خورخي لويس بورخيس - إقتراح الواقع.. ت: عدنان المبارك

حسم هيوم Hume نهائيا مسألة أن حجج بيركيلي Berkeley لاتسمح بأقل نقد ولاتقود الى أيّ إقناع. ولتفنيد براهين كروتشه Croce أرغب الإعلان عن حكم هو أيضا منوَّر و ُمفحِم. وأنا لا أقدرعلى الأخذ بقول هيوم. فنظرية كروتشه تملك هبة الإقناع ولو أنها ميزتها الوحيدة. إن عيبها في عدم صلاحها مما يتيح غلق النقاش وليس تطويره.
إن أساس هذه النظرية - كما يتذكر القاريء – هو تطابق الأستيتيكا مع التعبير expression. أنا لا أرفضها لكني أعتقد بأن الكتاب الموهوبين بالذائقة الكلاسية يحترسون من هذا التعبير. وهذه الحقيقة لم تكن لغاية الآن موضع البحث. ولأحاول أن أوضح هذا الشيء.
يسعى الرومانسي ، وعموما تحالفه مختلف الحظوظ ، بدون كلل الى التعبير ، أما الكلاسي فيندر أن يتخلى عن السعي من أجل مبدأ الأولويةpetitio principii. وأترك في هذا المكان كل تعميم في معنى صفتي : كلاسي ، رومانسي ، وأتلقاهما بمعنى نموذجين أوليين archetypes للكاتب ( طريقتين في السلوك ). الكلاسي يثق باللغة ، ويؤمن بالقوة الكافية لجميع إشاراتها. يكتب مثلا : „ بعد رحيل الغوتيين Goths وإنسحاب الجيوش المتحالفة دهش أتيللا للصمت العميق الذي ساد حقول شالون Chalons . وقد أبقاه خوفه من خداع العدو ، لبضعة أيام ، تحت ستار العربات الحربية ، والإنسحاب الى الراين من جديد قد ضمن النصر التالي بإسم القيصرية الغربية. ميروفيوس Meroveus وفرنجته Franks الذين حافظوا على ُبعد آمن وتظاهرا بكثرة عددهم حين أشعلوا في الليل الكثير من مواقد النار ، توجهوا الى الخطوط الخلفية لجيش الهون Huns حتى حدود مقاطعة تورينغ Turyng. الفصائل من تورينغ حاربت تحت قيادة أتيللا : عند تقدمه ثم تراجعه دمر أراضي الفرنج : ربما إرتكبوا في ذلك الحين أعمالا فظيعة ثأر لها بعدها بثمانين سنة إبنُ كلودفيغ Klodwig حين قتل الرهائن . ومائتا عذراء ُعذبت بوحشية وبسبل مبتكرة ثم مزقت أجسادهن الخيل البرية. وسحقت عجلات العربات الأرجل والايدي ولم تدفن عظامهن بل ألقيت للكلاب والعقبان ( راجع :
Gibbon , Decline and Fall of the Roman Empire , 35. ). و يكفي هنا العبارة الموجزة " بعد ذهاب الغوتيين " كي يمكن التعرف على هذا الأسلوب غير المباشر الذي هو ُمعمِّم وتجريدي الى درجة أنه غير ملحوظ تقريبا. ويحرّك المؤلف لنا لعبة رموز هي منظمة ، ومن دون شك ، بكل دقة ، لكن علينا يعتمد أمر إكتسابها الحياة. في الجوهر ليس هو بالأسلوب التعبيري بل ينحصر في تسجيل الواقع وليس تصوّره. وإمتلأت الأحداث الماضية المشارإليها من قبل المؤلف ، بالتجارب وأحوال المراقبة والأنشطة ، وفي الواقع يوحي سرده بها ، لكنه لا يقدمّها. بعبارة أدق لا يصف المؤلف الإحتكاك الأول بالواقع بل تشكيله الأخير في صيغة مفهوم جاهز. وهذه طريقة كلاسية جرى التقيد بها بصورة ثابتة من قبل فولتير وسويفت ، وثربانتث. وأذكر هنا مقطعا تال من الأخير ، مبالغا فيه
: " في الأخير بدا له أنه ينبغي الإستفادة من الفرصة التي حانت أثناء غياب أنزيلم Anzelm وهجومه الأخير على هذه القلعة ، إذن هاجم غرورها ممجدا سحرها ، أنت لاتملك شيئا يتفتت بسرعة أكبر ويسوي بالأرض القلاع الحصينة لغرور النساء الجميلات كما بالضبط الغرور نفسه المتمثل بلغة المديح المألوف. وكان أمرا مناسبا أنه ألغمَ بمهارة وبوسائل قتالية ، صخرة َ صمودها ، ولو أن كاميلا التي كانت من البرونز ، بقيت سالمة لكان عليها السقوط. بكى وتوسل ووعد وأحب وهجم وشتم لوتاريوس Lotarius بمثل هذا الشعور الكبير ، وبمظاهر كاذبة للصراحة الى درجة أنه بدد حياء كاميلا وكسب ما طمع به للغاية وما كان يتوقعه أقل من غيره" ( دون كيخوته 1 ، الفصل 34 )
تحدد الإستشهادات المذكورة التيار الرئيسي ، وعلى الأقل ليس هو بالعادي ، في الأدب العالمي. ويكون تجاوزها بإسم المحافظة على القواعد أمرا مضيِّعا و يطيش عن الغرض. و في أطر لاجدوى القاعدة تبدو هي ناجعة ، وأنه يلزم حل هذا التناقض.
أنا اطرح مثل هذه الفرضية : عدم الدقة في الأدب أمر مسموح به ومحتمل ، ففي حياتنا نميل دائما الى عدم الدقة. والتبسيط المفهومي لحالات معقدة غالبما يكون رد فعل تلقائيا. ولظاهرة الإدراك نفسها، وتركيز الإنتباه طبيعة إنتقائية : كل ملاحظة ، كل تركيز لوعينا هو تجنب مقصود لما نراه غير شائق. نحن نرى ونسمع من خلال الذكريات والمخاوف والتوقعات. وفي الجسدية يكون اللاوعي شرط تنفيذ الإعمال الفيزيقية. إن جسدنا يعرف التعبير عن هذا النص الصعب ، وهو قادر على التعامل مع السلالم والعقد ، مع الطرق الموصِلة ، مع المدن ، مع الأنهار سريعة الجريان ، مع الكلاب ، إنه يعرف كيف العبور الآمن في الشارع ، يعرف كيف ُيخصِب ، يعرف التنفس ، يعرف النوم ، ويعرف – ربما – كيف يقتل : إنه جسدنا و ليس عقلنا. الحياة هي تكيّف مستمر ، أي تعلم النسيان. وهو شيء مدهش أنه في السرد الأول من ( يوتوبيا ) يعترف توماس مور ، وهو ُمحرَج ، بأنه لايعرف الطول " الحقيقي " لأحد الجسور ...
كي نفحص عميقا الأسلوب الكلاسي ، أقرأ ثانية غيبون وأجد هناك مجازا ملحوظا بالكاد ، ومن دون شك هو مجاز عاد - مجازا عن مملكة الصمت. إنه القصد من التعبير - لا أعرف هل هو فاشل أم ناجح – والذي ، كما يبدو ، يبتعد عن التكوين الدقيق لبقية مقاطع نثر غيبون. أكيد أنه يبرر هذه التعبيرية بعدم رؤيتها وطابعها التقليدي : الإعتقاد بأنه في لحظة خلق أيِّ صورة كانت ، تصبح هي خيرا عاما . في المفهوم الكلاسي يكون تنوع البشر والأزمان شيئا ذا أهمية ثانوية : الأدب هو واحد على الدوام. لقد دافع عن الأدب أمام تهمة الجدة متحيزون لغونغورا Gongora ، وهم من طراز غريب ، مبرهنين على الأصل اللوذعي لمجازاته. حتى أنهم لم يدركوا الإكتشاف الرومانسي للشخصية. والآن يبدو هذا الإكتشاف أكيدا الى درجة أن كل محاولة لتطبيقه أو تجاهله نعتبرها واحدة من سبل كثيرة في ( أن يكون المرء شخصية ). ينبغي الإنتباه الى أن فكرة اللغة الشعرية ذات النمط الواحد قد إنتعشت ، لكن لأمد قصير ، بفضل آرنولد Arnold الذي إقترح تقليص المعجم اللغوي لمترجمي هوميروس الى معجم الصيغة المصادق عليها Authorized Version للكتاب المقدّس ، ومع إمكانية واحدة فقط لإكماله ببعض إستشهادات لشكسبير. وكانت حجة آرنولد القوة َ ومدى كلمة الكتاب المقدّس ...
إن الواقع الذي خلقه الكتاب الكلاسيون هو مسألة ثقة ، كما لو أنه أبوّة ٌ لبطل ( سنوات تعلم فلهلم مايستر ) "1". ويملك الواقع الذي أراد الرومانسيون تعميقه طبيعة ً آمرية imperative : إن عمليتهم التي غالبما يلجؤون إليها هي التشديد emphasis ، الكذب الجزئي . أنا لا أعتمد على الأمثلة : جميع الصفحات ، سواء أكانت نثرا أم شعرا ، و التي تحافظ على قيمتها هي قادرة على أن تشهد على ذلك.
إن المقترح الكلاسي فيما يخص الواقع يمكن أن يكتسب ثلاثة أشكال تختلف فيما بينها كليا. يعتمد أبسطها على رسم الحقائق الأهم . ( يكون النص المذكور لثربانتث ، مع تجاوز إستعارات معيّنة غير مريحة ، مثالا جيّدا على ذلك الأول والعمل الكلاسي التلقائي ). والشكل الثاني يعتمد على تخيّل الواقع كواقع أكثر تعقيدا من ذلك الذي تكشف للقاريء ، كما يعتمد على إظهار مشتقاته derives وعواقبه. وأنا لا أعرف تصويرا أفضل من المقطع الأول ، البطولي عند تينيسن Tennyson في " موت آرثر "Morte d Arthur " والذي أكرره مراعيا النشازات في النثر الإسباني . أنقله حرفيا : وطاولة آرثر المستديرة / الجميع في لايونيس Lioness تشبثوا بالسيّد / وهو بجراحه البالغة قد أخذ قسطا من الراحة / على يدي السيّد بيديوير Bedewer الرجولية / والذي حمله الى مصلى قريبٍ / مهدّم ٍ وحيد ٍ بصليبه المهشم / على سدّ ٍ قاحلٍ ضيّقٍ ، الأوقيانوس / في جهة إستلقى ، وفي أخرى / بحيرة كبيرة ، أضاء القمر.
تقترح هذه الرواية لمرات ثلاث ، واقعا أكثر تعقيدا : الأولى من خلال مسكة نحوية مع كلمة : هكذا ، والثانية ، وهي أكثر صوابا ، من خلال الظهور ( القائم على المصادفة ) لحقيقة معينة - وهو بجراحه البالغة. والثالثة تأتي بمساعدة إكمال غير متوقع - أضاء القمر. والتصوير الصائب الآخر لهذه الوسيلة نجده عند موريس Morris الذي حين يتكلم عن إختطاف ميثولوجي لأحد بحارة جازون Jazon من قبل ربات الأنهار nymphs حيث تنتهي الرواية بهذه الصورة :
" إنغلق الماء فوق الربّات . هن ذوات أجساد مختلفة وفوق إنسان نائم غير مدرك لأيّ شيء. لكن قبل أن تبتلعهن الأمواج ركضت إحدى الربات الى المرعى وحملت هراوة ذات رأس من برونز ، ودرعا مدوّرا غرزت فيه المسامير ، وسيفا ذا مقبض من عاج ، وزَرَدا ً ثم ألقت بنفسها في الماء العكر. وبمقدور أحدهم أن يروي : كانت الريح تغني ، أو الطير ، في قصب الماء رأى ذلك وسمعه ". بالنسبة لنا تكون مهمة ً الشهادة ُ التي تعطيها ، في الأخير ، كائنات ليست هي عاقلة بعد.
والشكل الثالث ، وهو الأصعب والأنجع ، يفترض إكتشافا قائما على المصادفة . وكمثال يمكن أن تكون الصفة المميزة لرواية ( مجد دون راميرو ) "2" : " ذلك الحساء الفاخر المطعَّم بقطع شحم الخنزير المقلية ، الذي قدّم في إناء مغلق بقفل دفعا لشراهة الخدم ، مما يشهد ، بصورة بيّنة ، على فقر مليء بالرفعة ، وعلى طباع الخدم ، وعلى بيت مليء بالسلالم والزوايا والنوافذ ذات شتى الأشكال ". لقد قدّمت ُ سكيتشا هو مجرد مثال ، لكنني أعرف مؤلفات عديدة - روايات متخيلة بكل دقة ، لويلز Wells ، وروايات دانييل ديفو المُغضِبة بتحويلها الإحتمال الى واقع حيث الإهتمام موّجه إلى تطوير أو جمع تفاصيل موجزة ذات مغزى عميق. وهذه الملاحظة نفسها أقدر على توجيهها الى الروايات السينمائية لجوزيف فون شتيرنبيرغ J. von Sternberg والمؤلفة أيضا من تتابعات مهمة. إنه شكل مثير للإعجاب وصعب حين لايملك مداه طبيعة ً أدبية ً فقط ، وعلى النقيض من الشكلين السابقين ، وخاصة من الثاني الذي يعمل بحكم القاعدة على مستو النحو الصرف syntax ومهارة ُكلميّة صرفة. ويدلل على ذلك البيتان التاليان لمورMoore :

Je suis ton amant , et la blonde
"Gorge tremble sous mon baiser "4

وميزة هذين البيتين هي الإنتقال من ضمير التملك الى أداة التعريف عند الإستخدام المفاجيء ل( la ). والعكس التماثلي symmetric لهذه المسكة هو هذا المجتزء من كيبلنغ :
Little they trust to sparrow – dust that stop the seal in his sea ! "5"

بالطبع تكون ( his ) قد حددت من قبل sea) ) . وأنهم ( سيوقفوا الفقمة في بحرها ).

عام 1931

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى