مقتطف محمود شاهين - (24) سهرة في السماء!!

( فصل من رواية قصة الخلق )

تناقلت وكالات الأنباء أخبارا عن مقتل ثلاثة رجال أمن على أيدي داعشيين متطرفين .. أحد رجال الأمن كان له دور في إلقاء القبض على بعض الداعشيين المتهمين بملاحقة محمود أبو الجدايل وإرهابه بوسائل مختلفة . تم اغتياله بمسدس كاتم للصوت أمام باب بيته حين خرج في الصباح ليلتحق بعمله .. القتيلان الآخران قتلا بالهجوم على مركز أمن.. كما أصيب بعض رجال الأمن بجراح .. أجهزة الأمن أصيبت بصدمة من جراء ما حدث ، فكثفت من دورياتها وانتشار عناصرها في المدن المختلفة .

محمودأبو الجدايل تحدث مع صديقه ضابط الأمن الذي يتولى ملاحقة مهدديه ، وعزّاه مبديأ حزنه على (استشهاد النشاما) من رجال الأمن ، وقلقه من عدم تمكن قوى الأمن من وضع حد لهؤلاء القتلة . الضابط أبدى شكره لمحمود وأسفه لمقتل وجرح العناصر، مؤكدا أن الإرهابيين يعملون وفق مجموعات صغيرة مستقلة عن بعضها، تظل رابضة في خلايا نائمة مما يصعب كشفها دون تحركها للقيام بأعمال تخريبية أو اغتيالات أو هجمات ..

كان محمود جالسا إلى جانب لمى في صالون بيتها، يتابعان الأخبار المختلفة في العالم على التلفاز ، دون أن يعلقا عليها ، بدأت لمى تتثاءب ، فاستأذنت محمود للذهاب إلى النوم ، وسألته عما إذا يريد أن ينام ، فأجاب :

- كلا حبيبتي نامي أنت ، عندي رغبة شديدة في سهرة تأملات مديدة مع الله قد نسمر فيها معا ، وقد يصحبني إلى آفاق مجهولة لا أعرفها ..

- ليتكما تصحباني معكما!

وقبلت محمود قائلة " تصبح على خير"

- تلاقي خير .

******

أغلقت التلفاز ونهضت . دخلت إلى الحديقة داعبت نبتة ريحان لأشتم عطرها الفواح .. عبق الجو وأنفي برائحتها . استلقيت على الأرجوحة التي تذكرني بأرجوحة الطفولة التي كانت أمي تضعني فيها . يسمونها الحِذل، غير أنني كنت أبكي حين أكون يقظا ، لأن اهتزازات السقف يمينا وشمالا مع الحذل كانت ترعبني ، فأشرع بالصراخ ، وحين تدرك أمي أنني لن أتوقف عن البكاء كانت تحملني وتضمني إلى حضنها وتربت على ظهري وتغني لي" محمود ويا ظمة حريري/ لحطك بين جنحاني وطيري/ وهدي بك على برج الخليلي/ " وتظل تكرر على برج الخليلي مع خفوت صوتها شيئا فشيئاً، حتى أهدأ وأنام لتعيدني إلى الحذل.. هنا لست في حاجة إلى التأرجح لأرى السماء وربما النجوم تهتز يمينا وشمالا مع أرجحتي.. ربما حركة خفيفة لا غير تساعدني على الاسترخاء والذهاب بعيدا في المطلق ، حيث يكون الله . حبيبي الله آمل أن تظهر لي بهذا الجمال الخارق الذي ظهرت فيه في سهرتنا السابقة. ما لا يصدق يا إلهي أن يرفد طلبي أمرك لتتجسد في ربة خارقة الجمال ، ياه يا إلهي لو تطل على سكان الكرة الأرضية بهذا الجمال وتطلب إليهم أن يتبعوا الخير وينبذوا الشر لفعلوا ، أنا واثق أن جمالك سيدفعهم إلى تلبية رغباتك . لماذا لا تفعلها يا إلهي؟

" ألن أحتاج إلى قدرة خارقة أيها الحبيب لأستطيع أن أُري وجهي إلى كل انسان ومن كل مكان "؟

" إلهي الحبيب ! هل حضرت أم أحضرتني أو لعلني أحضرتك ؟"

" إن أحضرتني أحضرتك وإن أحضرتك أحضرتني ، فنحن في الحضور سواء "

" أعطني يدك أقبلها يا إلهي "

" بل قبل خدّي"

" إلهي!"

" وأنت تبادلني القبل يا إلهي "؟

" إذا لم أقبل من عرفني كما لم يعرفني أحد من قبل فمن سأقبل؟! هيا اجلس إلى جانبي "

" أشكرك يا إلهي "

" ولا تنس أنك أول انسان دفعني إلى التجسد في جمال انساني محدد وخارق ، وساعدني على تحقيق الأمر"

" أشكرك لاحتفاظك بهذا التجسد يا إلهي"

" أحببته أيها الحبيب ولن أتخلى عنه "

" وهل ستأكل وتشرب مثل البشر يا إلهي "

" لا لن آكل ولن أشرب . سأعمل على أن أبقى دون طعام وشراب"

" وهل هذا ممكن ؟"

" هذه مسألة سهلة علي كخالق فوجودي لم يبدأ بطعام وشراب ، بل بطاقة كما تعلم "

" وبماذا تتمتع يا إلهي إذا لا تتمتع بالطعام والشراب والنساء وغير ذلك"

" أتمتع بما يتمتع به خلقي المجسد فيه، من طعام وشراب وحب . من غناء وموسيقى . أتمتع بجمال خلقي ، وجمال ما يخلق ، أتمتع بجمال المدن والحدائق والبساتين والجسور والسدود، أتمتع بكل ما هو خيراني وجميل من أعمال خلقي.. أتمتع بجمال البحار والمحيطات والأنهار والشلالات ، أتمتع بجمال الجبال والهضاب والسفوح والصحاري.. أتمتع بفصول الربيع والخريف والشتاء والصيف "

" هل أنت راض عن خلقك يا إلهي"

" تسألني ما أعتقد أنك تعرف إجابتي عنه "

" أعرف يا إلهي أنك لا ترضى إلا عمّا يرضيك، لكني أريد أن أستزيد معرفة منك "

" أنت تعرف أن عملية الخلق ما تزال في بداياتها ، رغم مرور أربعة عشر مليار عام على بدايتها ، وخمسة عشر مليار عام على كموني في الهيولى البدئية . فحتى الآن لم أحقق إلا ما هو أقل من الحد الأدنى الذي أريد . لم أستطع خلق الانسان الكامل مثلا ، الذي تتجسد فيه كل قيم الخير والعدل والمحبة والجمال. لم أستطع التحكم المطلق بعملية الخلق رغم أن طاقتي تسري فيها. فالكائنات الضارة ما تزال تتكاثر ويخلق ما هو جديد ، والأشرار يولدون كل يوم ..فالهيمنة والغزو والحروب على كوكب الأرض ما تزال قائمة .. والتعصب الديني والعنصري والقتل والإرهاب والسجون وهدر حقوق الانسان واضطهاد المرأة والتعذيب ،والكره ، والحقد والفقر والجوع ، كل هذه المسائل ما تزال قائمة بين البشر ، رغم بعض بوادر الخير عند قلة منهم ، فكيف سأرضى عن خلقي وهذه حاله أيها الحبيب.

" إنه لأمر مؤسف يا إلهي، لكن ألم تحاول أن تسخر طاقتك السارية ولو في الانسان دون غيره أن لا يقوم إلا بأفعال الخير مثلا "؟

" هذه هي الغاية الأسمى لوجودي أصلا ، والتي بثثت طاقتي في الكون لتحقيقها، المشكلة في الانسان وفهمه للخير، هذا ما لم أستطع التحكم به ، فثمة من يرتكب قتل الانسان الآخرالمخالف لدينه بدعوى الايمان وعمل الخير، دون أن يدرك أنه يقتل شيئا منّي وفيّ بقتل هذا الآخر"

" هل أفهم من هذا الكلام يا إلهي أنك لست راضيا عن كل ما جاء في المعتقدات البشرية ، رغم أنها جاءت بتوظيف طاقتك في الانسان ، ويمكن اعتبارها معتقداتك أو كلامك ولو مجازا "

" أنت قلتها يا عزيزي ولو مجازا . أنا في حاجة لفكرالانسان لإغناء فكري، وقد منحت الكائنات القدرة على الخلق والتفكير، وبشكل خاص الانسان أكثر من غيره ، ليكون خالقا بدوره ، لنكمل معا عملية لخلق .. أمضيت مليارات الأعوام وأنا أقوم بعملية الخلق وحدي ، إلى أن قطعت شوطا هائلا في خلق الكون وما فيه من كواكب ونجوم ومذنبات.. فكان لا بد من خلق من في مقدوره أن يساعدني في عملية الخلق وبناء الحضارة الانسانية التي يمكنني أن أرى ذاتي فيها على أكمل وجه ، فمنحت الانسان ما لم أمنحه للكائنات الأخرى، حرية العقل ، لبناء الحضارة ، المؤسف أن الانسان لم يتوصل حتى اليوم إلى الغاية من وجوده ، ولم يعمل على تحقيقها، رغم كل ما فكر فيه ، أصاب حينا وأخطأ في أحيان كثيرة .."

" يخطر ببالي أن أسألك يا إلهي إن كنت سعيدا " ؟

افترت شفتا الله عن ابتسامة يستحيل أن تكون هناك ابتسامة أجمل منها ، خاصة وأن الله ما يزال متجسدأ في شكل أنثى ربّانية .

" لقد سألت أيها الحبيب وانتهى الأمر.. السعادة المطلقة غير موجودة وقد لا تتحقق حتى في المستقبل. الموجود سعادة نسبية . أشعر بها حين أرى عملا خيرانيا يقوم به انسان ما . لحظة حب جميلة بين محبوبين . أطفال يمرحون في حديقة جميلة .. ومع ذلك يختلج هذا الشعور بالسعادة النسبية بشعور آخر محزن ومؤسف ، حين أرى أطفالا وبشرا يموتون قتلا أوغرقا في بحار ، أو جوعا .. حين أرى مدنا تهدم على رؤوس ساكنيها .. هذه هي سعادتي التي يختلج فيها الحزن والفرح "

" أحزنتني يا إلهي كنت أظن أنك سعيد ، وثمة أسئلة كثيرة تدور في مخيلتي"

" اسأل أيها الحبيب فلن نلتقي كل يوم"

" هل أنت سعيد بلقائنا يا إلهي"

" أكيد .. سعيد إلى حد يذكرني بسعادة شعرت بها، يوم أن اكتمل خلق كوكب الأرض "

" هذا ما لم أكن أتوقعه يا إلهي.. وثمة سؤال أتخوف من أن أسألك إياه "

" أعرف أنك لست راضياً عما وصلت إليه عملية الخلق حتى اليوم ، لكن ألا ترى أن ثمة عمليات خلق كانت خطأ من أساسها "

"مثلا .. رغم أنني أعرف ما ترمي إليه "

" خلق الحيوانات المفترسة مثلا ، التي تفترس الحيوانات الأخرى أو الانسان .. أتألم كثيرا حين أرى حيوانات قوية تفترس حيوانات ضعيفة .. ألم يكن في مقدورك أن توجه هذه الحيوانات للحفاظ على بقائها في اتجاه أكل الثمار والنباتات وليس في اتجاه افتراس الأضعف"؟

" أنت تحدثت عن قوانين الخلق المنبثة في ذرات الكون التي تتم بواسطتها عملية الخلق"

" صحيح يا إلهي "

" واختيار نوعية الكائن يأتي من الذرات نفسها.. ودوري يكمن في الطاقة الخالقة السارية في الذرات، وتفعيل الاختيار، أي لتنفيذ ما قررته الذرات ، إذن فمسؤوليتي ليست مباشرة ، فأنا لست من يقرر ، أنا من ينفذ أختيار الذرات من المواد التي توفرت لها .. وهذا يعني أنني لا أرضى عن كل عملية خلق تتم ، رغم أنها تتم بطاقتي العقلانية الخالقة.. ولهذا أنا أحزن مثلك لافتراس حيوان أو لمقتل انسان .. فأنا وكما تعلم لست مصدر الخلق فقط بل مصدر كل شيئ بما في ذلك العواطف والمشاعر من حزن وفرح وألم وما إلى ذلك، فكيف لا أحزن حين أرى أفعالا لكائنات لست راضيا عن خلقها "

" هل هذا يعني يا إلهي أن بعض هذه الكائنات سينقرض في المستقبل ، وتخلق كائنات غيرها ، أو تتوقف هي عن الافتراس وتعيش على النباتات والثمار"

" أجل .. كل شيء قابل للانقراض والاستبدال .."

" المشكلة أن الانسان أيضا يفترس الحيوانات ، فهل سيأتي انسان يعيش على النباتات وثمارها؟ .."

" ممكن .. فأنت من رأى أيها الحبيب أن عملية الخلق ما تزال في بداياتها ،وقلت ما هو أبعد من ذلك أيها الحبيب"

" أجل يا إلهي قلت أن عملية الخلق الحقيقية لم تبدأ بعد ، وأن كل ما يجري هو واقع افتراضي يدور في الخيال الإلهي ، أريد لنا أن نراه حقيقة لنساهم بدورنا في عملية الخلق وبناء الحضارة .. "

" لقد قاربت الحقيقة أيها الحبيب رغم تطرقك إلى آراء بعض المتصوفة والفلاسفة"

"أجل يا إلهي فابن عربي رأى أن الوجود وهم ، وليس هناك وجود حقيقي إلا لك .. وجورج باركلي قال أن الوجود فكرة في عقل الإله ، ولا وجود للمادة إلا بمقدار ادراك عقلنا المحدود لها، وهذا ما أكدت عليه النظرية الكمومية في الفيزياء فيما بعد. والله بعقله غير المحدود هو القادر على ادراك الوجود المادي بكليته والحفاظ عليه"

" للأسف أيها الحبيب أن عقلي ما يزال محدودا رغم قدراته العظيمة، وجورج باركلي لم يفلح في هذه المسألة، رغم ادراكي الشامل للوجود .. وقد يمر زمن مديد دون أن أبلغ العقل مطلق الفعل والتفكير، ولهذا بثثت طاقتي العقلية في عقول الكائنات والعقل الانساني بشكل خاص لإغناء عقلي ، ولمنح الانسان القدرة على الخلق والابداع"

" لكن يا إلهي طالما أن عقولنا تستمد طاقتها من عقلك ، فلماذا لا يكون لنا قدرتك على الإدراك والتفكير والخلق وتطوير قوانين الخلق ؟"



" لأن ما لدى عقولكم هو قدر قليل من طاقتي العقلية الكونية ، هذا من ناحية ، ومن ناحية ثانية أنتم لا توظفون عقولكم بأقصى طاقتها ، ولو وظفتموها لصنعتم معجزات أكثر مما صنعتم ، ولتقدمنا أسرع في عملية الخلق واستشرفنا آفاق الخلق المنشود"

" متى سيوجد هذا الخلق يا إلهي ؟"

" بالضبط لا أعرف ، لكن ليس أقل من مليون سنة!"

" آه يا إلهي .. مليون سنة؟ هل سيرى بعض البشر هذا الخلق ، وكيف سيكون"؟

" من ستتحد طاقتهم الخالقة بعد موتهم بطاقتي الكونية سيرون ذلك بالتأكيد ، فهم مشاركون معي في خلقه "

" كم أعداد هؤلاء يا إلهي؟"

" ليسوا كثيرين على الأغلب.. وجميعهم من أصحاب الحكمة والفضيلة ومن كبار الأدباء والعلماء "

" من مثلا مِن الأدباء اتحدت طاقتهم بطاقتك بعد موتهم . ؟"

" دوستويفسكي .. هوجو ، شكسبير، المتنبي. شارلوت برونتي. كازنتزاكي . دانتي. غوته. نجيب محفوظ"

" هل أنا من الذين ستتحد طاقتهم بطاقتك بعد موتي يا إلهي ؟"

وهنا ضمني الله وهو يهتف :

" أجل أيها الحبيب ، انت أهم هؤلاء"

ألقيت رأسي على صدر الله وأنا في غاية الفرح، ورحت أشكره من أعماقي:

" أشكرك يا إلهي سعادتي بلقائك ورؤيتك لي أكبر من الكلام لأن يعبر عنها "

" أنت تستحق كل ذلك أيها الحبيب ، أسمعني مقطعا شعريا كتبته أنت ذات يوم ضمن مطولة شعرية تحاور فيها درويش. أحب ذاك المقطع لأنك تنبذ فيه العالم القائم وتتطرق إلى العالم المنشود :

" لا خير في فجر

يرسم بقنبلة تقابلها قنبلة

ولا خير في أمم

صنعت التاريخ بالسيوف

فصار حاضرها مهزلة

وأهلا بأمم قد تأتي يوما

لتصنع تاريخها بالقُبل

وترسم خيوط فجرها بالسنابل

كل سنبلة تقابلها سنبلة .

" ما أجملك أيها الحبيب.. هذا هو العالم الذي أنشده "

" أشكرك يا إلهي.. ثمة تساؤل مهم خطر على بالي "

" ما هو ؟"

" تحدث بعض العلماء عن امكانية حياة متقدمة جدا على بعض الكواكب، فهل هناك حياة فعلا على بعض الكواكب ؟"

" لا ، لا يوجد حياة أكثر تقدما من الحياة الموجودة على كوكب الأرض .. هناك حياة تنشأ على بعض الكواكب لا غير "

صمتنا للحظات لم يتكلم فيها الله . شعرت برغبتي في كأس. قررت أن أصارح الله رغم أنه لا يرغب في أن يأكل ويشرب:

" عندي رغبة لأن أتناول معك كأسا يا إلهي "

" من أجلك سأفعل "

" ياه ... ما أجملك يا إلهي .. من أين سنحضر الخمر"

" لا عليك سأتصرف "

وخلال لحظات وجدت نفسي مع الله نجلس على بساط طائر متكئين على وسائد حريرية تحف بنا بعض الزهور وتعلو سماءنا نجوم صغيرة متراقصة وسط غيمات بيض ملونة ، انبعثت من أرجائها موسيقى هادئة يرافقها لحن ناي شجي، فيما كانت نافورتان تبثان رذاذ ماء أقرب إلى البخاريختلط بالغيوم فوقنا ، وقد انتصبت أمامنا على مائدة زجاجة خمرإلى جانب كأسين ، وبعض المقبلات من المكسرات الشهية وأطباق الفواكه.

أشار ألله بيده إلى الزجاجة فانفتحت من تلقاء نفسها ونهضت لتسكب لنا الخمر في كأسينا ، ليحلق الكأسان باتجاهنا.. مدد ت يدي وأخذت الكأس من الفضاء ، فيما كان الله بجماله الرباني الآخاذ يمد أجمل يد شاهدتها عيناي ويأخذ كأسه ليقرعه بكأسي ولنتبادل الأنخاب.

" بصحتك أيها الحبيب"

" بصحتك يأ إلهي "

ثمة مسائل كثيرة تدور في مخيلتي ولا أعرف إن كانت سهرتنا ستطول خاصة وأن الفجر بزغ كما يبدو ، ولا أعرف ماذا سأسأل الله الذي لن ألتقيه كل يوم بالتأكيد .. لذلك سألت الله :

" إلهي هل لي بسؤال "؟

" لك أن تسأل ما تشاء أيها الحبيب"

" لو أنك وجدت نفسك كلي القدرة ، وأن أوامرك ستنفذ فورا مهما كانت اعجازية ، فما هو أول شيء ستفعله ؟"

" سأفعل ما فعله الملك لقمان في ملحمتك الأدبية " الملك لقمان " حين وجد نفسه أمام جني يقدرعلى فعل المعجزات يتبعه ملايين الجن"

" يا إلهي أنت تعرف ماذا أكتب "؟

" ألا تكتب بوحي مني يا محمود؟ "

" هل ستطلب إلى الجن أن ينزعوا السلاح من كوكب الأرض ويلقوه على القمر؟"

" ليس لدي جن كما تعلم . سأطلب إلى السلاح نفسه أن يستجيب إلي وأن يقذف نفسه في الفضاء ليستقر على المريخ أو غيره "

" السلاح كله ؟"

" كله من المسدس والبندقية إلى الدبابة والصاروخ إلى البارجة وحاملة الطائرات"

" آه لو يحدث هذا يا إلهي ونرى أنا وأنت سلاح كوكب الأرض ينقذف في الفضاء وكأن ريحا عاتية تعصف به في الفضاء الكوني"

" قد يحدث هذا يوما أيها الحبيب"

" آمل ذلك يا إلهي.. وماذا عن الخطوة الثانية "

" سأطلب إلى قيم الخير والمحبة أن تسود، وسأطل بوجهي هذا من كل مكان على كل انسان على الكرة الأرضية، واقول له أنني أنا الله وأنه جزء مني ، وأنه ينبغي عليه أن يعمل معي لتحقيق قيم الخير والعدل والمحبة والجمال وإقامة الحضارة الانسانية كي أرضى عنه ، وأطيل عمره"

" يا إلهي الحبيب هذه أفكاري "

" أيها الحبيب ألم تدرك بعد أن أفكارك تتم بوحي مني "؟

" آسف يا إلهي .. يبدو أنني أنسى أو أتجاهل !"

" لا داع للأسف أيها الحبيب "

" وماذا أيضا يا إلهي ؟"

" سنحول كوكب الأرض إلى جنة حقيقية ينعم فيها البشر جميعا بالمحبة والسعادة والعدل"

" وماذا عن الدين يا إلهي ؟"

" هذا هو الدين .. تحقيق القيم التي تحدثنا عنها "

" والأديان القائمة ؟"

" تصبح من مدونات التاريخ "

ثمة مشكلة وضعني الله أمامها حين تجسد لي في شخص أنثى ربّانية تستوي فيها الأنوثة والذكورة، يستحيل على من يراها أن لا يشتهي تقبيلها.. ورغم أنني قبلت الله عند لقائنا إلا أن رغبتي في تقبيله ظلت قائمة ، ولا أعرف كيف وجدت نفسي أعود لمخاطبته كربّة ، كما حدث في سهرتنا السابقة. ربما بتأثير الخمر التي نشربها . همست وأنا ألقي رأسي على كتفه وأبسط راحة يدي اليمنى على خده الأيسر لأقرب رأسه مني :

" أريد أن أقبلك يا ربتي الحبيبة "

أعطتني الربة خدها لأمطرها بقبل ليس ثمة ما هو أجمل وأمتع منها على الاطلاق.

" ربتي حبيبتي .. تقبيلك يطيل العمر.. بصحتك "

" بصحتك أيها الحبيب "

وقبلتني بضع قبلات زادتني متعة ونشوة .

" ربتي ؟"

" ماذا أيها الحبيب "

" ما هو اليوم الأكثر فرحا في حياتك ؟ "

" هذا اليوم "

" معقول يا ربتي ؟ "

" أجل معقول "

" لماذا ؟ "

" لأنني لأول مرة منذ أن وجدت ، أتجسد في شكل انساني مختلف ، وأجالس انسانا مختلفا أحبه"

" يا ألله يا ربتي كم أنا سعيد لأنني شريك في يوم فرحك وسعادتك "

" لك الدور الأهم في هذا اليوم أيها الحبيب .. لأنك كنت تبحث عني "

" أشكرك يا إلهتي الحبيبة.. "

شربت نخب ربتي ربما للمرة العاشرة، وتبادلنا القبل كثيرا .. وبدأت أشعر بنشوة فريدة لم أعشها من قبل ، ولم أعرف أوأسمع عن مثيل لها في حياتي ، وربما بدأت أثمل . سألتها ؟

" هل هذا الخمر مسكر يا ربتي "

" لا لا يسكر ، لكنه يثير النشوة"

" أشعر بنشوة تملأ كياني كله، لا أستطيع أن أصفها "

" أنا سعيدة لشعورك بذلك "

" ربتي الحبيبة ، هل أزعجك لو سألتك عن أسوأ يوم في حياتك ، حزنت فيه كثيرا "

"لقد سألت حبيبي وانتهى .. أسوأ يوم في حياتي .. هو اليوم الذي جعلني أفكر في تدمير الكون وإعادة الوجود إلى الصفر المطلق .."

" ما هو هذا اليوم يا ربتي "؟

" إنه اليوم الذي ألقى فيه الأمريكيون القنبلة النووية على هيروشيما"

" ياه ياه يا ربتي الحبيبة .. لنشرب نخب ضحايا هيروشيما ، وضحايا الحروب كلها ..

شربنا نخب هيروشيما.. ولم أعرف أنني بتذكير إلهتي إلهي بيوم حزنه سأذكره بالحزن وأدخله فيه .. فلم أتنبه له إلا ودمعتان تنزلقان على وجنتيه وهو يحاول أن يلقي رأسه على صدري . احتضنته بدوري ورحت أمسح دمعتيه ، وأملس على أجمل شعر رأته عيناي، بل وأمطره بالقبل وقد تفوح عطره الأخاذ ليعبق في أنفي :

" عذرا إلهتي الحبيبة لتذكيري لك بالحزن .. كنت أظن أن الحزن للبشر وحدهم ،ولم أدرك أنك مصدر كل شيئ في الوجود حتى العواطف والأحزان ..

" آه أيها الحبيب لو تعرف مقدار الأحزان التي مررت بها منذ أن وجدت ، لطار عقلك ! البشر يحزنون لمسائل محددة يسمعون بها أو يرونها ، أو يمرون بها، أما أنا فأحزن لكل شيئ: لسجين تحت التعذيب في أقبية السجون ، لطفل يتضور جوعا ولا أستطيع أن أمده بالطعام .. لغريق يبحث عن طوق نجاة .. لرجل يعذب امرأته .. لفتاة تغتصب . لأجساد تحت دمار جراء ألقاء قنبلة ما على بناء ، لقتلى في معركة جراء حرب مشتعلة ، لعواصف وزلازل وبراكين تودي بحياة بشر وأملاكهم .. مصادر حزني لا تعد .. وما يزيد من حزني أنني كإله لا أستطيع أن أفعل شيئا إزاء ذلك .. لمحدودية قدراتي .. "

" آه يا يا إلهي الحبيب .. لكل هذا أنت في حاجة إلى الانسان المحب للخير والجمال، ليخفف من أحزانك ، ويعمل معك على تقدم الخلق "

" أجل أيها الحبيب ، لهذا خلقت الانسان الذي لم يعرف بعد الغاية من وجوده ، ويظن أن عملية الخلق قد انتهت "

" ألن يعرف في المستقبل القريب يا إلهي ؟"

" القريب لا .. قد يعرف بعد بضعة قرون "

شعرت أن الله يريد أن يرتاح ويغفو على صدري لبعض الوقت ، وقد بدأت خيوط الفجر تنبثق في الأفق الشرقي .. فقلت لله أن الفجر بزغ ، وسيطلع النهار ، وأنا لا أريد ذلك يا إلهي لأطيل سهرتي الممتعة معك .

" النهار لا بد أن يطلع أيها الحبيب ، لكني سأوقف الزمن على الفجر لبعض الوقت قبل ذلك ، لنبقى معا فترة أطول .. ويراودني احساس أن لقاءنا هذا بجسدين لن يتكرر.. "

" هل هذا يعني اننا لن نلتقي إلا كطاقتين في المستقبل يا إلهي ؟ "

" أجل أيها الحبيب ،وإن كنت لا أجزم بذلك "

ورحت أملس على شعر الله بيد وأربت على ظهره بالأخرى، وهو يغفو في أجمل نوم رأته عيناي .. وبدت لي خيوط الفجر التي كانت مرتسمة في الشرق قد توقفت على حالها . فأدركت أن الله قد أوقف الزمن في الكون كله . قبلت شعره . وألقيت خدي على رأسه .. لنذهب معا في نوم عميق بين أحضان السماء.

*****

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى