إدوار الخراط - الرقابة والكتابة : قيدا الداخل والخارج

أذكر أنه عند نشر مجموعتي القصصية "حيطان عالية" كانت هناك رقابة على الكتب قبل أن تنشر. اعترض الرقيب وكان ضابطاً مثقفاً ورقيقاً وعنده حس لغوي أيضاً، هو النوع نفسه من الضباط في كل مكان. في مثل هذا الموقع، اعترض على اوصاف وعبارات رآها إباحية. التزمّت الطهراني هنا له في نهاية الأمر معنى سياسي، لأن التزمّت الطهراني هو فرض الوصاية الأبوية على الناس، وهو إملاء رؤية معينة وطريقة معينة للحياة على الناس. هو بالضبط ما كانت تتميز به الحقبة الناصرية، كان هذا انعكاساً للتزمت الرسمي، واعياً أو غير واع.

أما الآن فقد اختلفت الأوضاع قليلاً وبزوايا مختلفة، بمعنى أنه أصبح الآن هناك هامش أكبر بكثير في السماح بهذا السياق الشبقي الإيروتيكي الذي يسمى إباحياً وهو ليس إباحياً. والرضى عنه على رغم أن قطاعاً كبيراً من المجتمع ربما يتجه اتجاهاً آخر. الكتّاب سنة بعد سنة وعقداً بعد عقد انتزعوا هامشاً من الحرية في التعامل مع هذا السياق الإيروتيكي، ربما لم يكن موجوداً من قبل.

هناك دائماً شبح التهديد والقمع الظلامي، لكن هذا يختلف عن سياسة الدولة أو سياسة الرقابة التي تأتي بعد النشر، لأن "ألف ليلة وليلة" عندما عرضت على ساحة القضاء المصري سمح بها في أحد مواقفه الجليلة. تغيرت الأمور الآن، الرقابة تأتي من الناشر وليس من الرقيب، لا توجد رقابة مسبقة على الكتب حالياً في مصر ولكن الناشر سواء كان مصرياً أم عربياً، يضع تحسبات لقوى الرقابة الغوغائية في الشارع، وفي مؤسسات أخرى، فضلاً عن مؤسسة الدولة نفسها.

لكن الموجة الأخيرة في مصر بمنع أو مصادرة روايات ثلاث كلها على مستوى جيد وليس فيها ما سُمّي "بورنو" أو إباحية بل هو تناول للخبرات الجنسية موظف توظيفاً فنياً عالياً، هي موجة تكاد تعصف بحياتنا الثقافية وتنتهك حرية الابداع المسؤولة أمام ضمير المبدع وحده، انتهاكاً يستخدم التضليل ويخضع للضغوط السياسية الانتهازية، قد توحي بمستقبل غائم أو قاتم لرقابة الناشر دافع مادي اقتصادي ودافع أمني لأنه يخشى الاغتيال مباشرة أو التهديد بالاغتيال كما حدث بالفعل في إحدى المناسبات، إذ حذف الناشر وهو أديب وصديق - عبارة رآها قد تستفز قوى التعصب والتطرف الديني، وإن كانت قد نشرت هذه العبارة كاملة، في مصر، بعد ذلك وهناك دافع تجاري طبعاً.

هذا الهامش يضيق، خصوصاً في المسائل الدينية، وحتى استخدام العبارات والمجازات ذات الطابع الديني أصبح موضع رقابة ليس من سلطات رسمية فقط وإنما من سلطات غير رسمية: سلطة الناشر، سلطة ضغط القوى القائمة في الشارع. فهل هو القارئ أم هو وجود القوى السياسية، خصوصاً المتطرفة منها، أي أن ذلك يدخل في نطاق ما نسميه الردة الدينية. سمح الناشر لنفسه أن يحذف في إحدى رواياتي عبارة هي استعارة أو مجاز يوحي بأن فيه ما يمكن أن يعتبر تجاوزاً أو تطاولاً على المقدسات، هو مجرد تعبير شعري. ذلك ناجم عن نفوذ وسطوة القوى الغيبية التي تحكم الشارع، هذه الجملة نشرت في مجلة في القاهرة من دون أن ينتبه إليها أحد، لكنها حذفت من كتاب طبع في بيروت.

لا رقابة ذاتية عندي، أو هذا ما أحس به وما أعرف، بالعكس هناك دائماً حس بالثورة والتمرد، حس مستمر على رغم هذه السن المتأخرة، ومحاولة لاقتحام المحظورات باستمرار، في جميع المجالات، المجال الايروتيكي والديني والسياسي وهي المحظورات الشهيرة. من المهم جداً أن ندرك أن الشباب قد ضاق ذرعاً بهذه المحظورات، هذه ملاحظة أستغل الفرصة لأقولها هنا. كنت محكماً في جائزة مجلة "النقاد" للرواية العربية، وقد أتاح لي هذا ان أقرأ حوالى 44 رواية، المحور الاساسي في هذه الروايات هو اختراق المحرمات، بغض النظر عن القيمة الفنية لأن بعض الروايات لا قيمة فنية له إطلاقاً. المسابقة كانت بين كتاب يكتبون أول رواية أساساً. الشباب الكتاب ضاقوا ذرعاً وتفجر ضيقهم بالمحظورات الثلاثة: الإيروتيكية والسياسية والدينية، وبلغ الأمر بالكتاب الشباب بما أن مجلة "الناقد" كان شعارها الدفاع عن حرية الكتاب المطلقة وعدم الرقابة حد الجموح الذي لا قيد عليه باستخدام الكلمات "الثلاثية الحروف" بحرية كاملة، أي تسمية الأعضاء والأفعال الجنسية بأسمائها الصريحة، والهجوم على كل أنواع السلطة السياسية، والهجوم على المقدسات واقتحامها وإن كانت هذه اقل انواع الجرأة. إذاً الساحة الأدبية على الاقل، إن لم تكن هناك ساحات أخرى، متفجرة بالتمرد، وطبعاً هذا له مخاطره الرهيبة على سلامة العملية الفنية نفسها، فالجموح يجب أن يكون عملية اختيار فني. هناك فرق اساسي كما هو معروف بين الحرية والفوضى، لكن أنا إذا خيرت بين الحرية والفوضى، في هذه الظروف أختار الفوضى. لأنه من دون مثل هذا الجموح لن نصل إلى القدر المتيقن من الحرية التي تصنع قيمها وتضع قانونها بنفسها.

لا أرى، في تصوري، أي قيد من أي نوع على أية كتابة، على رغم ما يبدو في هذا الكلام من شطط وعلى ما فيه بالفعل من شطط.

أصبحت الكتابة الآن متنفساً ومنطلقاً ووسيلة للوضوح والتمرد على القمع الذي أصبحت قبضته اشد أسراً. والملاحظ لمن هو على معرفة كبيرة بالأدب الاوروبي والأميركي أن علاقة الكاتب بالحياة وعلاقته بالقارئ قوية أكثر مما هي في بلدان العالم الثالث خصوصاً في العالم العربي، على رغم أن الكاتب لا يلعب الدور نفسه في الغرب مهما قال، فوجوده يشكل فقط ركناً في نتاج من الثقافة العامة، أو هو التسلية فقط. هناك توجد حرية، فلو حصلنا على هذه الحرية عندنا لتغير وضع الكاتب ووضع الإبداع.

هناك ملاحظتان سريعتان في هذا الشأن: أولاً أن كتاب الغرب دفعوا الثمن: أوسكار وايلد سجن، د.هـ. لورنس روقب وحرم لسنوات لغاية ما بعد الحرب الأخيرة، وكذلك جيمس جويس. وفي فرنسا دفع الثمن فلوبير وبودلير وغيرهما، وإن كان السياق الحضاري هو الذي كان يحكم تلك الأوضاع.

بالفعل، أصبح الروائي أو الشاعر في الغرب غير مهم، غير فاعل، إلى حد كبير. بالعكس، ما ينتظر من الروائي أو الشاعر في العالم العربي كبير فهو يقوم بأدوار أخرى فاعلة اجتماعياً ويُنتظر منه أن يُحققها. ولهذا فإن العلاقة وثيقة جداً بين فعل الكتابة والفعل الاجتماعي، وعليه فإن حريته محدودة، لا مفر، لأنه يقف في مواجهة السلطات، له تأثير وفاعلية وهو يسجن ويُحظر ليس بالضرورة بسبب ما يكتبه فقط، إبداعاً أو نقداً أدبياً، بل أساساً بسبب دوره السياسي والاجتماعي. هذا ما حصل في القرن التاسع عشر في أوروبا.

المكبوتات التي يُعالجها الكاتب عندنا كثيرة، أرجو أو آمل أن أعالج كل ما هو مكبوت وإن كان ذلك سوف يأتي، طبعاً، ليس بالفوضى أو الجموح. ما زال انتزاع الحرية عملية معقدة ومُركبة، وأتصور أن كل كتاب جديد أكتبه فيه قدر أكبر من اقتحام المحظورات التقليدية.

هل هناك رابطة بين الأوضاع الاجتماعية وبين ذلك، أو أنه يأتي نتيجة كثافة وتراكم النسيج الداخلي والروحي؟ أظن أن الأمر يرجع إلى الاثنين معاً، لكنها ليست ظاهرة فردية. الظاهرة تجمعت، أصبحت جماعية. هناك هذا التوق الشديد لكسر المحظور وتحقيق الحرية، لكن الحريات ما زالت منقوصة حتى الآن، أنا لا استطيع أن استخدم الكلمات الثلاثية الحروف، وإذا كتبتها أدرك أنها لن تنشر في السياقات العادية للنشر، قد تنشر في كتابات "الماستر" المحدودة، ولعل ذلك كان أحد المشروعات التي خطرت لي أحياناً ولم أحققها بعد.

لعل هناك أسباباً لدى بعض الكتّاب العرب المختلفين، أسباباً عائلية مثلاً. بعضهم يشعر بالحرج من الحديث عن أمور عاطفية أو وصفها بتفاصيل، الشعور بالحرج من الوالدة مثلاً أو من الأخ أو الزوجة أو المجتمع ككل. هذا نوع من التحفظ أشد وطأة من رقابة...! لا أعتقد أن عندي هذا النوع من التحفظ على الإطلاق، بالعكس أعتقد أن الصدق والتكشف والاقتحام في هذا السياق مطلوب وضروري، لكن القيد الوحيد هو القيد الفني إذا كان قيداً. أنا أسميه قانوناً وهو نابع من الحرية.


خير جليس.jpg

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى