتب شكسبير: When forty winters shall besiege thy bro... "عندما تفرض شتاءات كثيرة حصاراً على جبهتك"؛ ويخطر لي التعبير الإنكليزي الشائع "forty winks" (حرفياً: "أربعون رمشه" للإشارة إلى القيلولة to have forty winks: "نوم قيلولة، أخذ غفوة". "أربعون" تعني "كثيرين". وهكذا لديكم "ألف ليلة وليلة"؛ مثل تلك الـ "مدينة وردية اللون" والتحديد المذهل: "قديمة كما الزمن تقريباً"، التي تجعل الزمن يبدو، دون شك، أطول بكثير.

من أجل تفحص استعارات مختلفة، سأعود الآن ـ وستقولون إنه لا مفر من ذلك ـ إلى الأنجلوسكسونيين، المفضلين لدي. أتذكر تلك الـkenning المألوفة حقاً التي تسمي البحر "طريق الحوت". أتساءل إذا ما كان السكسوني القديم المجهول الذي استخدم أول مرة هذه الـ kenningيعرف كم هي جميلة. أتساءل إذا كان قد انتبه (وإن لم يكن في هذا الأمر ما يستحق اهتمامنا) إلى أن ضخامة الحوت توحي بضخامة البحر وفخامته.

ثمة استعارة أخرى، اسكندنافية، عن الدم. الـkenning المألوفة للدم هي "ماء الأفعى". وفي هذه الاستعارة لدينا مفهوم السيف ـ الذي نجده أيضاً عند السكسونيين ـ ككائن خبيث في جوهره، كائن يشرب دم البشر كما لو كان ماء.

ولدينا استعارات المعركة. بعضها شديدة الابتذال؛ مثل "ملتقى الرجال"، على سبيل المثال. ربما يوجد هنا شيء بالغ الرهافة: فكرة الرجال الذين يلتقون ليقتل بعضهم بعضاً (كما لو أنه من غير الممكن حدوث نوع آخر من "اللقاء"). ولكن لدينا كذلك "لقاء السيوف"، "رقصة السيوف"، "قعقعة السلاح"، "قعقعة الدروع". جميعها موجودة في أغنية برونانبور Ode of Brunanburh. وهناك استعارة أخرى بديعة في _orn _neoht، ""لقاء الغضب". ربما تبهرنا الاستعارة هنا، فعندما نفكر في "لقاء"، نفكر في الرفاقية، في الصداقة؛ وعندئذ يبرز التناقض، لقاء "الغضب".

ولكنني أقول إن هذه الاستعارات ليست شيئاً يُذكر مقارنة بالاستعارة الاسكندينافية و ـ وهو ما يبدو شديد الغرابة ـ الأيرلندية بالغة الروعة للمعركة. تسمي المعركة "شبكة الرجال". وكلمة "شبكة"" رائعة حقاً هنا، ذلك أن فكرة الشبكة تقدم لنا نموذج المعركة القروسطية: لدينا السيوف، الدروع، تصادم الأسلحة. ولدينا كذلك ظلال الكابوس لشبكة منسوجة من كائنات حية. "شبكة الرجال": شبكة رجال يموتون ويقتل بعضهم بعضاً.

ترد إلى ذاكرتي فجأة استعارة للشاعر الإسباني لويس دي غونغورا تشبه إلى حد كبير استعارة "شبكة الرجال". فغونغورا يتحدث عن رحالة يصل إلى "ضيعة همجية"؛ ويكون للقرية عندئذ حبل كلاب فيما حولها:

y cual suele tejer barbara aldea
soga de gozques contra forastero.

ومن الذي اعتاد أن ينسج، أيتها الضيعة الهمجية،
حبلاً من الكلاب ضد الغرباء.

وهكذا، بطريقة غريبة جداً، نجد الصورة نفسها: فكرة حبل أو شبكة مصنوعة من كائنات حية. ولكن، حتى في هذه الحالات التي تبدو مترادفة، هناك اختلاف بارز. فحبل الكلاب هو شيء زخرفي (باروكي) وفج، بينما "شبكة الرجال" تضيف إلى الاستعارة شيئاً رهيباً، شيئاً مرعباً.

لكي أنهي، سأتفحص استعارة، أو تشبيهاً (فأنا في نهاية المطاف لستُ أستاذاً، والفرق بين الاستعارة والتشبيه يكاد لا يهمني) من بايرون Byron المنسي اليوم. قرأت القصيدة عندما كنت صغيراً؛ وأتصور أننا جميعنا قرأناها في سن مبكرة. ولكنني اكتشفت فجأة، منذ يومين أو ثلاثة أيام، أن في الأمر استعارة معقدة جداً. لم يخطر لي من قبل قط أن يكون بايرون معقداً بصورة خاصة. جميعكم تعرفون الجملة: "تمشي بجمال، كما الليل" البيت متقن الكمال إلى حد لا نوليه معه أهمية. ونفكر: "حسن، كان بإمكاننا نحن أن نكتبه، لو أردنا ذلك". ولكن بايرون وحده هو الذي أراد كتابته.

ما يهمني الآن هو التعقيد الخفي والسري للبيت. وأعتقد أنكم اكتشفتم الآن ما سأكشفه لكم. (فهذا هو ما يحدث دوماً مع المفاجآت، أليس كذلك؟ وهو يحدث لنا عندما نقرأ رواية بوليسية.) في قول بايرون She walks in beauty, like the night: لدينا، بادئ ذي بدء، امرأة باهرة الجمال، وبعد ذلك مباشرة يقول لنا "تمشي بجمال". وهذا يحيلنا، بطريقة ما، إلى اللغة الفرنسية، إلى شيء مثل: vous ?tes en beaut?. ولكن: She walks in beauty, like the night. لدينا في المقام الأول، امرأة باهرة الجمال، سيدة جميلة؛ وهي تشبه الليل. من أجل فهم البيت علينا أن نفكر في أن الليل أيضاً هو امرأة؛ وإلا لن يكون للبيت معنى. وهكذا، نجد في هذه الكلمات شديدة البساطة استعارة مزدوجة: امرأة مُشَبَّهة بالليل، ولكن الليل مُشَبَّه بامرأة. لست أدري، ولا يهمني أن أعرف، إذا ما كان بايرون يعرف ذلك. وأعتقد لو أنه عرف ذلك لكان من الصعب أن يكون البيت بهذه الجودة. ربما يكون قد اكتشف ذلك قبل أن يموت، أو ربما يكون أحد ما قد نبهه إليه.

وهكذا نصل إلى النتيجتين الأساسيتين والجليتين من هذه المحاضرة. النتيجة الأولى هي أن هنالك، بالطبع، مئات وحتى آلاف الاستعارات التي يمكن اكتشافها، وجميعها يمكن أن تُحال إلى عدد قليل من الأنماط الأساسية. ولكن ليس في هذا ما يدعونا إلى القلق، لأن كل استعارة تكون مختلفة. والنتيجة الثانية هي أنه ثمة استعارات ـ مثل "شبكة الرجال" أو "طريق الحوت" ـ لا يمكن لنا إحالتها إلى أنماط محددة.

أظن إذن أن الآمال ـ حتى بعد محاضرتي ـ مواتية بما يكفي للاستعارة. لأنه يمكننا، إذا أردنا، أن نجرب تنويعات جديدة من الاتجاهات الأساسية. ويمكن للتنويعات أن تكون جميلة جداً، ولن يكون هناك إلا نقاد مثلي يزعجون أنفسهم بالقول: "حسن، ها نحن نعود هنا لنجد عيوناً ونجوماً، والزمن والنهر مرة وأخرى، دوماً". الاستعارات تحرض المخيلة. ولكن يمكن أن يتاح ـ ولماذا لا نأمل ذلك ـ ابتكار استعارات لا تنتمي، أو أنها لم تنتمِ بعد، إلى الأنماط المقبولة والمعترف بها.

ملحق نوافذ – المستقبل

تعليقات

خورخي لويس بورخيس
كتاب "فنّ الشِّعْر"
المجــــــــــــــــــاز
محاضرة
ت: محمد المزداوي

شكَّل "المَجَاز" جُزءًا من حلقة محاضرات ألقاها "خورخي لويس بورخيس" باللغة الإنجليزية في جامعة "هارفارد"، خلال السنة الجامعية 1967-1968. وقد نشرتْ دار غاليمار الفرنسية هذا النصّ مع نصوص أخرى، وهنا ترجمة لمحاضرة تحمل عنوان "المجاز".

ما دام موضوع محاضرتنا هو المجاز، فلنبدأ بأحد المجازات. وهذا المجاز الأول من بين مجازات متعددة، يأتينا من الشرق الأقصى، من الصين. فالصينيون، إنْ لم أكن مخطئاً، يمتلكون تعبيراً للدلالة على العالَم: فَهُمْ يتحدَّثون عن "عشرة آلاف شيء" أو أيضاً، وحسب بعض الترجمات، عن "عشرة آلاف كائن".

ولا شيء يمنعنا من قبول هذا التقدير المتواضع. فمن الأكيد أنه توجد أكثر من عشرة آلاف نملة، ويوجد أكثر من عشر آلاف رجل، وأكثر من عشرة آلاف أَمَل، وأكثر من عشر آلاف خوف أو كابوس. ولكننا إذا قبلنا رقم "عشرة آلاف"، وإذا تذكَّرْنَا أن كلَّ مجاز يستند على الربط بين شيئَيْن مختلفين، فإننا نستطيع، إذا أتاحَ لنَا الوقت، أن نتوصل عبر عملية حِسَابية إلى مجموع لا يمكن تخيُّلُهُ من المجازات الممكنة. لقد نَسِيتُ الحساب، ولكنّي أعتقد بأنّ هذا المجموع سيتمّ الحصولُ عليه من خلال ضرب رقم 10000 في 9999 ثم ضربه في 9998 وهكذا دواليك. ومجموع هذه التركيبات والتوافيق الممكنة، بطبيعة الحال، ليست لانِهَائية ولكنّه مَجموعٌ مُذْهِلٌ. في ظل هذه الشروط سيكون من المنطقي أن نَتَسَاءَلَ لماذا شعراء كلّ العالَم وكل الأزمنة يلتجئون إلى نفس المجموعة من المُقارَنَات- في الوقت الذي يمكن أن توجد فيه بعضُ التركيبات والتوافيق الممكنة.

حينما استنتج الشاعر الأرجنتيني "لوكونيس"Lugones، منذ سنوات عديدة، في سنة 1909، أنّ الشعراء يستخدمون دائما نفسَ المجازات، اقترحَ القيام باختراع مجازات جديدة عن القمر. وفي الحقيقة قام باختراع مِئات منها. وكتب أيضاً في مقدمة كتاب معنون بِـ"....Lunario sentimental، أنَّ كلَّ كلِمَةٍ هي مجازٌ ميّت، وهذه الجملة(كلّ كلمة هي مجاز ميّت) هي في حدّ ذاتها، بطبيعة الحال، مجازٌ. ولكننا نعرف جميعا الفرق الموجود بين المجازات الميّتة والمجازات الحيّة. فإذا قمتُ بفتح معجم اشتقاقيّ جيّد(أُفكّر في معجم صديقي المجهول، الدكتور "سكيت"Skeat)، وإذا ما استندنا إلى كلمة معيّنة، فمن الأكيد أننا سنعثر على مجاز قابِعٍ في مكان ما.

) فكلمة preat (threat)تهديد/وعيد/نذير بِخَطر) مثلاً، التي تُصادِفونَهَا في الأبيات الأولى من Beowulf، تدلّ على "جماعة هائجة". ولكن الكلمة، اليومَ، تعبّر عن أثر ومفعول هذه الجماعة/الجمهور (التهديد) وليس عن السبب. ولْنَفْحَص أيضا كلمة كينغ"King. فكلمة "كينغ" King كانت في البداية "كيننغ" Cunning، التي تعني "الرجل الذي يمثّل العائلة(le clan)، الشَّعْبَ". ومن الناحية الإشتقاقيّة كلمة king و"kinsman" و "gentleman" هي أيضا نفسَ الكلمة. غير أني إذا قلتُ: "الملك قاعِدٌ في بيت خَزَائِنِه، ويُحصِي أموالَهُ"، فإننا لا نفكّر في المجاز المُضْمَر. وفي الواقع إذا مال اختيارُنَا إلى التفكير المُجَرَّد، فعَلينا أن ننسى أن الكلمات كانت مَجَازاتٍ. علينا أن ننسى، مثلاً، أن في كلمة "considérer" يوجد إيحاءٌ وإيعاز وشُبْهَة بعلم التنجيم، "considérer" كانت تدلّ في المعنى الأصلي على "التواجد مع النجوم" وعلى "كَشْفِ الطالِع".

فلْنَقُلْ إنّ ما هو مهمٌّ في مجازٍ مَا، هو أن القارئ أو المستمع، وَاعٍ بأنَّهُ أمَامَ مجازٍ مَا. إذاً فأنا أريد أن أقتصر في هذه المحاضرة على المجازات التي يَنْظُر إليها القارئ على أنها مجازات- تَارِكِينَ على جَنب كلمات من نوع "ملِك" أو "تهديد" وعدد كثير من الكلمات التي نستطيع ذكرها إلى ما لا نهاية.

بدايةً أريدُ أن أفحصَ موديلات أو ثيمات مطروقة من المجازات. أستخدم كلمة "موديل" لأن المجازات التي سأقوم بذكرها، يمكن أن تبدو، من وجهة نظر تخييلية، مختلفةً جِدّاً، ولكن التفكير المنطقي يستطيع التعرّف على هوِيَّتِهَا تقريباً. حتّى إننا نستطيع أن نتحدّث عنها كَمُعَادَلات. فلنأخذ المجاز الأول الذي يحضُرُني، وهو المُقارَنَة المعروفة والتي كرّسَتْهَا كلّ العصور، بين العيون والنجوم، أو على العكس بين النجوم والعيون. والمثال الأول الذي أتذكره يأتي من "الأنطولوجيا الإغريقية" وأعتقد أن "أفلاطون" يمكن أن يكون هو المؤلف. وهي مجموعة أبيات شعرية (أنا لا أعرف اللغة الإغريقيّة) تقول بشكل تقريبيّ ما يلي: "أنا أتمنّى أن أكون اللَّيْلَ كَيْ أَرَى نَوْمَكِ بملايين العيون." إنّ ما نراه، هُنَا، هو حَنانُ عاشقٍ، ورغبَتُهُ في أن يكون قادراً على رؤية حبيبَتِهِ من نِقَاط عديدة، من نِقاط متعددة. خلفَ هذه الأبيات الشعرية، يمكننا تخيّل الحنان.

لِنَرَ مثالاً آخَر، أقَلَّ شهرةً: هذا التعبير "النُّجومُ تنظُرُ مِنْ عَلِ". إذا أخذنا مأخَذَ الجدّ التفكير المنطقي، فإنه يمكننا التعرّف، هنا، على مجازٍ مشابه للمثال السابق. غير أنَّ الأَثَرَ أو الوَقْعَ على خَيَالِنَا مختلف. "النجوم تنظر مِنْ عَلِ" لا تُعبِّرُ عن شيء من الحُنوّ أو الحنان، بل وتوحي، على العكس، بفكرة العَمَل الشاقّ لأجيال وأجيال بشريّة تحت النظر اللاّمُبَالِي للنجوم.

ننتقل، الآنَ، إلى مثال آخَر. يتعلّق الأمر بمَقَاطِع شعريّة كان لهَا تأثير قويّ على نفسي. والأبيات مقتبسة من قصيدة لِـ G. K. Chesterton معنونة "طفولة ثانية".

ولكنّي لن أشيخ كثيراً حتى أرى انسدال الليل الهائل،
سحابٌ أكثر سعة من العالَم،
وَحْشٌ(خرافيّ) مُكوَّنٌ مِنْ عيون.

لا يتحدّثُ "شيستيرتون" Chesterton عن وحش(خرافيّ) مليء بالعيون"(نحن نعرف كثيراً من الوُحُوش من خلال رؤيا القدّيس يوحنّا) ولكن-وهذا شيء رهيبٌ جدّا-ولكنه يقول "وحش مُكَوَّنٌ من عيونٍ"، كَمَا لَوْ أنّ هذه العيون كانت التركيبَ الحيَّ للوحش.

لقد فَحَصْنَا ثلاثَ صُوَر مبنية على نفس الثيمة، ولكن ما أريد أَن أُشِيرَ إليه- وهي النقطة الأولى من بين النقطتين المُهِمَّتَيْنِ اللتين أريدُ أن ألْفِتَ انتباهكم إليهما في هذه المحاضرة-، هُوَ الاختلافاتُ، بالرغم من أنّ الثيمةَ مُشابِهَةٌ في ما هو أساسيّ: في الحالة الأولى، المثال الإغريقي، "أتمنى أن أكونَ الليلَ" يُريدُ الشَّاعِرُ أن يُشْعِرَنَا بِحَنَانِهِ، وبوحدته؛ وما نحسّ به، في الحالة الثانية، هو نوعٌ من اللاّمبالاة الإلهية بالمقارنة مع البشريّ؛ وفي الحالة الثالثة يُصبِحُ اللَّيْلُ الأليفُ كابوساً.

والآن نحن مع مجاز مبنيّ على موديل مختلف- إنها فكرة الزمن الذي ينسابُ مثل نَهْر. المثال الأول مقتطع من قصيدة كَتَبَهَا "تينيسون"Tennyson، فيما أعتقد، في سنّ الثالثة عشر أو الرابعة عشر. ثمّ قام بإتلافها فيما بعد، ولكن من حسن حظّنا نحن، أنَّ بيتاً شعريا نَجَا، وستجدونه، حسب ما يبدو لي، في بيوغرافيا "تينيسون" Tennyson التي كتَبَها "أندريو لانغ" Andrew Lang. وهذا البيت الشعريّ هو: "الزمنُ مُنْسَاباً في الليل." أعتقد أنّ "تينيسون" اتبع اختياراً حذراً ومتيقِّظاً، لأنّ كلَّ شيء يكون صامتا في الليل، ويكون الرجال نائِمينَ، ومع ذلك فالزمنُ يستمرّ في انسيابيته دون ضجيج. هذا هو مثالي الأول.

ثمّ توجد رواية(أنا متأكِّدٌ أنكم تفكرون فيها في هذه اللحظات) تحمل، ببساطة، عنوان: "الزمن والنهر". (لِـ"طوماس وولف"Thomas Wolfe، سنة 1935). إنّ مجرّد تقريب الكلمَتَيْن يوحي ويُشعِر بالمجاز: الزمن ينساب مثل نهر. وها هي أيضا الجملة الشهيرة للفيلسوف الإغريقي: "إنَّكَ لا تستحمّ في النهر مَرَّتَيْن"(هراقليطس، المقطع 41). هنا تتمّ معرفةُ الشُّعورِ بالقلق، لأنه إذا كان تَفْكِيرُنَا، في البداية، يتّجهُ إلى استمراريّة النهر الذي ينسابُ والذي تتميّز قطراتُ الماءِ فيهِ بأنها مختلفةٌ، فإننا مُرْغَمُونَ، بالتّالي، على أن ندرك أنّ النهر هُوَ نَحْنُ، وأننا بطبيعة الحال هَارِبُوَن مثل النَّهر.

أفكّر أيضا في أبيات "مانريك"Manrique:
حَيَوَاتُنَا هي الأنهارُ
التي ترتمي في البحرِ،
البحرُ الذي هو الموتُ.

حين ننتهي من ترجمة هذه الأبيات لا تعطينا كبيرَ تأثير. وكنت أتمنى أن أستطيع تذكُّرَ الترجمة التي أعطاها "لونكفيلو"Longfellow في .."Coplas de Manrique". (سنَعود إليها في محاضرة قادمة) وبطبيعة الحال فإنّ خلف المجاز العادي توجد موسيقى الكلماتِ البطيئةُ:

حَيَوَاتُنَا هي الأنهارُ
التي ترتمي في البحرِ،
البحرُ الذي هو الموتُ.
هُنَا، بشكل مستقيم،
تضمحلّ وتُلْغَى
السيادات العالية.

ومع هذا فالمجازُ واحدٌ في كلّ الحالات التي أشرنا إليها.

فلننتقل، الآن، إلى موديل مطروق والذي من المحتَمَل أن يثير ضحككم: وهو المقارنة بين النساء والأزهار وأيضا المقارنة بين الأزهار والنساء. والأمثلة في هذا المجال كثيرةٌ، وأودّ أن أذكر واحدا منها، ربّما، غير مألوف بالنسبة لكم، وهو مقتبس من رائعة غير مكتملة "Weir of Hermiston" لِـ"روبير لويس ستيفينسون" Robert Louis Stevenson. يدخل بطل الكِتَاب إلى كنيسة في "اسكوتلندا"، حيث يلمح فتاة شابّة- يتعلّق الأمر بشابّة جميلة، هذا ما نفهمه-وينتابنا الإحساس بأنه مستعدٌّ لأن يصبح عاشقاً. لماذا؟ لأنه إذا كَانَ ينظُرُ إليها ويتساءَلُ لو أنّ روحاً خَالِدة تسكُنُ هذا الجسدَ الجميلَ أم أنَّ الأمرَ يتعلّق بحيوان متزيِّنٍ بِلَوْنِ الأزهار، فإنّ قسوة وعنف كلمة "حيوان" تجد نفسَهَا مُلغاة عبر "لون الأزهار". لا أعتقد أنه من الضروريّ البحثُ عن أمثلة أخرى لهذه الثيمة التي توجد في كلّ الأزمنة، وتحضُرُ في كلّ اللغات وكلّ الآداب.

توجد ثيمة أخرى أساسيّة للمجازات وهي ثيمة مُقَارَنَة الحياة بالحُلم، هذا الشّعورُ الذي يستولي علينا وهو أنّ الحَياةَ هي حُلم. والمثال الذي يحضُرُ، حالاً، إلى ذهننا، هو البيت الشعريّ للعاصفة : "إننا كالأحلام، خُلِقْنَا من نفس النسيج" من الممكن أن ما سوف أقوله لكم سيَبْدُو تَجْدِيفِيّاً- إنّي أُحِبّ "شكسبير" كثيراً، بحيث أنّ هذا لا يُضَايِقُنِي-ولكنّي أجد أننا حين ننْظُر، عن كَثَب، إلى هذا البيتَ(ولكن يجب علينا ألاّ ننظر إليه عن كثب؛ بل يجب أن نكتَفِي بأن نكون معترفين لـ"شكسبير" بالجميل للكثير مِن المِنَحَ التي وهبنا إياها)، فإننا سَنُلاَحِظُ تناقُضاً، خفيفاً دُونَ شكّ، بين كون حَيَوَاتِنَا هي جوهَرُ أحلامنا وبين هذا التأكيد القاطِع: "إنَّنَا كالأحلام خُلِقْنَا من نفس النسيج". لإنه إذا ما كُنَّا لا نُوجَدُ إلاّ في حُلم، أَتَسَاءَلُ كيف نستطيع أن نعلن عن هذه التأكيدات القاطعة. إنّ جملة "شكسبير" تتعلّق بالفلسفة أو الميتافيزيقا أكثر مما تنتمي إلى الشِّعْر- حتى ولو أنّ السيّاق يُخوِّلُ لَهَا قيمة شعريّة.

مِثال آخَر من نفس المجاز يوجدُ لدى شاعِر ألماني كبير-ومع ذلك، فهو شاعِرٌ صغيرٌ في نَظر "شكسبير"(وهي ربما حالةُ كلّ الشعراء، باستثناء اثنين أو ثلاثة). أُشِيرُ إلى قصيدة شهيرة لِـ"فالتر فون دير فوجيلوايد"Walther von der Vogelweide، والتي سأقرأها باللغة الألمانية(ستغفرون لي نُطقي وتلفّظي): "هل حلمتُ بحياتي أم هي حقّا حقيقة؟" إنّ الشاعر، هنا، في نظري، أكثرُ تلاؤُماً مع ما يسعى جَاهِداً للتعبير عنه، لأنه بَدَل تأكيد قاطع نجد أنفسَنَا إزاء إحدى الأسئلة. إنّ ما يحدُثُ له قد حدث لنا جميعاً، ولكننا لم نعثر على الكلمات لِقَوْلِ هذا، مثل كلمات "فالتر فون دير فوجيلوايد". إنه يتساءَلُ: "هل حلمتُ بحياتي أم هي حقّا حقيقة؟" وهذا التردّد يُشكِّلُ، فيما أعتقد، جوهرَ ونسيجَ حُلم وُجودِنَا.

غالبا ما أستشهد، كما هو شأني دائما، بنصٍّ للفيلسوف الصينيّ "شوان تْزُو"Chuan Tzu، ولا أعرف إن كان قد سبق لي أن ذكرتُهُ في محاضرتي السابقة. وفي كلّ الحالات، لقد حلم هذا الفيلسوف أنه أصبح فراشةً وحين استيقظَ لم يكن يعرف إن كان هو إنساناً حَلمَ بأنه أصبح فراشة أم أنه فراشة حلمتْ بأنها أصبحت إنساناً. ومن بين كلّ المجازات، أعتبرها الأجملَ. أوّلاً لأنّه يبدأ بِحُلم، على الرغم من أنّ حياة هذا الرجل، حين يستيقِظُ، تحتفظ ببُعْدٍ حُلْمِيّ. ثمّ لأنّ المُؤلِّفَ، وبشيء من النُّدْرَة ومن السعادة المُدهِشَة، اختار من بين كلّ الحيوانات، الحيوان الذي يجب وينبغي. فلو قال: ""شيان تْزُو" حَلم أنه أصبح نَمِراً"، فإن هذا كان سينهار كَقَصْرٍ مِن وَرَق. إن الفراشة تمتلك شيئاً من الرهافة والرقّة ومن التَلاَشِي. وإذا لم نكن إلاّ أحلاماً، فإن الفراشة بدل النمر هي أحسن طريقة توحي بها. ولو أنّ "شيان تسو" حلم أنه أصبح آلة كاتِبَة، فإنه ما كان ليستخرج منه شيئا. وماذا لو حلم أنه أصبح حُوتاً؟ ما كان هذا سَيُجْدِينَا فتيلاً. لا، إنّ الفراشة هي الكلمة الصحيحة، الكلمة التي تُنَاسِبُ ما نودّ التعبير عنه.

فلننتقل الآن إلى ثيمة أخرى للمجاز، وهي ثيمة معروفة ومتداولة جدا، تربِط بين أفكار النوم والموت. نجدها، بصفة شائعة، في اللغة اليومية، ولكنّنا لو بَحثنا عن أمثلة شعرية، فإننا سنجد أنها تقدّم اختلافات كبيرة. أعتقد أن "هوميروس" هو الذي تحدث عن "نوم الموت الحديديّ"[إننا لا نجد إشارة إلى "نوم من حديد" في الإحالات الإحدى والثمانين لكلمة "نوم" الموجودة في فهرست هوميوس. ربما يفكّر بورخيس في "إنياذة" "فيرجيل"]. توجد هنا فكرتان متناقضتان: الموت هو نوع من النوم، ولكن هذا النوم مُكوّنٌ من المعدن الصلب، من معدن قاسٍ وصعب المِراس. إنه نوعٌ من نوم لا يأتيه ولا يستطيع أن يٌكسّرهُ أو يُحَطِّمَهُ شيءٌ. أمّا "هين" Heine فقد كتب عن الموت كما لو كان "ليلة مُعجِّلَة". ولكن ما دُمْنَا، هنا، في شمال "بوسطن"Boston، فإني أعتقد، أنه من المناسب ذِكْرُ أبيات "روبرت فروست" Robert Frost، المعروفة جدا ربما:

الغابة فاتنةٌ، مُعتِمَةٌ وعميقة
ولكن لديّ وعودٌ واجبٌ احترامها
وأميال عليَّ أن أقطعها قبل أن أنام
وأميال عليَّ أن أقطعَهَا قبل أن أنام.

إنها أبيات شعرية رائعة، بحيث إننا لا نرى الحيلة والخدعة. ومع ذلك، وهذا شيءٌ مزعجٌ، دون شكّ، فإنّ الأَدَبَ يرتكز على الخُدَع. ومع الزمن، تنتهي هذه الخُدَع بأن تُكْتَشَفَ وينتهي المطافُ بالقارئ إلى التعب. ولكن في حَالَةِ قصيدتنا الشعريّة، فالحيلة خفِيّة بحيث إنني أخجل من استعمال هذه الكلمة(أستخدمُ هذه الكلمة بسبب عدم عثوري على كلمة أخرى). إنّ "فروست" Frost يكشف عن جرأة متفرّدة. إنه يُعيدُ نفسَ البيتِ الشِعريّ مرّتين، كلمة كلمة، ولكن المعنى مختلفٌ في كلّ مرة. "وأميالٌ عليَّ أن أقطعَهَا قبل أن أنام". المعنى في البيت الأول ماديّ، بصفة خالصة، الأميال هي الأميال في فضاء انكلترا الجديدة، والنوم هو النوم. في المرة الثانية، يتركُنَا الشّاعِرُ نتخيّل أن الأميال ليست لها دلالةٌ فضائيةٌ فقط، ولكن أيضاً دلالة زمنيّةٌ، وبأنّ النوم يدلّ على الموت-أو الاستراحة النهائية. ولو أنّ الشاعرَ قَالَهَا، حرفِيّاً، فإنّ أثَرَ أبياتِهِ كان سيكون خفيفاً. لأنّ ما يوحي، وهذا هو شعوري وانطباعي أنا على الأقلّ، يملك سلطةً أقوى من ما يُعَبَّرُ عنه بتفخيم. ويُمكِنُ للعقل البشريّ أن يملك نُزوعاً نحو رفض كلّ تأكيد قطعيّ. أتتذكّرون ما قاله "إيميرسون": "الحُجَجُ لا تُقنِعُ أحداً. إنها لا تُقنِعُ أحداً لأنها تقدّم نفسَهَا كَحُجَج. نقوم بفَحصِهَا ونَقِيسُهَا، ونقوم بتقليبها في رؤوسنا، ثمَّ نَرْفُضُها.

ولكن حينما نتحدث، ببساطة، عن شيءٍ مَا، أو حين نشيرُ إليها عبوراً أو تلميحاً، فإنّ خيالَنَا يبدو حفيّاً ومُرَحِّباً. نحن مستعدون لِقَبُول مَا قِيلَ. أتذكر أنني قرأتُ، منذ ثلاثين سنة، أعمال "مارتين بوبر" Martin Buber، كنتُ أعتبرها كنَوْعِ من القصائد الرائعة. ثمّ حين ذهبتُ إلى "بيونيس إيريس"، قرأتُ هناكَ كتاباً لأحد أصدقائي، "دوخوفني"Dujovne، وهنا اكتشفتُ، ويا لِلْمُفَاجَأة، بأنّ "مارتين بوبر" هو فيلسوفٌ وأنه صاغَ فلسفَتَهُ في كُتُبٍ قرأْتٌهَا على أساس أنها قصائدُ خالِصَةٌ وإذا كانت هذه الكتبُ قد استَمَالَتْنِي، فلأنّ "رسالةَ" هذه الكتب أتَتْنِي عبر طريق الشِّعْرِ، عن طريق الإيحاء والموسيقى الشفهيّة، وليس عن طريق حُجَجٍ. أعتقد أننا نَجِدُ، لدى "والت وايتمان" نفس الفكرة-فكرة أن العقل لا يعرف الإقناع. ألا يُقال في بعض الأماكن بأنّ الليلَ ونجومَهُ أكثرُ إقناعاً من الحجج المسكينة؟

تُوجَد موديلات أخرى من المجازات. ولنأخذ مِثَالاً، أقلّ شُيُوعاً من الأمثلة السابقة- وأقلّ شيوعاً من هذه المجازات التي تُشَبِّهُ معركة بحريق. وهكذا نجد في الإلياذة صورة معركة تشتعل مثل حريق. ونفس الفكرة توجد في مقطع "فاينسبورغ"Finnesburg. يحدثنا الشاعر في هذا المقطع عن معركة بين الدانماركيين وبين شعوب جرمانية توجد بين هولندا وغرب ألمانيا محاذية لبحر الشمال، وعن الومضات التي تعكسها الأسلحة والدروع، إلخ.. ويقول الشاعر بأنه كان لدينا الإنطباع بأنّ "فاينسبورغ" بكاملها وكذلك قصر "فاين" Finn توهَّجت في حريق هائل.

إنني تركتُ، بالتأكيد، جانِباً، موديلات شائعة. ولحدّ الآن تطرقنا إلى العيون والنجوم وإلى النساء والأزهار، والزمن والأنهار، والحياة والحلم، والموت والنوم، والنار والمعارك. وإذا كان لدينا مُتَّسَعٌ من الوقت، ومن تَبَحُّرٍ في العِلم ضروريٍّ، فإننا نستطيع تحديد حوالي ستّة موديلات أخرى من المجازات الشائعة في مختلف الآداب.

ولكنّ ما هو مُهِمٌّ، ليس هو كَونُ أنه لا يوجد سوى عدد قليل من الموديلات ومن الثيمات المجازية، وإنَّما كون هذهِ الثيمات تتلاءَمُ مع تنويعات شبه لانِهَائية. إنّ القارئ الذي لديه حساسية للشِّعْر، ولكن الذي لا يبالي إِزَاءَ نظرية الشِّعر، يستَطيعُ أنْ يقْرَأ، مثلا: "أتمنّى أن أكون الليلَ"، ثمّ "وَحْشٌ مُكَوَّنٌ من عُيونٍ" أو "النجوم تنظر من عَلِ"، دون أن يتوقّف ثانيةً واحدة كي يلاحِظَ أنّ هذه المجازات تنتمي لِمُوديل واحد متفرِّد. لو كنتُ مُنَظِّراً جرّيئاً (ولكنّي لستُ سوى منظِّر خجول جدّا، وأتقدّم متلمِّساً)، فأني أستطيع التأكيد بأنه لا يوجد سوى حوالي عشرة موديلات-نماذج وبأنّ كل المجازات الأخرى ليست إلاّ تركيبات وتوافيق اعتباطية. معنى هذا الإعلان أنه من بين "عشرة آلاف شيء" في التحديد الصينيّ الشهير، لا نستطيع أن نكتشف سوى ما يَقْرُبُ إثنا عشر تجانسا أو مُؤالَفة أساسيّة. من البدهيّ أنكم تستطيعون اكتشاف أو اختراع تشابهات أخرى يمكن أن تكون، ببساطة، مُفاجِئَة- ولكنّ المفاجَأَة لا تدوم سوى لحظة.

أُلاَحِظُ أنني نسيتُ مثالا جيدا عن المعادلة بين الحلم والحياة. وما زال ثمة وقتٌ لذكر هذا المثال، الذي أستعيره من الشاعر الأمريكي كومينغس"Cummings. أُقَدِّم لكم الإعتذارات فيما يخصّ البيت الشعريّ الأول، الذي كتبَهُ، بكل تأكيد، رجل شابّ وهو يتحدث مع شباب-لا أستطيع أن أستفيدَ من هذا الامتياز(امتياز أن تكون شابا) وكونيغس" يلعب، هنا، أصول لعب لم يَعُدْ يتَلاَءَمُ مع سِنِّي. ولكن يجب الاستشهاد بالمقطع الشعري في كلّيته. البيت الشعريّ الأول، إذاً، هو: ".وجهُ الإله الرهيبُ، أكثرُ لَمَعاناً مِنْ مِلْعَقَةٍ". وأنا آسف، حقيقةً، من هذه الملعقة، لأننا نحسّ بأن المُؤلِّف كان يفكر، بدايةً، في سيف، وشمعة، وفي الشمس، وفي دِرْع، أو كلّ شيء آخَر يتمّ اعتباره، تاريخياً، لامِعاً، ثمّ قال لنفسه: "لا، على كلّ حالٍ، فأنا إنسانٌ عصريٌّ، إذاً سَأتصدّى لملعقة." فالتَقَطَ ملعقتَهُ. ولكنَّنَا سنُسَامِحُهُ بسبب ما سوف يأتي: "وجهُ الإلهِ الرّهيبُ، أكثرُ لَمَعَاناً مِنْ مِلعقة، تُلخِّصُ صورةَ كلمةٍ قدريّةٍ واحِدةٍ." أعتقدُ أنّ هذا البيت الشعريّ الثاني أَفْضَلُ. وكما قال لي صديقي "مورشيسون" Murchison، فإنّ ملعقةً يمكن أن تجمع كثيراً من الصُّوَرِ. (لم أفكّر فيها، قد كنتُ حائراً بسبب هذه الملعقة- ولم تكن لديّ رغبة كبيرة في أن أُكرِّسَ لها تأملات طويلة.)

وجهُ الإلهِ الرّهيبُ، أكثرُ لَمَعَاناً من ملعقةٍ،
تُلخِّصُ صورةَ كلمةٍ قدريّةٍ واحِدةٍ،
إلى حدّ أنّ وُجُودِي(الذي يتمَتَّعُ بالشمس وبالقمر)
يُشبِهُ شيئاً لم يُوجَدْ قطّ.

"يشبه شيئاً لم يُوجَدْ قطّ": هذا البيت الشعريّ يتمتع ببساطة غريبة. إنّ "كومينغس"، وأفضل من الشعراء الأكثر شهرة، "شكسبير" أو "والتر فون دير فوجيلوايد"، يُعيدُ لنا هنا الجوهرَ الحالِم للوجود.

وفي المجموع لم أقترح إلاّ نزرا قليلا من الأمثلة. وأنا على يقين بأنكم تملكون في ذاكرتكم قدراً من المجازات التي قمتم بتجميعها، بعناية كبيرة- وبأنكم تمنيتم أن تسمعوني وأنا أستحضرها. وفما يخصّني، فأنا أعرف بأنه بعد محاضرتي سيجتاحُنِي الندم حين سأعرف أنّ كثيراً من المجازات الجميلة غابت عنّي. وبطبيعة الحال فإنّ هذا الشخص أو ذاك من الحضور سينتحي بي جانباً كي يسألني لماذا أغفلتُ هذا المجاز الرائع- فلا أستطيع سوى التمتمة ببعض الاعتذارات.

وفي اللحظة الراهنة نستطيع المُخاطَرَة بعيداً وذِكْرَ المجازات التي لا تنتمي للموديلات المُكَرَّسَة. ولأنّي تحدثتُ عن القمر، فسوف أذكُرُ مجازا فارسياً قرأتُهُ في كتاب "تاريخ الأدب الفارسي" لِـ"براون" Brown. سنفترضُ أنه يوجد لدى "فريد الدين العطار" أو "عمر الخيام" أو "حافظ" أو أيضا لدى شاعر فارسي كبير آخَر. ومهما يكن هذا الشاعر، فقد سمّى القمر بِـ"مرآة الزمن". ومن وجهة نظر علم الفلك، فإنّ الفكرة التي ترى بأنّ القَمَر هو مرآة تستحقّ ما تستحقّ- ولكن وجهة النظر هذه عديمةُ المنفعة. فأن يكون القمرُ أم لا مرآة ليست له أية أهمية، لأنّ الشِّعر يتوجب عليه أن يتحدّث عن الخيال. فلنتأمّل هذا المجاز إذاً، القمر مرآةُ الزمن. أقول بأنه مجازٌ جميلٌ جِدّا-أولاً لأنّ فكرة المرآة تعبّر جيدا عن وميضِ وهشاشةِ القمر، وثانياً لأنّ فكرة الزمن تجعلنا نكتشفُ بأن هذا القَمَر اللامع جدا الذي ننظر إليه، قديمٌ جدا ومُحمَّلٌ بالشعر وبالأسطورة، وبأنه، أيضاً، قديمٌ قِدَمَ الزمن.

قلتُ للتوّ "قديمٌ قدم الزمن". هذا يدفعني لذكر بيت شعريّ آخَر- وهو بيت يصعدُ، ربما، إلى ذاكرتكم. لا أتذكّر الشاعر، ولكني وجدتُهُ في إحدى كتب "كيبلينغ"Kipling، الأقلّ شهرة، "من البحر إلى البحر" "From Se to Sea". هذا البيت هو: "مدينةٌ ورديّةٌ وحمراءُ، نصف قديمةٍ قِدَمَ الزَّمَن". كان بمستطاع الشاعر أن يكتب: "مدينةٌ ورديّةٌ وحمراءُ قديمةٌ قِدَمَ الزَّمَن"، ولكن هذا ما كان ليُعطي شيئاً. ولكنّ "نصف قديمة قِدَم الزَّمَن" تُدخِلُ نوعاً من التحديد السحريّ، يمكن مقارنَتُهُ بالتحديد الموجود في الصيغة الغريبة ولكن الرائجة في اللغة الإنجليزية: "أحبك إلى الأبد ويوم". "إلى الأبد" تعيّن وقتا طويلا، ولكنها من المبالغة في التجريد بحيث لا تتحدث إلى الخيال.

الحيلة الثانية(ولتسامحوني على استخدام هذه الكلمة) تُوجَد في عنوان كتاب شهير "ألف ليلة وليلة". لأنّ "ألف ليلة" تعني ليالٍ عديدة، تحديداً كما تعني كلمة "أربعون" عددا كبيراً في لغة القرن السابع عشر. كتب شكسبير: "حين سيضربُ أربعون خريفا جبهَتَكَ". وأفكر أيضا في تعبير إنجليزي رائج، "أربعون غمزة" التي تدلّ على القيلولة. إذا فلدينا "ألف ليلة وليلة" كما أنه لدينا "المدينةُ الوردية والحمراء" والتحديد الغريب "نصف قديمة قدم الزمن"- وهو، بطبيعة الحال، التحديد الذي يبدو أنه يُمدِّدُ، إذا جاز القول، مُدَّةَ الزَّمَن.

أعزّائي الأنجلوساكسونيين الذي أعود إليهم(وهو شيء يبدو لكم ضروريا)، يساعدونَنَا على فحص مجازات بعيدة عن الطرق المطروقة. أتذكَّرُ عبارةً وهي كناية تعبّر عن البحر بهذه الطريقة: "طريق الحيتان". أتساءل إذا ما كان هذا الساكسوني المجهول الذي صاغ هذه الكناية كان يعرف في أي نقطة يتواجَدُ فيها. أنا أتساءلُ حول ما إذا كان لديه الإحساس(ولو أنّ هذه النقطة لا تَهُمُّنَا) بأنّ كِبَرَ وسَعَة الحوت يُحِيلُ إلى شساعة البحر وكبره.

وها هو مجازٌ آخَر، أسكندنافي هذه المرة، بخصوص الدم. الكناية الأقرب للتعبير عن الدم هي "ماء الأفعى". في هذا المجاز تجدون فكرةً (حاضرة أيضا لدى الساكسونيين) وهي أنّ السيفَ كائِنٌ مُؤْذٍ، كائِنٌ يشربُ دَمَ الرجال كَمَا لَوْ كان ماءً.

من بين مجازات المعارك، تُوجَد بعض المجازات العادية- مثلاً "لقاء الرجال". بالرغم من أنه توجد هنا فكرة ذات أهميّة: فكرة التقاء الرجال كي يَتَقَاتَلُوا(كما لو أنّ لقاء من نوع آخَر لا يمكن تصوره). توجد مجازات أخرى: "تلاقي السيوف"، "رقصة السيوف"، "صدمة الدروع"، "صدمة الخوذات". وكلها موجودةٌ في (نشيد "برونانبوهر"Brunanbuhr البحريّ). وها هو مجازٌ جميلٌ: "لِقَاءُ غَضَبٍ". إنّ ما يعطي القوَّةَ لهذا المجاز، هو أنّ تعبيرَ "اللقاء" يوحي لنا بالرِفَاقيّة والصداقة، وأنّ اتحاد الكلمات يُشَكِّلُ مُفَارَقَةً: لقاءُ غَضَبٍ.

ولكنّ هذه المجازات، كما يمكن القول، لا تُشَكِّلُ شيئاً إذا لم نُقارِنْهَا بمجاز أسكندنافي جميل جدا(يوجد أيضا في اللغة الإيرلندية). إنه الإشارة إلى المعركة كَـ"نسيج الرّجال". إنّ كلمة نسيج توجد هنا في مكانها، بصفة تثير الإعجاب، لأنها تتطرّق إلى شكل معركة قروسطية(من القرون الوسطى): السيوفُ والدُّرُوعُ وتصادُمُهَا. تَنْضَافُ إلى هذا إشارةٌ كابوسية، إيحاءُ نسيجٍ مُكَوَّن من كائنات بشريّة. "نسيجُ رِجَالٍ" يموتون ويَتَقاتَلُون.

وبصفة مفاجئة يأتي إلى ذهني مجاز لِـ"كونكورا"Gongora يُذكِّرُ بِـ"نسيج الرِّجَال". إنه يتحدث عن مسافر وَصَل إلى "قرية بربريّة(متوحِّشَة)". وهكذا تَنْسِجُ هذه القرية أو تَجْدِلُ حولَهُ "حَبْلاً من كِلابٍ".

مِثْلَ حَبْلِ كلابٍ،
الذي تَنْسِجُهُ عَادَةً
قريةٌ بربريّةٌ
حَوْلَ الغريبِ.

وهكذا، وبغرابة، نجِدُ أمامَنَا نفسَ الصورة: فكرة حَبْلٍ أو نسيج مصنوع من كائنات حيّة. غير أنه، في هذه الحالة حيث يبدو أنه يوجد فيها تَرَادُفٌ، يبدو الاختلافُ بعيداً عن أن يكون غَيْرَ ذِي بَالٍ. حبل كِلاَبٍ، هو تصوُّرٌ مُسْتَهْجَنٌ وبذيءٌ، بينما نَسيجُ الرِّجَال هو واقعٌ رَهيبٌ ومُرِيعٌ.

وكي أُنْهِي مُحاضَرَتي، فسوف أستعير مجازاً- هو ربّما مُقَارَنَة، ولكنّي لستُ أستاذاً وهذا التمييز(الأستاذية) لا يشغلني- من شاعرٍ منسيٍّ اليومَ، في "بيرون"Byron. يتعلّق الأمر بقصيدةٍ قرأتُهَا أيَّامَ مُراهَقَتِي(يمكن أن تكونوا قرأتُمُوهَا، جميعاً، في وقت مبكّر). ولكن فقط منذ يومين أو ثلاثة أيام اكتشفتُ، بِصفة مُفاجِئَة، بأنّ المجاز موضوع الدراسة هنا بَالِغَ التعقيد. ولم أَكُنْ أبداً، وَلِحَدِّ الساعة، قد اعتبرتُ "بيرون"Byron كمؤلِّفٍ مُعَقَّد بصفة خاصّة. إنها كلماتٌ تعرفونَهَا جميعاً: "هِيَ تتقدّمُ بِشكلٍ رائِعٍ، مِثْلَ الليل."بيت شعريّ من الروعة بحيث يبدو لنا الأمرُ بَدَهِيّاً. فيأتينا الاعتقاد "أنّنا كنا نستطيع كتابَتَهُ ، لو أننا تحمَّلْنَا مَشَاقَّ ذلك." ولكنّ "بيرون" Byron وحدَهُ تحمَّلَ عناء كتابَتِهِ.

أَصِلُ إلى التعقيد الخفيّ والسريّ لهذا البيت الشعريّ. وعلى أيٍّ، فأنا لا أُشكِّكُ في أنكم اكتشفتُمْ ما سوف أكشفه لكم(أَلَيْسَ هَذَا دائماً ما يحدُثُ حين يتمّ إعلامنا بوجود مفاجأة أو حين نقرأُ رواية بوليسية؟). "هي تتقدَّمُ بِشَكْلٍ رائِعٍ، مِثْلَ الليلِ.": فأوّلاً، نحنُ أمام امرأة فاتنة، ثم نَعْلَمُ أنها تتمشَّى. "بشكلٍ رَائِعٍ"، ، وهو مَا يُذكِّرُنَا بالتعبير الفرنسيّ، حين نقول لامرأة: "أنتِ تَبْدِينَ جميلةً أكثَرَ من العادة"، هذه المرأة، هذه السيّدة الفاتنة يتمّ مقارَنَتُهَا بالليل. ولكن، ودون شك، وكي نفْهَمَ هذا البيت الشعريّ، فعلَيْنَا أن نُفَكِّرَ في الليل كامرأة. وإلاّ فإنّ البيتَ الشِعريَّ يفْقِدُ معنَاهُ. وهكذا فإننا نتوفّر في هذه الكلمات البسيطة جدا على مجاز مُزدَوِج: مقارنة المرأة بالليل، ولكن أيضا الليل مُقَارَناً بالمرأة. أنا لا أعرف، وهذا لا يهمّ، إن كان "بيرون" Byron قد تفطَّن لِهَذَا. أعتقدُ أنّ هذا البيتَ الشعريّ لن يكون بهذه الجَودة، لو أنّ الشاعر تفطَّن لِهَذا. وربما، وقبل أن يموت، يكون، في الحقيقة، قد فهِمَهُ أو أنَّ شخْصاً مَا قد لَفتَ انتباهه حول هذه النقطة.

ما هي، إذاً، الخلاصات التي نستطيع أن نقدِّمَها في نهاية هذه المحاضرة؟ أرى خُلاَصَتَيْن رئيسيَتَيْن. الأولى، وهي أنه، بالتأكيد، حتى لو استطعنا العثور على مئات أو على آلاف المجازات، فإنه يمكن اختزالُهَا، في مجموعها، إلى عدد قليل من الموديلات أو من الموتيفات البسيطة. وهذا ما كان ليُحزِنَنَا أو يُؤثِّرَ فينا، لأنّ كلَّ مجاز مختلفٌ؛ فكلّ مرة استوحينا فيها موديلاً، فإننا نقوم بتنويع مختلف. والخلاصة الثانية، هي أنه توجد بعض المجازات-مثلاً، "نسيج الرّجال"، "طريق الحيتان"- التي لا تنتمي لِموديلاتٍ مُحدَّدَة بشكل واضح.

لهذا السبب فأنا أعتقد، حتى بعد الانتهاء من محاضرتي، بأنّ الآفاق والمنظورات التي تنفتح أمام المجاز، هي بالأحرى جيدةٌ. وفي الواقع، إذا ما رغبنا في هذا، فإنّه من الجائز والمُبَاح لنا أن نَبْذُلَ قُصَارَى جُهُودِنَا لاقتراح تنويعات جديدة على الثيمات الكبيرة. إن هذه التنويعات يمكن أن تكون جميلة جدا، ووحدها الانتقادات النادرة، من نوع انتقاداتي، من يأخذ عِبْءَ مُعَارَضَتِها: "في هذه النقطة، نجد من جديد العيون والنجوم، وهنا نجد مرّة أخرى الزمن والنَّهْر..." إنّ المجازات تُلْفِتُ انتباه الخيال بشكل دائم. ولكننا نستطيع أيضاً امتلاك حظّ اختراع- ولماذا نَحْرِمُ أنفسَنَا من هذا الأمل؟- أقول اختراع مجازات جديدة لا تنضوي تحت لواء الأصناف المعروفة. غير المعروفة في هذه اللحظة على الأقلّ.
 
أعلى