إبراهيم محمود - النسخة المفقودة : أي مسرح يُسمّي أمل الكردفاني؟ "4"

هذا الأسخيلوسي ماذا يريد؟ إلامَ يرمي بكتاباته، وهو ينوء تحت ثقْل الاسم اليوناني التراجيدي العريق: اسخيلوس، وما في الاسم هذا من انفجار الدلالات، كما هو المسرح الاسخيلوسي، والصراع بين الأرضي والسماوي، إنما في تحدّي الإنسان لمصيره، في نشدانه للتعددية؟

ومقصد الكلام، إذا أمكنني تحديده هنا، هو الجانب الحواري الذي يلزمني معه، في أن أناظر حواراً بحوار، أو أتحرك على تخوم القول، كي أمعن النظر في طبيعة التخوم دلالياً .

لهذا كان هذا العنوان الفرعي، وكيفية النظر بين أن يكون " مقيَّداً " أو طليقاً، أو ما بينهما ؟ في تدبُّر صفته، حيث يمتد المسرح بوصفه مشاهدة ومكابدة، والشخصيات أفكاراً وتصورات، واستشراف عوالم تترى في الداخل الذي لا يكف عن التنفس خارجاً .

سيتساءل أمل الكردفاني، عن كاتبه، أو ناقده، ولست أنا هنا وحدي بالذات، رغم أن الذي أتعرض له، يستغرق وقتاً، ويمتد في أكثر من جهة، بخصوص تنوع كتاباته: طبعاً عمَّن يكون، وكيف يكون نفسياً وعقلياً، وهو يكتب عنه؟ ربما لأنه يحاول قياس المسافة بين كونه كاتباً، له حضور معين، وكونه إنساناً يعيش حياة أخرى، محكّها ما هو يومي. مثلما أتساءل هنا: إلى أي مدى أقارب حياة أمل الكردفاني ككاتب، وليس باعتباره المنتمي إلى مجتمع معين، إلى دائرة وظيفية معينة، وإلى إطار عائلي معين بالمقابل؟ هل بطريقتي الكتابية هذه، أمارس فصْلاً لا بد منه، بين كونه المنتمي إلى " عائلة " لها موقعها الاجتماعي وغيره، وعائلة يكوّنها هو تكون جماع أفكاره، تصوره، ميوله، وهواجسه وغيرها؟

ربما تمضي بي رغبة لاإرادية أحياناً، وميزتها غواية مكاشفة الآخر: الشخص، ومؤثراته الثقافية وهو يتمسرح هنا، وما إذا كان فيه، ما يضيء ساحة القول الذي يحمل بصمته، وما فيه من مفارقات، من انزياحات دلالية، وحسابات تاريخية، وتوظيف رمزي بالمقابل.

كل ذلك، تقدَّمتُ به في هذا الجانب بإشارات لها فسحتها الزمكانية، شعوراً مني أن هذا الجنس الأدبي: المسرح، ربما يفاخر بتاريخه، وهو أنه يُقرأ، لكنه ينتظر من يفرج عنه كربته برؤيته ممثلاً في أشخاص، وطوع هذا البرزخ المرسوم، ثمة تنصيب معين، لظلال ذات من لدن الكاتب، وهو في قلب تيارات الحياة من حوله، في هذا المشهد أو ذاك، وبالتالي، ليكون المسرح ربيب خيال مضاعف: في متخيل كاتبه، وفيما بعد، في متخيل من يعرَف من خلاله في جمعه " شخصيات مسرحية " أو في التمثيل المسرحي الذي ينشغل به الآخرون: المتفرجون، ومن يتفرج وهو لا يني يتحرك مكاشفاً تينك الحالتين: قراءة وحركة!

أطالبه بالتزام الوعد بموعود الاسم ودلالة التسمية، أي في التفضية المسرحية، حيث نتحرك على تخوم اسخيلوس، والمطالبة ليست دعوى جنائية، وإنما مجالسة قرائية إجمالاً.

بين حد الواحد المعظَّم: الإلهي، وحد التنوع المفخَّم البشري، تدور التراجيديا البشرية، وأجدني مستدعياً قولاً لإميل بنفنست في هذا التوجه عمَّا كان وعمّن كانوا " هناك " طبعاً، إذ ( القدماء الذين كانوا يعيشون على مقربة كبيرة من الآلهة، نقلوا إلينا هذا التقليد" Phêmê "الذي يقول إن كل ما هو موجود مكوَّن من الواحد ومن المتعدد " eis- و polla") .

ذلك ما شَدّد عليه سالفاً، حيث يتم توزيع " الواحد " ليكون في كل منا بعض منه، وعبْر هذا التجزيء التشاركي يكون الحوار، كما لو أننا بهذه " الوصلات- اللواقط : الستلايتية " نتلاحم، ونختلف، ولكل منا بعض في الآخر، والعكس. تُرى، هل لدى أمل تصور كهذا؟ إنه سؤال أبعد ما يكون عن الاستنطاق، إنما هو استضاءة بالاسم المفهوم: اسخيلوسياً ، دون نسيان بانياسيسه هذا الشاعر الملحمي القديم، معلّم هيرودوت المؤرخ العريق بدوره، وما في ذلك من انفراج تاريخي رحب المدى، أي في استدعائه الآخر إلى لقب هو اسم صحيفته، وله معنى معاصر.

لا أطلب من أمل أن يجيب، أن يُسمعني صوته، أن يعطينا مثالاً، فما بين يدي، هو الذي يوفّر علي وعليه جهداً، ويُسمّي مقصداً معرفياً، حوارياً، في الوقت الذي " اغتيال المقدس " من جهاتنا وفينا، عبر " أجزائه " المفترضة .

ماالذي يتبقى من صوت اسخيلوس، من خاصية " بروميثوسه " المنهوش جسداً وروحاً أمام الملأ، وفي وضح النهار؟ أقول ذلك بلغة السؤال ودونه، وأنا أسمع في نصه المسرحي ما يصل المشاهد بمن يتحدث تمثيلياً بلغة الباحث، وهي تيمة المسرحة الفكرية كذلك .



مع المسرح، ضده، كيفية لم شمله

ليس لدي أي رغبة في مساءلة أمل عن كيفية كتابته لنصوصه المسرحية القصيرة في عمومها، واعتماد الظن في تسمية المحفّز الذي دفع به ليكتب نصوصه هذه، فهذا لا يجدي نفعاً، من وجهة نظري. إنما في الإمكان، السؤال عن التقارب الزمني الذي يُسمّي نصوصاً مسرحية له، وهي أربعة في شهر واحد " كانون الثاني 2020 "، وهي:

هدنة مؤقتة- مسرحية من منظر واحد، 8 كانون الثاني 2020

العالم الخارجي - مسرحية من منظر واحد.. 11 كانون الثاني 2020 "

رجل تزوج نفسه_مسرحية قصيرة، 15 كانون الثاني ، 2020

كثيرون قليلون ، قليلون كثيرون- مسرحية قصيرة، 20 كانون الثاني 2020

إلى جانب مقال له صلة مباشرة بالمسرح، وهو " نيكولاي جوجول ورائعته (المفتش العام( 4 كانون الثاني 2020". هل من مؤثّر نفسي: مأخوذ بتوأم الزمان والمكان، على تماس مباشر، بالمستجدات " كورونا في الواجهة " ومتغيرات العالم، وعالمه هو ؟ أكان الجلوس في البيت يثير فيه عالماً اسخيلوسياً، ليطرح إلى الآخر ما يبقيه أقرب إلى الكوميدي، وليس الكوميدي؟

أي عالم كان يتشكل داخله في أفق مخياله النفسي، وهو يحاول " مسرحة " أفكاره، وما في هذه المسرحة من فاعلية " الغرابة المقلقة " حيث البيت هو العالم، والقلق مستولَد منزلي وإفراز كبير له، في مقاربة الجاري نقدياً ؟!

ما في جعبة أمل، ومن خلال موقع " الأنطولوجيا "، ثمة " 8 " نصوص/ مقالات، وأربعة عشر نصاً مسرحياً، إن لم أخطىء في الحساب، حيث إن أحد عشر نصاً مسرحياً، من بناة هذه السنة " 2020 ". ذلك يفجّر أكثر من سؤال.

أعني بذلك، أنه من حق النص المدوَّن أن يطرح سؤال السبب، من قبل قارئه، وأن يمضي في البحث عن جواب أو أجوبة على تماس مباشر بما هو مثار في بنية النصوص، ومدى قرابة هذه بالمتغيرات الصادمة هنا وهناك.

في ضوء التعددية، بمرجعيتها الحوارية ووشائج قرباها بمجتمعها أساساً، يمكن تسمية عدة نقاط، ذات صلة بما ننشغل به:

بعض من الإجابة يتأتى من خلال المقالات التي لا تخفي مناكداتها، همومها، ومنغّصاتها .

بعض من الإجابة، يتشكل في ضوء النصوص المسرحية المقدمة.

بعض " ثالث " من الإجابة من خلال ترسيم حدود الفصل والوصل بين النقطتين السالفتين، وفي ضوء هذا المتاح، والجاري سدَاد دينه كمعنى منتظر، يمكن للقارىء أن يشخص في بنية المتنفَّس لدى كاتبه .

وفي كلّ بعض ٍ، يمكن للكثير من المنتظَر، أن ينبثق، على وقْع قراءة معينة، قراءة تستتبع أخرى، وما هو كامن، كقوة إضاءة للمعتم في كل فكرة سارية المفعول داخل نص مقال ما، أو نص مسرحي بالمقابل، وبهما معاً أيضاً.

في مقال " قراءات قديمة - روايات مسرحيات –14 حزيران 2018 " نتعايش وقراءة في نصوص مسرحية وروائية:كافكا، أليير كامو، ساراماغو، آرثر ميلر...، قراءات لا يُبدأ ومن ثم يُختَتم بها، دون مساءلة عن مغزى هذه الخيارات، من رجل يشكو تخوفاً تجاه الجاري في محيطه، وعن قرب. في هذه الأسماء، يتداخل الكابوسي، بالوجودي ذي الطابع العبثي، والواقعي الصادم، والمعتَّم عليه بالمقابل. إنه كلام عن أولئك، ولكنه عما يعنيه الكاتب واقعاً.

في الحيّز الثقافي والسياسي نفسه، ليس مقال " الأنا والآخر عند آدموف.. قراءة قديمة، 22 أيلول 2018 " ببعيد عن متابعاتنا المختلفة عن هذا التعدي الحدودي، والميتاحدودي، وفعل الحدود في البشر، وقد تداخلت هواياتهم، دون أن تمحو علامة التمايز الفارقة، وتحديداً بالنسبة إلى المهاجرين: لقد بات الجنوب ضاغطاً على الشمال، وجرّاء هذا النزوح، بات الشمال في معرض المساءلة، وكونه صاحب نفوذ دولي، للجواب عن هذا الانفجار النزوحي، إن جاز التوصيف .

نقرأ ( في مسرحيته الكل ضد الكل يتناول آدموف مشكلة الأنا والآخر بين المهاجرين والمواطنين ؛ حيث أن بطل المسرحية من المناهضين للمهاجرين وكان قائدا للتحريض على إزهاق أرواح المهاجرين الذين ينافسون المواطنين في سوق العمل ، بل أن البطل قاد عمليات قتل بنفسه مؤلبا المواطنين على ما يقوم به الرجال المهاجرون من سرقة قلوب زوجات المواطنين.)

وما ينقلنا إلى قلب الهاوية ( ينقلنا آدموف هنا بين الهويات المختلفة ، ويحدثنا بأقصوصة مسرحية سلسة عن قضية رفض وقبول الآخر . من أقصى راديكالية الرفض إلى أقصى راديكالية الإندماج. ليبرهن على نسبية هوياتنا التي نقنع أنفسنا.) .

تفترض كل قراءة رؤية حسية، إلى رؤية فكرية وبحثية لكاتبها، وليس في الإمكان تجاهل دَيْن الزمان في صناعة التاريخ، وصلة الأول عبر الثاني بما يكتَب أدبياً، ومن ذلك الأدب المسرحي، وما يتحرك على تخومه.

لدينا هوايات ناطقة، وأخرى صامتة، علينا أن نستطقها، أو نمحها تجسيداً ثلاثي الأبعاد، طالما أن هناك زمناً يؤرَّخ لكل واقعة كتابية، وأننا نتنفس تاريخاً يعنينا أمره، ودون ذلك نلفَظ خارجاً.

المهاجرون! يا للتسمية الطريدة المطاردة، كم تيه، برّي، بحري، برمائي، يشهد على هذا النزف الممسرح أيضاً.

أمل، حين يكتب مقال " لعبة النهاية لصامويل بيكيت.. 1 تموز 2019 " إنما يشير إلى لعبته هو، ولا صلة قرابية فعلية بين لعبته ولعبة بيكيت، على مستوى نص الأخير، فالنص المقروء يتحدث بلغة مشبعة بمناخات كاتبها.

( تنطلق مسرحية لعبة النهاية لصامويل بيكيت في مجراها السرمدي..اللعبة التي لا تبلغ نهايتها أبدا.. وكعادته يخرج المتفرج من مسرحيته وقد استنزفت كل طاقاته الوجودية وألقت به في برودة الموت الرمادي.

ثم: لعبة النهاية.. حيث يبحث الكل عبثا عن "الحياة الكاملة" كما قال هام. وحيث تكون البداية هي النهاية في كل الأحوال.).

أي نهاية تدور في فلك الكاتب الذهني، في محيط مبركن " بركاني الطابع "، وللسياسة أكثر من طابع وبائي يحصد أهليه وأناسه، ويتحداه في عقر داره، وعقر مصداقية ما يتفكره ؟

هوذا ما يقود إلى الفعل، حيث البدء المسمّى بريختياً فعلاً، عندما يكتب تحت مظلة مسرحية " أقوال لا أفعال - حكمة سوفوكليس، 2 آب 2019 " وأوجه الاتصال والانفصال بين القول الفعل، وتجاذباتهما ( قبل الفين وخمسمائة عام تقريبا وردت هذه الجملة بمسرحية من أعظم مسرحيات الشاعر اليوناني سوفوكليس (496 - 405 ق.م.) وهو من أهم التراجيديين اليونان إلى جانب ايسخيلوس ويوربيديس.

وردّدها العرب فيما بعد

إن البشرية تنفق في القول جل وقتها ، ثم تنفق على الفعل أقل من ذلك بكثير. ولا سبيل أبدا إلى عكس هذه المعادلة إن كان الإنسان يسعى نحو تحقيق غاياته المحددة على نحو وثيق ومأمون.).

بين قول هنا، وآخر هناك، بين فعل هنا، وفعل هناك، ثمة مسافات، متعارضات، أنظمة فكر، وممكشفات نفسية بالمقابل.

أتراه، أي الكاتب، يعنون مقاله هكذا، بعيداً عن هول القول، وبؤس الفعل في محيطه ؟!

أمل، كما يُستشَف مما يكتب وهو يستشرف آتيه، تخنقه الجهة الواحدة، لهذا ينشد المفتوح في الجهات كافة، أي الانتقال من الحيّز المكاني الضيق، إلى اللاحيّز، كما لو أن المسرح يترج توق مشاهده إلى اللاتناهي، كما في مقال " موت بائع متجول - من روائع المسرح العالمي، 8 آب 2019 " وهذا القول ( من أقوى ما بالمسرحية هو إنهاؤها لسيطر حدود خشبة المسرح ، لقد استطاع ميلر بذكاء -ودون إغفال لتطور المسرح والإخراج المسرحي في الولايات المتحدة الأمريكية- أن يقضي على فكرة صندوقية المسرح ويجعله أقرب إلى مسرح الشارع ...).

ولا أظن أن اهتمام أمل بالمسرح الروسي، ببعيد عن مثل هذه النجوى الباطنية، تجاه الخروقات الحاصلة في واقعه بتمزقاتها وحيرة المثقف الممزَّق جوانيَّتَه، أو تلك الصدوع النفسية التي يشكو ثقلها المؤلم، حين يشير في " نيكولاي جوجول ورائعته (المفتش العام( 4 كانون الثاني 2020" ويوصف المحتوى، ومن ذلك ( تبدو القصة بسيطة جدا لكنها في الواقع لم تكن كذلك ، لقد ظل الأدب الروسي مرآة للواقع السياسي والثقافي والاجتماعي في روسيا ..

الحوار كان متقدا بالكوميديا ، ولا يمكن لمن يستمع له إلا أن يضحك من الانتباهات اللطيفة فيه. وفوق هذا فقد عكس قدرة جوجول على تحويل قصة بسيطة إلى عمل مكثف جدا ومليئ بالشخصيات والحبكات.).

ثم ما يعمّق الأثر( الرأي الذي يجعلني دوما أميل إلى كتابات كافكا الغرائبية أو الكابوسية والتي لا تحكي سوى قصة محضة ولكنها تلقي بالنقاد إلى عوالم واسعة من محاولات الفهم والتأويل.
هكذا كان جوجول أيضا وربما أغلب الأدباء الروس كمكسيم غوركي وحتى تولستوي وخلافهم ، ولعل ذلك كان بسبب السياجات السياسية التي كانت تفرض عليهم الاكتفاء بالرمز والتعريض دون التصريح ، والقص دون الشرح.).

أن يشار إلى الآخر، وما فعله هذا الآخر، لا يغيّب ذات الكاتب، ذات من في الجوار، بالعكس، إنه يضيء العتمة، ينطلق من خاصية " الظلمة – المضيئة " إن جاز التعبير، حيث تكون التسمية استنهاضاُ للمستور، أو المعتَّم عليه.

وكابوسية رجل في مقام كافكا، الذي يزكّيه أمل معلَماً مؤثّراً له، هي هذه/ تلك العتمة المضاءة، في عمران المجتمع المتخوَّف منه وعليه، وربما أمكن المضي بالقول إلى الأبعد، وهو في كونه هنا، أي كافكا، أقلّوي، ليس بصفته يهودياً، إنما يرفد ما هو أقلّوي في محيط ضاغط عليه، وقبل قرن كامل، وفذاذة نصه تؤكد غنى دلالته إلى الآن، في مسار آخر، جهة " أقلوية " أمل، على مستوى الكتابة، القراءة، والموقع المختار في مكاشفة الجاري حوله، والاسترسال بمثل هذا القول إزاء كافكا، إزاء الجاري الآن عن النزوح والهجرة وجمهرة الاغترابات، وبذلك يتشرعن- ربما- قول كهذا ( ما هو عدد الناس اليوم الذين يعيشون مع لغة ليست لغتهم؟ أو حتى ما عادوا يعرفون ما هي لغتهم، أو ليس بعد، ولا يجيدون اللغة العامة التي هم مرغمون على استخدامها؟ مشكلة المهاجرين، وبشكل خاص مشكلة أطفالهم، مشكلة الأقليات. مشكلة الأدب الأقلي، ولكنها مشكلتنا نحن جميعاً...الخ ) كما يذهب إلى ذلك، كلٌّ من دولوز- غوتاري، في كتابهما " كافكا: من أجل أدب أقلّي "، وكما أفصحتُ عن ذلك، من زاوية اغترابية في نموذج أدبي لكافكا " المسخ " في بحث طويل لي، بعنوان " حول الاغتراب الكافكاوي- مجلة: عالم الفكر الكويتية، ع 4، 1984 ".

السوداوية جرعات يذيقنا إياها الواقع، لحظة الخروج على القطيعية فيه هنا.

وأمل ليس ببعيد عن هذا المناخ الاغترابي، حيث الاهتمام بالآخر امتداد لانهمامه بالذات.

وهو ما نتلمسه بعمق في " روائع.. روائع.. روائع.. ألكسي أربوزوف، 29 شباط 2020 " وما يجعله قريباً من تداعيات مأساة كورونا، وتشظيات واقعه ومحيطه، وتوقه إلى بر أمان ما( من أين يأتي الأدباء الروس بكل تلك القدرات الخارقة حين يكتبون؟.. في مسرحية الوعد ل(الكسي أربوزوف)، يسطر الأخير حوارات تقول كل شيء بجمل لا تقول أي شيء، حوارات شملت كل أحاسيس الحب، دون أن ينطق أبطال المسرحية الثلاثة بكلمة الحب صراحة، وبدون سماجة ولا مباشرة، يعزف أربوزوف لحن الحياة، فينزع المعنى ثم يضيف المعنى ويقنع القراء دون أي منطق سوى الحب. أربوزوف ينسج بيننا روابط الحنين بالجدران ، بالخراب ...)

ما يجعل من اللغة قضية تعبير ذاتية، ومن اللغة شأناً للكاتب ومحكاً لجانب المقدرة الفكرية، ومن ثم الإبداعية الخلاقة فيه، دون نسيان دور " عصا موسى " في شق البحر الجليدي، وتعرية الموجود.

وحين يقول ( لا أعرف إن كانت اللغة الروسية تتمتع بخصائص تجعلها لغة أدبية رفيعة بذاتها أم بعبقرية الأدباء الروس المحضة، فالترجمة العربية لا ولم تُفقد تلك الأعمال عبق إبداعها اللا محدود..)، يكون في ذلك ما يعزّز هذا التيه المتصاعد والنهم إلى الضحايا الأحياء وغيرهم.

أن لا يعرف هو أنه يعرف وإن لم يُسم، وإن يسطّر صراحة، لأن المقتدر لا يقف في محيط من الكلمات، وإنما ربما " رامة ماء " أعني بذلك، في وسط محدود، كما هي مرآة الساحر، ليرى ما يمتد هنا وهناك، وهذا يذكّرنا بالكفاية الوظيفية والكفاية الأدائية للغة عند تشومسكي.

وحتى في استعادة اسم تاريخي، مسرحي، وتمازجه مع رمز تنويري، وما يخرجه عن حدود الصرخات المكتومة والمكبوتة في مجتمعه، في مقاله " مولير قبل اربعمائة عام...اين كنا؟ 11 أيار 2020" حيث التاريخ المستعاد، مطرقة إيقاظ للغفلة هنا وهناك (قبل ثلاثمائة وثمانية وتسعين عاماً، صرخ الطفل جان بابتيست صرخته الوجودية، ثم نهض في عائلته البرجوازية، وناضل لثلاثين عاماً ليضحك الناس، ممرراً عبر ضحكاتهم القيم التنويرية التي زرعها فيه معلمه فولتير.

لقد استطاع موليير في الواقع تمرير رسائل فولتير، كالحرية الفردية، وحكم القانون، وقيمة العقل،..وأهم من ذلك..مركزية الإنسان...وبعد مائة عام تقريباً لخص إيمانويل كانط كل تلك الرسائل في مقالته الشهيرة: ما هو التنوير.)

وعبارة( ولا زلت اسأل شعوبنا المتعجرفة بخوائها:
أين كنا..قبل اربعمائة عام..؟ ) تبث صداها في الجهات الأربع، حيث موسم الهجرة إلى الشمال لم يتوقف .

هذا ليس سؤالاً في الصميم، وإنما يطرح تحدياً تجاه الجاري، ويلغم الواقع، بوصفه مأخوذاً بالرتابة والجمود .

ولعل حضوره في نصوصه المسرحية، يضعنا في مواجهة الكاتب الذي يمسرح أفكاره، ويُسمّي جهاته، ويخرج بمشاهده رائياً ومستمعاً في الخارج، ليحسن اكتشاف المغيَّب والمفارقات أكثر، حيث الكتابة تجهر بحداثتها الوامضة.

في مسرحية " كتتونيا 9 تموز 2019 " ما هو تصارعي، ما يشغل الهامش، أكثر من خشبة المسرح كمتن، في زمان متلبك، ومختزل، ومكان مسكون بالأشباح، وما يجعل الماضي نفسه مشكلة.

بلسان أبيلاي نسمع التالي( الحداثة... لا زال المسرح تقليدياً جداً... والمسرح التجريبي فشل عندنا.. ولا نملك إمكانيات كافية للمجازفة بتكاليف مسرح رقمي قد يفشل هو الآخر.. الناس تفضل السينما... دعني أفضي لك بملاحظة لا أعرف أهميتها..لكن الشعب يفضل بوليود على هوليود..ألا تعتقد أنَّ هذا دليلٌ على الإنحدار..)

بلسان آخر، وهو سيلاسي، نسمع(كلاهما بائسان...السينما الفرنسية والألمانية أفضل ..غير أنهما جادتان ومعقدتان أكثر من فهم الشعوب...هوليود وبوليود تجاريتان .. تستقطبان سقفاً ضحلاً من الوعي..).

ناقد، مثقف يستعير بعضاً منه، وهو يكتب مقالاً، إذ يتحدث عبر ممثليه بالطريقة هذه، وهو ما يشير إلى جاذبية العبارة الفكرية المستخدمة على ألسنة شخصياته في نصوصه المسرحية هذه.

ومن الوارد هنا الحديث عما يجري تمثيلياً لدى الآخر البعيد جغرافياً ، لكنه مسمى هنا، لعله أقرب إلى المتكلم مسرحياً، من أقرب المقربين إليه. حيث نشهد جريان النهر بالعكس، والمصاطب الثقافية تخرج عن نظامها المعهود، جرّاء الهزات التي أوجدتها متغيرات الآخر، العولمة، والسياسات التي تحتكر قوى شعوبها. وما تعيشه الشعوب التي تعاني بؤساً، إنما تتنفس في شِراك مشاعرها المشوهة، أو الثقافة التقليدية التي تفجّر داخلها عواطف تعادي بها ذواتها بالذات .

هذا يقودنا إلى تبيّن بؤر الفساد والوشاية والنخر الاجتماعي، في مسرحيته " الخردة _ مسرحية من مشهد واحد، 25 كانون الأول 2019 "، حيث الخردة مترجمة البالي، المستهلَك، النافث سمّاً، والخطر على الحاضر، وأن الجاري تسميته، قد يكون نقيض حقيقته، وهذه الطريقة تعمية للواقع، لتسيير ما هو نافذ الأثر فساداً وتخلفاً، عندما نواجه " بائع خردوات "، وهذه آثار البلد، رموز تاريخ بحقب مختلفة، والصفقة القائمة بين المعنيين بما كان:

( المحامي: ها أنت ترى بنفسك سيدي الخردواتي أن هذا الحديد غال جدا...مدرعات..يعني حديدا ثقيلا...


الخردواتي: (بلغة مكسرة) صحيح..لكن الحديد الخفيف أفضل..
المحامي: تريد أن تمارس لعبة التجارة معي..ربما أنا محامي ولست تاجرا ولكنني شيطان في التجارة..لا تحاول التلاعب معي..ستدفع ثلاثة ملايين على هذه الخردة..
الخردواتي: (يضحك) انت تمزح بالتأكيد..
الأستاذ: (بارتياب) من أعطاك حق بيع ممتلكات الشعب يا سيد؟
المحامي: (يشعر بالفزع) من أنت..أنا محامي وأعرف ما أفعل بالضبط...
الأستاذ: ماذا تفعل بالضبط؟
المحامي: هذا ليس من شأنك..
الأستاذ: بل هو من شأني ما دمت مواطنا وهذا الحديد هو بقايا تاريخ وطني..
المحامي: لقد أبرمت اتفاقا مع الولاية ولا تملك أي شيء في يدك..
الأستاذ: بل أملك...أملك الإعلام..أملك رفع صوتي بالصراخ (يصرخ) تعالوا أيها المواطنون..تعالوا وانظروا كيف يبيعون تاريخكم...

الخردواتي: ألا يمكننا أن نتفاوض..
الأستاذ: لا تفاوض..تعطي هذا المحامي الجاهل ثلاثة ملايين والباقي لي..هل فهمت..
الخردواتي: (يمد يده مصافحا) اتفقنا.).

تحويل ما كان إلى خردة، تشهير بحقيقته، وشرعنة لطرق التصرف به، وإعدام الذاكرة الجماعية نفسها، يتساوى في هذه اللعبة كل الذين يشتركون فيها، حيث تسقط الطبقية المسماة، كرمى لحظة الفساد الكارثي، وما في ذلك من إغلاق على الواقع، وعدم تحييد طرف، وتبرئته، لصالح طرف آخر، فثمة قوى متباعدة مواقعياً، ولكنها متقاربة مصالحياً.

هذا ما نتلمسه في نص مسرحي آخر، وهو " الجثة- مسرحية من مشهد واحد، 20 تموز 2020 "

هناك أشباح تتكلم، وفي إثرها وقائع وضمائر تعبّر عن بنيانها الاجتماعي، ومكاشفة للخبايا:

( الشبح الأبيض: هراء... إن ضميرك هو كينونتك الحقيقية أيها الشاب..ضميرك وأخلاقك وليس طموحاتك..
الشبح الأسود: لا يخدعك...إن التاريخ كتبه أصحاب الطموحات لا أصحاب الضمائر...الملاحم..الحروب..الإمبراطوريات....القنسوات الحديديه ودروع الصدور المغطاه بالدماء..إتحاد المال والسلاح..السلطة..القوة وليس الضعف..
الشبح الأبيض: بل كتبه الأنبياء والمصلحون..كتبه الحب والوفاء..
الشاب: هذا غير صحيح أيها الشبح الأبيض..إنني لو خسرت وظيفتي هذا فلن يطعم الأنبياء والمصلحون أبنائي..لقد عشت داخل عش الدبابير...صارعت أصحاب الدسائس في شركتي لأجل هذا اليوم..أرجوك ابتعد عن طريقي..
الشبح الأبيض: أنت تساوي بينك وبين القوادين والمرابين الذين لا يمتلكون ذرة من الأخلاق..لذلك يكرههم الناس..هل تحبهم أنت..
الشاب: لا.. لا أعرف.. ولا أريد أن اعرف..لكن القوادين يأتون بالعاهرات لغيرهم..وغيرهم يقبلون بذلك..والفتيات أنفسهن يقبلن بذلك..فلماذا يتحمل القوادون كل الإثم..ثم من قال أن ذلك إثم..إنهم لا يختلفون عن الطبيب الذي يحصل على مال مقابل مداوات مريض..ويمتنع عن مداوات من لا يدفع...إن القواد لم يقتل أحداً لكن الطبيب يقتل..).

ويتداخل الحدودي مع ما هو خارج الحدود، فمنطق العولمة العنيف استباح محرمات كثيرة، وحلّل الكثير، وأدخل مسوّغات شتى، لوضع حدود ليست مستقرة، ولتختلف الهويات في منابعها وتوجهاتها، وما يكون قبحاً، بات محل فخار للبعض، لا بل، ورمزاً أخلاقياً، هنا وهناك، على وقْع هذه المتغيرات الانعطافية، كما في مسرحية " أشخاص أحياء- مسرحية من مشهد واحد، 28 تموز 2020 "، كما في هذه المقتطفات :

( جابي: لماذا أتيت لمرقصي..لقد كنت أحد من قادوا الحملة القضائية ضد إنشائه هنا..
الأستاذ: آه..لم أعد أعرف إن كان موقفي كان صحيحاً أم خاطئاً..في بعض الأيام يشتعل الحي بالشجارات الدموية بين رواد المرقص..لكنني أصدقك القول بأن المرقص قد جعل شوارع المنطقة أكثر حيوية..بائعو المشروبات تجمعوا حول المرقص..ثم تلاهم أصحاب البازارات..ثم محلات الموسيقى وخلال سنتين فقط ارتفعت أسعار العقارات بيعاً أو إيجاراً..وكل ذلك بفضل مرقصك..

جابي: هناك أزمة إنسانية..ويبدو أنها تاريخية ومزمنة..والأفلام الأمريكية تعمق إحساس البشر بوجود نقص كبير في ممارسة حياتهم..(يمسح الموظف دموعه ويغادر)...بعد التغيرات التي حدثت كان عليَّ أن أستفيد منها..فأنشأت هذا المرقص..تركت التدريس الجامعي وتفرغت للمرقص..لم أشعر بأي انحطاط بل على العكس..لقد انتابني إحساس فريد بالحياة..من رؤية الطلاب البائسين الذين يندفنون داخل الكتب المقررة، إلى الشباب الراقصين هنا...الطلاب يتخرجون وقلة منهم تنال فرصتها في التطور العلمي لحماية الحياة..والأكثرية تفشل في ذلك وتأتي للمرقص هنا لتمارس الحياة..إن ذلك تكامل مدهش...)

طبعاً يكون الرقص لممثلة هي " روحا " ومعها الجابي، الرمز المدشن لفساد من نوع آخر، واجهة الختام، ودخولاً في وضع مجتمعي مخيف.

هذه النصوص المسرحية لحظة ربطها بما تقدم من مقالات حول المسرح، تتكامل فيما بينها، وحاملها كاتبها.

أي فراغ هاوياتي يعيشه أمل الكردفاني، ليمسرح الكارثي داخله ومن حوله ؟ أو ليتنفس الصعداء تعبيرياً !

يعيش الكاتب المسرحي هنا، كما في النقاط السالفة، وكما سيظهر تالياً، بين أعمق وأوخم، وأوجع جرحين يشغلانه جسداً وروحاً: جرح الغرب الذي لا يمكنه نسيانه، لتفوقه في مجالات مختلفة، لكنه غرب يخص بنيه، ويخلص لقوانينه، ومن ثم معتقداته، وتاريخه، وبراديغمات فلسفاته، وعلومه وفنونه بالمقابل، حيث الإكزوتيكية" كراهية الغريب " لا تخفى فيه، وجرح الشرق الذي لا يمكنه تجاهل أوجه العنف الدموي فيه، رغم أنه يشده إلى ماضيه، وما يعزّزه في ثقافة يمكنها أن تستنهضه، إن توافرت القوى اللازمة، سوى أنه شرق يتجاهل أكثر من فيه رعوياً، وهو ما ينفّره منه.

إنها الإقامة المرعبة فوق الهاوية، وفي كل جانب ما يخيف للباحث عن التوازن النفسي مكاناً وزماناً، جرح مثقَل عليه بكابوس الشمولية، وثمة توق إلى المغاير والحاضر في أفق معناه .



شرعنة التعالي الفلسفي " 5 "

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى