نهى الطرانيسي - إكليل من البنفسج على قبر مجهول

كبحث الوحوش الضارية عن فريستها تشتَمُّ رائحتها، نبدأ يومنا، في حالنا نكون مثل النسور آكلة الجيف، نلاحقها بصندوق أسود قاتم، يثقل الكاهل، يلازمنا حتى تآلفنا. أذهب به أنَّى اتجهت .. أهرول .. ما لي غيره ، فهو عيناي لألتقط مشاهد ولقطات أبعث بها لوكالات إخبارية بسبق أمتاز به.. رافقني لعشرات السنوات.

تنقلت كثيرا في حياتي ، وهذه المرة إلى بلدة منكوبة.. كانت كالمرأة الشابة الجميلة افتتن بها الناس كثيرا وما روت ظمأ أحد ، لينتقم أحدهم بسكب المياه الحارقة على وجهها الحسن لتصير امرأة مشوهة دميمة.

بلد صار مشوها مقطعا متناثر الأجزاء لا تعرف أين تغدو أو إلى أين تروح.

دائما نحذر من الصمت؛ فكثير من الصمت تتبعه العاصفة ، لنرى فوهة البركان أعلنت عن غضبها طاردة أشلاء ومباني، تنفث نارا إيذانا بنهاية العالم.

ترى السماء اتشحت بالسواد كالثكلى التي فقدت أطفالا كانت ترعاهم تحت جناحيها، وكأننا في احتفال ضخم لتتطاير الصواريخ النارية على شرف الشرير.

لا يكفي أبدا وضع اليد على الأذن عسى أن يختفي الصوت للحظات، ولا إغماض عيني لأنسى مشهد انطلاقة الموت صوب بيت رأيت قاطنيه للتوّ؛ رضيع يشتكي الجوع ، مسن لازَمَ الحصير على الأرض يدعو الله بالفرج القريب، وأطفال جلسوا خائفين بعد فقد الأم في رحلة البحث عن الماء، غضبه وسرعته لم تمهلهم للحظة واحدة، تدك البيوت التي لم تكن سوى جدران ورقية لا تنفع ……..لا تجدي.

وبدأ عملنا ليستقر الصندوق عند فتاة اختلط شعرها بالرمال المتطايرة فأصبحت وكأنها قد شابت فجأة، دموع لا تفارق وجنتها التي فقدت نضارة الحيوية، شفتان تصرخان بارتعاد على أمها، تجلس الفتاة منتظرة خروجها من تحت الأنقاض، لعلها ما زالت على قيد الحياة. خطوتُ لأصورها لعلي أكسب ودها وأقنعها بالعدول عن رأيها الصارم.

ما غيرت وجهها ، ظل شاردًا حزينًا ينظر في كل الأرجاء ، لعلها ترى أمها وقد أتت تنفض الغبار من فوق جبينها؛ لتقبّل طفلتها وتمسح دموع القلق، لتهندم ملابسها مع وعد بضمة الحنان أثناء وجبة العشاء.

تسقط أجزاء من المباني على آخرين والفتاة الصغيرة .. يصرخ الناس ..صراخ امتزج بالدعاء بالصبر والقوة والرغبة في الانتقام، وما شعرت إلا بنفسي أصرخ (لماذا……..لماذا لم تأتِ؟ ما يلزمك إلا خطوات )

(لماذا أصررت .. ؟)

أسرعت إليها ما رأيت سوى وجه مغمض العينين بدون جسد دفن تحت الحجارة.

(لماذا لازمت مكانك .. ما برحْتَه؟ .. أغمضتَ عينيك الآن .. ارتحتَ؟ أكنتَ على موعد مع أمك وانتظرت هنا؟ نعم هي الروح تعلم)

مسحتُ الغبار عن وجهها الملائكي لتتخضب يدي بدموع سالت من رأسها الدموية ليزيد من مرارة بكائي، ولتختلط الدموع الحارة مع دمها القاني المتخثر بلون ارتسم على أعلام العالم ليُخضّب أسطح العمارات والسفارات والقنصليات ومباني الأمم المتحدة، و…..حقوق الإنسان.

إكليل من البنفسج على قبر مجهول – نهى الطرانيسي

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى