محمد الشاذلي - ما يخصني من نوبل

في الأسبوع الأول من شهر ديسمبر عام 1988 كنت أسير وسط نتف الثلوج القطنية في أحد شوارع استكهولم قريبًا من مقر البرلمان، التقيت مصادفة بالصديق والشاعر الكبير محمود درويش ، وكانت مفاجأة مذهلة بالنسبة لي.

سألني درويش ماذا تفعل هنا؟ قلت له: إحنا جايين ناخد جائزة نوبل .. فسألني هل الأستاذ نجيب محفوظ جاي؟ رديت: لا.. ابنتاه أم كلثوم وفاطمة ستتسلمان الجائزة.. وسيلقي الكلمة الرسمية في الأكاديمية السويدية الأستاذ محمد سلماوي نيابة عن كاتبنا الكبير..

وأنت يا أستاذ؟ وكان وزيرا للثقافة الفلسطينية.. هكذا سألت: لماذا أنت هنا في استكهولم؟ فرد بأنه هنا مع أبو عمار (الزعيم ياسر عرفات) للقاء أربعة يهود أمريكان لتوقيع "وثيقة استكهولم"، ودعاني للحضور وذهبت وكان انفرادا في الصفحة الأولي لجريدة "الحياة" اللندنية وتقريرًا موسعًا في مجلة المصور..

درويش أيضًا كان يستحق نوبل، وهو الشاعر العربي الفذ، لكنه رحل عن عالمنا، كذلك أدونيس يستحقها الآن، وهذه أحكام خاصة بي، بينما كشفت تقارير عدة في السنوات الماضية عن أن توفيق الحكيم رُشح للجائزة، وطه حسين كاد أن يحصل عليها فعلاً، كما رشح للجائزة يوسف إدريس، وسمعنا اسم نوال السعداوي.. لكن الحقيقة الوحيدة هي فوز نجيب محفوظ بها. وعندما أُعُلن اسمه غضب يوسف إدريس بشدة، لدرجة أن الناقد الكبير رجاء النقاش وصفه في مقال رهيب بأنه "الغاضب الوحيد".. ومن بين ما ذُكر على لسان إدريس، أنه لا أحد سيفوز بالجائزة قبل ثلاثين عامًا.. وقد مروا الآن.. بالتمام والكمال، ولم يفز عربي آخر بنوبل في الآداب.. هل هي امتياز ل نجيب محفوظ ، أنه العربي الوحيد الذي يستحقها.. أم أنه عار على الجائزة التي لا تلتفت لقامات عربية فذة في الشعر والرواية..

ونوبل لن يفوز بها أحد هذه السنة، فقد عُلقت هذه السنة لمزاعم متعلقة بالتحرش الجنسي، لكن العودة بالذكريات إلى أيام الجائزة هي عودة لأجمل أيام الأدب العربي، فقد سرت السعادة في أوصال الشعب المصري، برغم تأخر الجائزة في الوصول إلينا كعرب عمومًا..

بعد ظهر الخميس 13 أكتوبر 1988، وكانت المرة الأولى التي يتصل بي رئيس تحرير المصور – آنذاك - مكرم محمد أحمد في المنزل، ليبلغني: صاحبك فاز بنوبل.. تعرف بيته.. اذهب إليه الآن.. أعرف بيته قطعًا فقد أوصلته بسيارتي مرة على الأقل.. أما صاحبي، فالأستاذ مكرم يعرف صلتي القوية به منذ أول لقاء على مقهى ريش في بداية عملي الصحفي.. لم أدخل بيت الأستاذ نجيب أبدًا.. كانت اللقاءات إما في مكتبه بالأهرام أو على أحد المقاهي.. وجدت البيت مكتظًا بالصحفيين، هنأته وقلت: نوبل جعلتنا ندخل بيتك.. فرد وأنا كمان.. وضحك ضحكته المجلجلة.. سألته على الملأ، وهو حريص من الناحية المادية، ماذا ستفعل في فلوس نوبل؟ رد: اسأل المدام؟ وواصل ضحكاته الجميلة..

كان الأستاذ نجيب سعيدًا بالجائزة.. بعد ثلاثة أيام كان في مجلة المصور على مائدة حوار الأسبوع.. وكشف بتواضعه الجم عن تلك السعادة، لكنه قال: كنت سأصبح في وسط هدومي لو أنني فزت بالجائزة في حياة توفيق الحكيم.. كان الحكيم قد غاب قبل جائزة محفوظ ببضعة أشهر فقط..

وثارت ضجة سفر محمد سلماوي إلى السويد نيابة عن الأستاذ نجيب، ولاحظت أن كثيرًا من المثقفين والصحفيين يتحدثون في المسألة، في اتجاه رافض لسفر سلماوي، تقريبًا الكل أدلى برأيه، ما عدا صاحب الشأن الأستاذ نجيب. كنت في مكتب الدكتورة رتيبة الحفني رئيس الأوبرا، استأذنتها في إجراء مكالمة مع الأستاذ نجيب قبل أن ينام القيلولة، فأدخلتني مكتب سمير زكي مدير الأوبرا، ولم يكن موجودًا، وأجريت أجرأ لقاء صحفي على الهاتف مع الأستاذ نجيب حول سفر سلماوي.

الحوار بعد نشره أصاب كثيرين بالاكتئاب وربما بالحسد، لأن الأستاذ نجيب قال لي إنه هو الذي طلب من سلماوي السفر نيابة عنه، و"كتر خيره" وأن من كان يطمع من الأدباء "العزيزين" عليه في السفر، فإنهم ليسوا أعز عليه من أمه، أو فليسافروا ليتسلموها عندما يفوزون بها.. كان كلامًا جرئيًا، ولكي يتم نشره عقد الأستاذ مكرم اجتماعًا سريعًا ضم الأستاذ رجاء النقاش والأستاذ يوسف القعيد.. وتم نشر الحوار الذي قضى على الجدل العقيم حول السفر لتسلم الجائزة.. وسافر سلماوي وكان مشرفًا جدًا في تمثيل نجيب محفوظ برصيده الصحفي والإبداعي وإجادته للغات الأجنبية.

أما ابنتا الأستاذ فقد كانتا زهرتين بريتين خجولتين للغاية؛ لدرجة لاحظ فيها الجميع محاولة الملك كارل جوستاف إخراجهما من العزلة بمداعبتهما بمد الجائزة (الشهادة والميدالية) إليهما معًا في وقت واحد؛ مما حيرهما، ثم سلم "الشهادة" لأم كلثوم و"الميدالية" لفاطمة..

كانت لحظات تاريخية، وأثق أن صداقة الأستاذ نجيب لي واحدة من صداقاته الكثيرة، وكنت دائمًا أقول إن من يدعي صداقة الأستاذ لابد أن نصدقه؛ لأنه كان صديقًا لأعداد مهولة من البشر، كان منفتحًا على الجميع، راضيًا بكل ما في الدنيا من إقبال وإعراض، من مزايا وآلام..
أعلى