ليلى البلوشي - الجنة على شكل مكتبة

أؤمن بشدة بعبارة «بورخيس» في إحدى قصائده: «وأنا الذي تخيلت دوما الجنة على شكل مكتبة».
يفيض هذا الكون بالكتب.. يتلون ويتشكل، يقصر ويطول.. وما أكثر الخيارات من حولنا..! ووحده الجاحد من يعيش على لغة الأعذار في هذا العالم القرائي بامتياز. أقول هذا لأنه حتى الأمي في مظاهرات واعتصامات الربيع العربي كان يحمل لافتة أو اثنتين - على أقل تقدير - وثمة عبارة إنسانية.. اجتماعية.. سياسية.. اقتصادية يؤمن بها، مما دعاه إلى جهد رفعها طوال فترات المطالبة بالكرامة والحرية الإنسانية..! ولعل الشخص ذاته - الأمي - طلب من أحد المتعلمين قراءة ما تقوله الصحف المتنوعة والمتفشية في شوارع المظاهرات بصوت مسموع.. إننا في عالم قرائي شاسع، ولكل كتاب موقف ومكان وزمان وحياة، أو اندثار في هيئة حبس على رف رثّ في مكتبة تزعمها عنكبوت شائخ..! دعوني أثرثر هنا عن كتبي وعلاقتي بكل فروعها..
هناك كتب للمشاوير السريعة كالطريق من البيت إلى السوق، كانتظار في ردهة المشفى، كأوقات الفراغ في مقر العمل.. في مثل هذه الحالات أنتشل كتابا شعريا من مكتبتي وبأي لغة كانت لأي شاعر محلي عربي كان أم غربيا؛ ليكون رفيقي الحقيقي خلال هذه الفسحة من الزمن.

هناك كتب للأوقات المهمة، لساعات الفراغ الطويلة كعطل نهاية الأسبوع أو العطل السنوية، ففي هذه الحالات وحدها الروايات الضخمة وكتب علوم النفس المعقدة والدراسات الاجتماعية والفلسفية والتشريعية تتناسب والعطلة الممتدة.

هناك كتب لا تُقرأ سوى مع الآخرين، كتب وجدت للصحبة مع قراء مدهشين من نوع خاص.. كالقصص التي تتناول الأطفال أو الموجهة إليهم، وغالبا ما أقرأها مع أطفال العائلة أو مع تلميذاتي في المدرسة، وهي تجربة أثمرت عن خيالات مبدعة، فالمسألة تطورت من مجرد قراءة بصوت حكائي إلى تمثيل هذه القصص كمسرحيات، وفسح المجال لخيال التلميذات لاستكمال نهاية القصة المقروءة أو تخيل أحداث لم نتطرق إليها أو تخيل مقدمة/ نهاية، مختلفة للأحداث. إنها أشبه بعملية إعادة كتابة الكتاب بطريقتنا الخاصة..! هناك كتب للمطبخ ولغرفة الغسيل، تترك الطبخة على نار هادئة لتغوص في طبخة قرائية مشتهاة ببهارات من نوع آخر، أما غرفة الغسيل فالروايات القصيرة ذات السهل الممتنع تفي بالغرض جدا.

هناك كتب لا أقرأها إلا عند مشاهدة التلفاز أو متابعة فيلم، ففترة الإعلانات التجارية جيدة كفسحة استغلال لقراءة شيء يسير من مقالة مسطرة في كتاب ما أو متابعة موضوع لافت للاهتمام من أحد المواقع الإلكترونية أو تصفح مجلات وصحف.

ثمة كتب خلقت لتكون رفقة لنا في السفر، وأحرص في مثل هذه الأوقات على اصطحاب كتب معي تضاعف من حجم استمتاعي، أو تلك الكتب القريبة من القلب، والتي سبق أن قمت بقراءتها، فيكون السفر مع حضور الكسل خير وسيلة لإعادة ما سبق وخضت عوالمه، فتكون قراءتها هنا بمثابة استجمام واسترجاع.

هناك كتب احتياطية أحملها معي في الحقيبة، وحقائبي مصدر تندر من صديقاتي، فهي مستودعات لكل شيء، حتى كتاب يسلي أي عابر سبيل أو وحيد، وهناك كتاب أحمله معي ليس لضرورات القراءة وحدها، بل لأستدعي شعورا ما في داخلي كوني لا أخرج من المنزل فارغة؛ فحقائبنا نحن النساء لا تخلو على أقل تقدير من أحمر شفاه، وعلبة تزيين صغيرة، ومرآة، وزجاجة عطر، فلماذا لا يغدو طبيعيا أن يكون من ضمن هذه الحمولات التي تحطّم أكتافنا أحيانا كتاب أنيق لتجميل الداخل؟! وثمة كتاب لا تحلو لنا قراءته سوى على سرير وثير بخيالاتنا والكتاب الذي أغوانا إلى عوالمه، وكم تستهويني المجاميع القصصية في مثل هذه الحالة خاصة الخيالية منها أو سيرة مشبعة بالإنسانية.. وكتب ما قبل الخلود إلى النوم؛ لتكون زادنا نحن - الحالمين - بواقع أجمل.. والروايات المترجمة عن الخيال العلمي وكتب الرحلات إلى مدن غامضة، هناك حيث نتعرّف على ذواتنا الأخرى! «هناك باب موصد حتى نهاية الأزمنة/ بين كتب مكتبتي/ هناك كتاب لن أفتحه أبدا»..

أجل يا «بورخيس» لن أفتحه أبدا، كي أحتفظ كقارئة فضولية بشغف فتحه يوما ما!



خير جليس.jpg

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى