محمد بشكار - ألْف عُطلة وعُطلة!

أكْذب على نفسي ولو صدَّق غيري غابِطاً إذا قلتُ دون شعور بالغِبْطة انتهتْ عطلة الصيف، والحقيقة أنه في ظل الإغلاق الشَّامل حتى لا أقول الحجْر الكوروني، قد فقدَت الفصول أسماءها ولم نَعُد نعرف هل ما سَيَعْقُب الصيف هو فصل الخريف أو موسم تساقط الأرواح؟
انتهت العطلة وما هي بعطلة في نظر أغلبية المواطنين المغلوبين على فقرهم، فالعطلة فلوس تُنْفَق لشراء قسط من المتعة، وليست مجرد سيولة لا يتقنها بالمجان إلا البحر، العطلة سفرٌ قبل أن تصبح المدن منافي لِسكَّانها، العطلة سهرٌ لآخر الشهر موعد الهجرة الجماعية للشبابيك الأتوماتيكية حين تستعيد بالأجور دفئها، أما من يعْتَاش دون أجر شهري مُياوماً، فهو أعمق الناس معرفة بالجانب الأسود للعطلة، فقد عاش ميِّتاً بعد انقطاع مدد الدولة أكثر من سبعة أشهر عاطلا، العطلة فنادق بمسابح فاخرة في الغيوم، وليس ما تُصوِّره الأنباء المتواترة في كل لحظة عن تطوُّر الوباء، لتُبصر عِوض فنادق الغيوم مكانك المؤجل في أحد المستشفيات الميدانية، وهذه الرؤى ما يمكن أن نسميه كوابيس في عز الظهر من خمسة نجوم !
انتهت العطلة، غير أنِّي اختبرتُ في ظرف شهر أكثر من عطلة، وأهمها تلك التي ترجع بأقدميتها قرونا من التخلف في بلداننا، وَما زالت في عَطالتها السحيقة مُتواصلة في العقل العربي، ومن نتائجها في هذا الصيف الذي لا يخلو أيضا من جَنْي للتين الشوكي، أنْ انهارت إحدى أجمل العواصم العربية في رمشة عين مازال دمعها جارياً مع تحقيق طويل الفتيل، ولا أعجب بعد هذه الفاجعة، إلا مِمَّن يتحدث عن إعادة إعمار بيروت مُتغاضياً عن الأرواح البريئة التي ذهبتْ ضحية الإنفجار !
أعلم أن العطلة قد انتهت، ورغم أني بسبب الطَّوْق الكوروني لم أخرج بعْدُ أبْعد من بيتي، فلن أُخْلِف ميعادي في الدخول الثقافي والسياسي والمدرسي أو أيّاً ما يسمُّونه ولو كان بدون ملامح عديم الوجه، سواء كان هذا الدُّخول من الدخول عن بعد أو قريبا من الخطر في بلادي، وإذا أخلفتُ الموعد مع المستقبل، فعذري أني عربي أعيش غدي في غابر العصور!
أعترف أني أخذتُ كفايتي من العطلة وأحتاج أن أطلق سراحي، فعطلتي كانت بأكثر من عطلة وأهمها كما أسْلفتُ غيبوبة العقل العربي، ومن صدماتها في شهر غشت بعام كورونا، التطبيع الذي أعلنت خيبته متباهية دولة الإمارات مع الكيان الصهيوني، الآن فقط أدركت كأيِّ عربي أخير كما أدركتْ العنزة القمة في أوطإ شجرة، المغزى أو الغاية التي كانت لأجلها الإمارات تُفْرش الورود تحت أرجل المثقفين والفلاسفة والشعراء في البلدان العربية، لم يكن هذا السخاء الإماراتي كل هذه السنين، إلا حشواً لأفواه الأصوات المُؤثِّرة بالذَّهب، فلو لم تضْمن كل هذا الخرس، ما استكملتْ بهدوء مشروع طعنة الغدر المجانية في ظهر فلسطين، فما من مسيرة مليونية تجلجل اليوم بإحدى العواصم، واليد المحشوة بالدولار لا تدُقُّ الجرسْ !
لقد عرفت إسرائيل من أين تُؤكل الكتف حين اختارت الإمارات لتدفع من آبارها أموالا طائلة ثمناً لسكوت الشارع العربي، لذلك نجد هذه الدُّويلة العربية الغِرَّة سياسيا والتي لم تطفُ على خريطة العالم إلا عام 1971، قد سخَّرت إسرائيل اليوم جيوبَها لشراء أو احتكار مشاريع إعلامية وثقافية في البلدان العربية ومنها المغرب، لكي تتحكَّم من خلال أبواقها في توجيه الرأي المحلي العام، ولا أحد يغْفل أن العدو يستهدف أولا لخدمة مصالحه السياسية على المدى البعيد، أفكار المؤثِّرين التي تبلور ضمير الأمة وتُوطِّد قِيمَها، ورغم أنه ليس كل أبناء عبد الواحد واحداً، فثمة للأسف من المثقفين من بجيبه هشاشة موصولة بقلبه المريض، ومع ذلك يُصنَّف كذباً من كبار الأدباء، ولا يستطيع مقاومة المدد الإماراتي حتى بعد أن غلب الطَّبع التَّطبُّع مع إسرائيل، وينتظر مُتلهِّفاً أن يأتيه في شكل جوائز أو تعويضات عن مناصب وعضويات في مجالس أو مقاعد ولو مؤقتة، ثمة يا .. للأسف من يَحْسب بصْقة الطائر على الأرض درهماً، ويستطيع في أول شيك يليه آخر وشيك، أن يسْتبخس كل القيم والأخلاق والقضايا المصيرية واليقينيات الفكرية المتوارثة عبر أجيال، بل ثمة من مُقابل تَسلُّمِه قيمة أرض جاهزة لبناء عقار من ستين مترا يبيع الوطن !
ما أشبه اليوم بالأمس ونحن ننظر إلى نُسْخة مُعَدَّلة صهيونياً لملوك الطوائف تتجسَّد فادحاً في الحُكام العرب الذين يُكمِّمون في زمننا إرادة الشعوب، لا فرق بين من باعوا الأندلس مُنْغمسين في ألف ليلة وليلة، وبين من يبيعون اليوم البلدان العربية بالجملة وبأبخس ثمن ضائعين بعقولهم المتخلِّفة في ألف عطلة وعطلة !
ألم أقل إني عشتُ في عطلتي السَّنوية أكثر من عطلة، وأفظعها شللا تلك التي بدون ترخيص أو مُدة محدودة، تلكمُ التي زجَّتْ بالعقل العربي في تفكير مُغلقٍ ومحدود سقيم، أريد أن أدخل من كل هذه العُطَل إلى العمل وأن لا أترك مكاني شاغرا في التاريخ لشعوب لقيطة، أعلم أن الساعة ترقص في كل جدار تيك.. تاك وتنتظر يقظتي، ولكنني أعرف كذلك أن أسفاً لا يفارقني على كل من ضيَّع عمره في جهد فكري لم ينتج اليوم إلا جيل التيك.. توك !

....................................
افتتاحية ملحق"العلم الثقافي" ليوم الخميس 3 شتنبر 2020




تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى