فارس حدادي - اعترافات حرّاڨ.. الهروب من سجن اسمه “وطن”

وجاءت تلك السّاعة، التي قررت فيها مغادرة "الوطن"

حين كبرنا، وقعنا في الفخّ. لم نجد “الوطن”، الذي قرأنا عنه في المدرسة وسمعنا عنه في الإذاعة والتلفزيون.

وجدنا أنفسنا في سجن واسع اسمه “وطن”، مُسيّج بالأكاذيب والشّعارات الفضفاضة. وجدنا أنفسنا في “وطن” لم نختره، بل وجدنا فيه أنفسنا صدفة.

الجغرافيا ظلمتني وألقت بي في ربوعه الخالية من الفرح.

ثلاثة عقود مرّت لم أشعر فيها بالانتماء إليه. أعيش فيه مرغمًا، وأموت، كلّ يوم، اغترابًا وحزنًا، متطلعاً إلى ساعة الحرية التي سأكون فيها بعيدًا عن همومه وقسوته..

.. جاءت تلك السّاعة، التي قررت فيها مغادرة “الوطن”، بعد عقود من الصّبر..

كنت – حينها – أشعر بفرح، انعتاق، نشوة، وأنا أحمل رزم أوراق وأدق أبواب القنصليات للهرب منه.. شعرت بالانتماء لشيء غريب وتسرّبت إلى أعماقي الخاوية ومضة فرح حين شممت في تلك القنصليات رائحة جديدة، رأيت وجوها لم أتعوّد عليها، وجدت معاملة حسنة عزّزت فكرة الهروب من جحيم تعمّق بعد فشلي في الحصول على فيزا، تتيح لي سفرًا محترمًا..

لم يتحقق حلم الخروج من “الوطن” بفيزا وكأن الهروب يتطلب مشقّة مُضاعفة، تتجاوز شقائنا التّاريخي، الذي دفعنا للبحث عن كلّ الطّرق للتحرّر..

الوجهة كانت تركيا..

وصلت إليها ذات أمسية شتوية، اكتشفت فيها نكهة أخرى للمطر واقتحم قلبي شعور لذيذ بالانعتاق وأنا أسير في أزقة اسطنبول الفاتنة. خيّل لي أنني صرت حرّاً، وُلدت من جديد. غمرتمني متعة الاكتشاف..

جعلتني اسطنبول، بسحرها وتنوّع عمرانها، وبجحافل سيّاحها ومباهجها، اكتشف وهم “الوطن”. وقبل ذلك حين حطّت الطائرة في مطار أتاتورك الدولي، كم اكتشفت أنّك صغير يا وطني، لا تملك حتى مطارًا محترمًا وإنما مجردة بقعة تشبه محطة حافلات في دولة فقيرة..

في اسطنبول، اكتشفت كذبة “الوطن”، الذي لا يزال إعلامه الخشبي يروّج له بوقاحة الدجالين، في اسطنبول خيّل إليّ أن كلّ حياتي عشتها في مرزعة تعجّ بالتيوس والكلاب والجرذان.. ما أصغرك يا وطني وما أكبر خيبتي فيك..

قضينا أيامًا في أسطنبول، نتجوّل بين أزقتها العتيقة ومراكزها التّجارية الضّخمة وشوارعها المزدحمة بالتّجار والسّياح والمهاجرين والعاهرات والمهربين.. تغريك كثيرًا اسطنبول، كفتاة روسية فاتنة تسحبك إلى غرفة فندقها وتغلق الباب ولا تتركك إلا بعد أن تفرغ جيوبك وتلقي بك خارجًا..

بعد أيام، نجحت في مقاومة إغراء اسطنبول ولم استسلم لمفاتنها التي لم أجدها في وطني التّعيس. اجتمعنا بمهرّب رتّب عملية خروجنا ودفعنا له ثمن بطاقات هويّة فرنسية ويونانية مزوّرة (حوالي 200 أورو) ولم يبقى لنا إلا أن نغادر إلى مدينة أزمير للوصول – بعدها – إلى واحدة من الجزر اليونانية.

صباحًا، نزلنا إلى بار الفندق، سحبنا جوازاتنا واحتسينا قهوة. كان يوم جمعة. وجدنا شابًا من الغابون يُدعى عبدو، سيرافقنا إلى محطة الحافلات ويقطع لنا تذاكر الحافلة إلى أزمير.

عبدو شاب غابوني يعيش في اسطنبول منذ سنوات، وصل إليها كلاعب كرة قدم، لينتهي به الحال إلى مهرّب. عبدو يغمرك بطيبته الأفريقية الفاضحة وبلغة فرنسية سليمة يحدّثك عن طغيان الأنظمة الاستبدادية في أفريقيا والمصير الأسود الذي يواجهه الشباب الأفريقي في محاولاتهم للهروب من تلك القارة، التي تعجّ بالطّغاة واللصوص وعملاء الاستعمار.
نجحت في مقاومة إغراء اسطنبول ولم استسلم لمفاتنها
نجحت في مقاومة إغراء اسطنبول ولم استسلم لمفاتنها

ونحن في المحطة نحتسي شايًا ساخنًا، يبدّد برد الصّباح، كنت أتأمل وجوه المارّة وألمح البساطة والهدوء في وجوهه. كنت أراقب عمّال المحطة من سائقين ومساعديهم، وهو يلبسون هندامًا أنيقًا. أبهرني ذلك الالتزام بالوقت في الإقلاع الى وجهات أخرى واستحضرت محطات وطني الموبوءة بحافلاتها المهترئة وقذارة المكان والاحتيال وتلك الأشكال المنفّرة المتجهّمة وعصبية المزاج – دوما وبلا سبب – وتلك السادية المريعة تجاه المسافرين حين ينتظرون لوقت طويل، يستنشقون دخان الحافلات التي لا تصلح سوى لنقل المواشي والعلف وليس البشر.

أقلعت الحافلة في الوقت المحدّد. جلست قرب النافذة ومنعت نفسي من النوم ورحت أتأمل المكان من بنى تحتية متطوّرة وبنايات منسجمة ونظافة لافتة وتضاريس متنوعة بديعة وطرق عصرية وجسور ضخمة، تصل الشّق الأوروبي لاسطنبول بشقها الآسيوي. كانت طريقا طويلة لكنني لم أشعر بها وأنا أرى عالمًا جديدًا لم أتعوّد عليه في وطني الباهت، المتّجه إلى الخلف بنفس السّرعة التي يتجه فيها غيره إلى آفاق أرقى وأجمل.

مررنا على مدن ضخمة هادئة ومغرية، وعلى طول الطريق نلحظ حجم التطور الذي تحقق في تركيا منذ مطلع الألفية. مؤسسات اقتصادية ومصانع وورشات كبيرة وانشاءات وحقول زراعية وإنجازات كبرى عجلت بخروج تركيا، التي أنهكها العسكر لعقود طويلة، من الفساد والتضخم والقمع، إلى النّور.

توقفنا في أكثر من محطة. كنّا نرى نفس الهدوء والبساطة والانضباط الذي تتقيّد بها الحافلات وكان بين الفينة والأخرى يكرّمنا عاملها اللطيف بأكواب عصير وقهوة وحلوى. توقّفت الحافلة في آخر محطة لها قبل الوصول إلى وجهتنا، دخلنا المحطة الفخمة، تناولنا وجبة العشاء وخرجنا لندخن مع زخّات مطر ناعمة.

تلقيت اتصالاً من المهرّب، كان يرغب في معرفة موقعنا ليخبر عنا مهرّبًا آخر كان في انتظارنا في محطة أزمير، التي وصلنا إليها مع منتصف الليل.

اتّصلنا بالمهرّب الثّاني. كان كرديًا، من العراق، طلب منا أن نأخذ تاكسي ونطلب من السائق أن يوصلنا إلى مدينة بسمانة. بعد أقل من ربع ساعة كنا في بسمانة. اتصلنا بالمهرب وطلب منا الانتظار ريثما يأتي شاب ليرافقنا إلى الفندق. بينما كنت أدخن أنا واثنان من رفاقي رأينا شابًا عشرينيًا نحيل الجسد يتّجه نحونا. ألقى السلام وصافحنا وقال: “حضرتكم جزائريين؟”، ثم واصل: “أنا مبعوث المهرّب”.

رافقنا إلى فندق متواضع، رفضنا الإقامة فيه، واخترنا فندقًا آخر، كان يبدو محترما، لكنه رفض أن يحجز لنا بحجة عدم امتلاكنا جوازات السّفر..

أقمنا في فندق متواضع آخر، يملكه كهل مرح لا يهتم بهويات نزلاء فندقه الذي يرتاده العمّال والمهاجرون، خاصة منهم الأفارقة والجزائريين. كان الشتاء لذيذا في مدينة بسمانة. كنّا نتجوّل فيها بتحفظ، خشية من الـمن المنتشر بكثافة في مدينة تعجّ بالمهربيين وتجار المخدرات والمهاجرين غير الشّرعيين الذي اختاروا بسمانة كنقطة انطلاق إلى الجزر اليونانية.

في الفندق، وجد كثيراً من الاكراد والأفارقة، مع سوريين وجزائريين. كان هناك عامل كردي تركي يأتي مساءً. بعد أن يدخل غرفته ويغلق الباب، يشرع في العزف على غيتارة، بشكل يمزّق الروح. كانت الأيام متشابهة في الفندق.. نوم وخروج لتناول الطعام واقتناء السّجائر.. تلك الأيام والليالي الهادئة في الفندق كان يتخلّلها أحيانا اقتحام شباب جزائريين الفندق بعد منتصف الليل بفضاضة شديدة، يدخلون في مناوشات حادّة مع عجوز أعرج يشتغل في الفندق، يحاول دفعهم خارجا لأنهم لا يملكون ثمن المبيت ولا يتردّد هؤلاء في شتمه بألفاظ نابية من قاموس شتائم الجزائريين.

بعد مرور أسبوع، طلبنا من المهرب أن يأتي. جاء مساءً. أخبرنا بأنه هناك رحلة نهاية الأسبوع أو بداية الأسبوع، الذي يليه، بسبب رداءة الجو.

ذات مساء، جاء إلينا مساعده الشّاب الكردي الذي استقبلنا اول يوم، طلب منا تحضير أنفسنا والاستعداد للرحلة. بعد ساعات طلب منا أن نخرج ونرافقه في الشارع المؤدي إلى شارع آخر على طرف المدينة. وصلنا حيث مكان شبه مهجور. بقينا هناك، للحظات، ثم طلب منا أن نصعد إلى حافلة كانت مركونة بالقرب من بناية مهترئة. وجدنا داخلها عائلات عراقية. وبعدها بلحظات بدأ وصول أفراد آخرين أفارقة وسوريين. جاء مهرّب اخر وطلب منا أن نتفادى الضّجيج. انطلقت الحافلة بعد انتظار طويل والتحاق “النفرات”.

كانت سيارة تسبق الحافلة، كانت عبارة عن كشاف يعتمد عليها سائق الحافلة في مسيره. كانت الرحلة طويلة، امتدّت حوالي 300 كلم، توقفنا خلالها لمرتين، الأولى بسبب حاجز أمني غادر بعد منتصف الليل والاخرى بأمر من الكشّاف الذي كان يتفقّد البحر. بعد توقف الحافلة في محطة وقود مهجورة نزلنا للتبوّل والتدخين. كانت الرياح باردة جدًا.

صعدنا مجددًا إلى الحافلة، على أصوات بكاء الأطفال. كانت أمامي طفلة سورية مع أمّها ترتعش من البرد. حاولت أن أنام وفشلت بسبب البرد. لم أكن أشعر بحركة الحافلة التي انطلقت وتقدّمت كثيرا حتى توقفت اخيرًا وسمعت مرافقي يوقظني وسائق الحافلة ذلك التركي الطويل الأصلع يطلب منا النزول بسرعة وبلهجة مشرقية “يلا يلا!”.

بعد النزول، داهمنا ريح قوي بارد. ابتعدنا عن الطريق ووجدنا أنفسنا في حقل زيتون والرياح وقحة لا ترحم وعلى الشاطئ مشاريع مهاجرين من جنسيات مختلفة لا يملكون إلا أحلامهم بعد أن هربوا من حروب وأوطان وفساد وجحيم وخيانات، ترتعش أيديهم وهي تعبث بالهاتف خلسة عن المهرّب وتكتب آخر رسالة إلى أهل أو أحبة ليقوموا بلفها في كيس بلاستيكي حتى لا يطالها الماء.. سيكونون في عداد الموتى وفريسة محتملة تبهج بطن بحر إيجة. ارتدينا النّجادات التي اشتريناها من بسمانة. دخنت آخر سيجارة بعيدًا عن المهرب، حتى ترائ أمامنا قارب مطاطي وتفاجئنا أنه صغير الحجم مقارنة بعدد الركاب الذي تجاوز الثلاثين. الاحتجاج في هذه اللحظات لا ينفع، ليس باليد حيلة.

بدأ الاطفال والنّساء في الصّعود وارتفع البكاء والصّراخ ربما لأن الأطفال صدمهم البحر والليل والخوف والنّاس من حولهم. بدأ المهرّب بفضاضة لا مثيل لها في تكديس النفرات حتى جاء دوري. دخلت البحر. كان باردًا جدًا. تبلّل جسمي وبالكاد حصلت على مكان أجلس فيه.ُ

يُتبع..

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى