شريف صالح - ذكريات قد لا يعرفها نصر حامد أبو زيد

في عام 1993 على ما أذكر، سمعتُ باسم نصر حامد أبو زيد. كنا نحن "الدارعميين" بفقرنا وطابعنا الريفي، شديدي التمسك بقواعد الإسلام وسلوكياته، ونرى في أساتذتنا أمثال عبد الله شحاتة، عبد الصبور شاهين مثلاً أعلى. وكان الاثنان أشهر من نار على علم، لكثرة ظهورهما في برامج التلفزيون المصري التي وقفت وراءها أجهزة الدولة المعلنة والسرية لمواجهة المد العاتي لما يسمى "التطرف الديني" الذي أخذ طابعاً مسلحاً. من تلك البرامج "ندوة للرأي" والمقصود طبعا "ندوة للدين"، و"حديث الروح" والمقصود طبعاً "حديث الإسلام المعتدل".

ومثلما كنا مطبوعين على تقليد آبائنا في فلاحيتهم، كنا مطبوعين على تبجيل أساتذتنا وترديد ما يقولون. وازددنا فخراً بالانتماء إلى "دار العلوم" العريقة أقدم كلية للدراسات الأدبية واللغوية والإسلامية في مصر، ويكفي أن رئيس الدولة شخصيا خصها بحضور عيدها المئوي، ولو بعد مرور عشرين عاماً على موعده! كان حدثاً جللا في جامعة القاهرة، وإن حرم من متابعته الكثيرون للدواعي الأمنية، فاكتفينا بمتابعة الخطاب الإسلامي الرئاسي المستنير، ونحن ندخن الشيشة على المقهى!

آنذاك، كانت الأجواء في جامعة القاهرة مشحونة شحناً عنيفاً بالدين والسياسة، وربما كان العالم الجليل مأمون سلامة آخر رؤسائها المحترمين الذين حاولوا الحفاظ على هيبتها وعدم تسليم إدارتها كلياً إلى أجهزة الأمن التي تتلاعب بالملفين.

تقريبا كانت الاتحادات كلها تحت سيطرة الإخوان، احتكاما إلى صناديق الاقتراع، وكنت مثل كثيرين متعاطفا معهم، فهم في النهاية يعبرون عن نموذج إسلامي تربينا على احترامه، ولديهم شباب متميز يختلف جذرياً عن "الكائنات" الهشة جداً التي يصدرها لنا جهاز الأمن، ولا أدري لماذا يتكرر دائما سوء الاختيار، ما بين مرشح إسلامي مقبول ومفوه، ومرشح تافه بغيض للحكومة!

يُضاف إلى ذلك، الإرث التاريخي التنافسي بين مدرستين وفكرين في التعامل مع الأدب العربي والعلوم الإسلامية، وهما مدرسة كلية الآداب ويتزعمها طه حسين رمزاً للعقلانية والاستنارة ومعه الشيخ أمين الخولي، شوقي ضيف، سهير القلماوي، مصطفى سويف، وآخرون. في مقابل مدرسة دار العلوم بطابعها المحافظ والتي تضم أسماء جليلة مثل: زكي مبارك، زكي المهندس، مهدي علام، إبراهيم مدكور، محمود قاسم، حسن البنا، سيد قطب، وغيرهم. بالطبع الولاء لأساتذتنا حق وانتماء فطري لا مراء فيه، ويتضاعف عندما يتغذى على هوية منجذبة إليه.

كانت مرحلة عصيبة، تميزت باحتقان سياسي عنيف في مطلع التسعينيات، داخلياً بتلك المواجهة الضارية بين الدولة وجماعات الإسلام السياسي خصوصا "الجماعة الإسلامية" التابعة للشيخ الضرير عمر عبد الرحمن، و"الجهاد" المتهمة بالضلوع في قتل السادات. وكنا يومياً نقرأ ونسمع عن تصفيات جسدية ومحاصرات لقرى ونجوع في الصعيد، ومحاولات اغتيال لوزراء وشخصيات عامة، لعل أشهرها اغتيال فرج فودة، واغتيال رئيس مجلس الشعب رفعت المحجوب.

ويكفي أن مطاردة الشرطة للمتهمين باغتيال المحجوب انتهت بتصفيتهم جسدياً على بعد أمتار منا، عند أسوار كلية الهندسة حيث ذهبنا لرؤية الدماء التي تبقت عقب المعركة.

خارجياً، كان الوضع ملتهباً، وينعكس علينا خصوصاً ما يحدث في فلسطين، وقد زاد الأمور اشتعالاً ما يسمى "اتفاقات أسلو" ورغم أن سني لا تسمح لي بدقة لمعرفة تفاصيلها، وقناعتي بأن دخول عرفات ورفاقه إلى وطنه إنجاز طيب، لكن الرأي العام في الجامعة الموجه إخوانيا، قاوم "أسلو" و"مدريد" بضراوة، واشتعلت مظاهرات وصلت إلى إغلاق الشوارع المؤدية إلى مداخل الجامعة وإطلاق قنابل مسيلة للدموع ورشق أفراد الأمن المركزي بالحجارة، واستشهاد أحد الطلاب في تلك المواجهات، لقبه "الوقاد" على ما أذكر، وخطف الطلاب من أمام الجامعة والمدن الطلابية إلى جهة مجهولة!

كانت الجامعة تتحول في ثوان إلى ساحة حرب، تحركها أصابع خفية لاتجاهين، فقط لا غير. وهي المعادلة ذاتها الحاكمة لمصير البلد إلى الآن والقابلة للاشتعال في أية لحظة.

وانطلقت عام 1993 ـ على ما أذكر ـ في تلك الأجواء المتوترة، معركة نصر حامد أبو زيد، الذي تقدم بأبحاث لنيل ترقية جامعية، لكن اللجنة الأكاديمية برئاسة أستاذي عبد الصبور شاهين رفضت ترقيته، في سابقة جامعية نادرة جداً، على أساس أن الأمر أقرب إلى إجراء روتيني لأي أستاذ جامعي. وهنا اشتعلت المعركة خارج أسوار الجامعة، بين ما تبقى من فلول اليسار والناصريين، وبين تيار إسلامي عفي شرس وقادر على منازلة الحكومة حتى بالسلاح، ومدعوم بمال خليجي وغير خليجي.

تلقائياً وجدت نفسي منحازاً لأستاذي عبد الصبور شاهين، ولسائر أساتذتي في دار العلوم، امتداداً لإرثنا التاريخي المشترك والمناوئ لطرح كلية الآداب. فها هو أستاذ في كلية الآداب اسمه نصر أبو زيد يفتري على القرآن وعلى الإسلام، ولا أنسى وقفة أستاذي الجليل إسماعيل سالم رحمة الله عليه وهو رجل من أهل الصلاح يطبع كتيبا على نفقته ويوزعه على الشباب في الجامعة مندداً بفكر نصر. وانضم أستاذي الوقور عميد الدار محمد البلتاجي للمعركة فاضحاً جهل أبي زيد بالعلوم الشرعية.

ثم كانت النهاية المعروفة بحكم الردة الشهير وخروج أبو زيد وزوجته إلى المنفى الأوروبي البارد. صراحة لم يحزنني ذلك مثلما أحزنني الموت المباغت لأستاذي إسماعيل سالم عقب هذه المعركة الضارية.

وفي صيف 1995 بلغ هذا المناخ الرديء ذروته عقب شهور من تخرجنا، حيث وقعت محاولة فاشلة لاغتيال رأس الدولة نفسه في أثيوبيا، ما جعلني أصدق إمكانية تنفيذ هتافات، ومنشورات كنا نراها ملصقة على جدران المباني الجامعية تتوعد الرئيس بالتصفية على غرار سلفه، وكنت أتعامل معها في حينها باستخفاف وتهكم!

بدا لي وضعاً "مثالياً" لكتابة روايات، لكن المرارات الكثيرة التي شعرت بها أثناء الدراسة، جعلتني غير مبال بالحياة كلها، ولا بالعمل ولا بالنجاح، ولا بالدين ، ولا بالدولة نفسها.. إلى درجة أنني عانيت ما يشبه التسمم الروحي والبلادة. لقد حاولت أن أفهم ما يدور على حقيقته، وتناقشت طويلاً مع أعضاء في الإخوان والجهاد والجماعة الإسلامية، أما الحكومة فهي أكبر من أن تتناقش مع أحد، فضابط الأمن يأخذ منك هويتك الجامعية كأنه الممثل الشرعي لفرعون، ويعيدها باستعلاء وقرف كأنك أجرب أفسدت عليه خلوته!

رغم ذلك، ذهبتُ إلى القوافل الشبابية الإرشادية التي قادها المحجوب وزير الأوقاف الشهير بتسريحة وصبغة شعره وشاربه الدقيق، حتى لا تبدو أحكامي عن الحكومة مسبقة أو متعسفة، ولا أنكر أنني استمتعت بالمكافأت البسيطة التي يمنحوننا إياها، أو على أقل تقدير تناول وجبة طعام جيدة، والتنزه بالأجواء السياحية في رأس البر، فكل أجهزة الدولة مسخرة لترويج الإسلام المحجوبي، رغم أن زاده محدود جداً في إقناع الشباب والتأثير عليهم، إن لم يحقق تأثيراً عكسياً، لأن الواقع كان مغايراً كلياً لتلك الصورة المرسومة بعناية فائقة من أجل عدسات التلفزيون والصحف القومية، وطمأنة الرئيس.

مع الوقت، والتقاط الأنفاس، واتخاذ مسافة كافية من الأطراف كلها، وتأمل ما يجري، ترسخت لدي قناعات مختلفة، ومغايرة لعواطفي الصبيانية، والولاء المجاني الذي قد أمنحه لمن لا يستحق، ودربت نفسي على بناء مواقف نقدية من جميع أطراف اللعبة تخصني وحدي: لا مستقبل لوطن تديره حكومة تبني جسوراً لكنها تهدم أرواح البشر، ولا مستقبل لوطن تديره جماعة الإخوان بتجلياتها المختلفة لأن الدين مثل عفريت القمقم إذا خرج من محبسه وسيطر على كل شيء، قضى على أي أمل في مستقبل قائم على التنوع وتداول السلطة. ولا مستقبل لفلسطين نفسها إذا استمر الخطاب الراديكالي وحده متحكماً في إدارة الصراع.

توقفت كلياً عن الإيمان بكتل كبيرة صماء، وغير مفهومة، بل النظر إلى كل شخص على حدة ونقد وتقييم تجربته الخاصة، وفق قيم إنسانية عامة، لأن "الكتل" الضخمة مصابة بالعته والترهل والغوغائية أو تحركها أيد خفية ومصالح آنية، ولا تريد خيراً للوطن.

كان أول من تحفظت عليه أستاذي عبد الصبور شاهين نفسه، فهو مشغول دائما بصورته كنجم إسلامي تلفزيوني، (وليغفر لي ذلك) بينما هو عالم جليل في علوم اللغة، لكنه بكل أسف كان يتناسى ذلك ولم يفدنا كثيراً كطلاب، مكتفيا بإصغائنا تأدباً لفتوحاته الدعوية وعلاقته بحسن البنا!

كما تمردت على "العقاد" الأيقونة التي يتبناها الدراعمة شعراً ونثراً، متجهاً أكثر نحو سلامة موسى وطه حسين بسلاسة أسلوبه واستبصاراته العقلانية. محاولاً قراءة ما يقوله نصر أبو زيد عن نفسه في حواراته ومقالاته، وفهم هذه المصطلحات العويصة التي لا أسمع بها في دار العلوم، مثل "الهيرمنوطيقا"، ودون وساطة إسماعيل سالم أو غيره.

كان شعوري العميق أنني، ومجتمعي المشتت، بحاجة إلى التفلسف قبل أن نندفع نحو أفعالنا الاجتماعية والسياسية والدينية. ما يعني القطيعة الوجدانية مع الإرث الريفي الإسلامي الذي ظللت مخلصاً له لسنوات، والذي استنفد نفسه في حلقة عبثية عقيمة، آجلاً أو عاجلاً ستنتهي بي سلفيا أؤدي الطقوس بانتظام وأضع مسواكاً بين أسناني أثناء المشي، ولا أرتدي سوى سراويل بيضاء قصيرة تأتي من السعودية وباكستان، بل وأرفض النوم على مرتبة لأنها ليست بخشونة تلك المواد التي كان ينام عليها النبي وأصحابه، ولا مانع من أن ألقب نفسي ب"الأثري" أو أو "أبو مصعب".

اكتشفت متأخراً، أن هناك عقولاً تعبر عن تيار وطني ثالث، صامت وبلا نفوذ تقريباً،، تيار ليس حكوميا ولا منتمياً لجماعة الإخوان ومشتقاتها. يملك وحده أفقاً مفتوحاً للمستقبل، ويضم عقولاً مثل جمال حمدان، نجيب محفوظ، زكي نجيب محمود، يحيى حقي. فهؤلاء تميزوا بصفتين أساسيتين: العقلانية والوطنية، بعيداً عن شعوبية المتدينين وانتهازية الحكوميين المنافقين، فهؤلاء وألئك يقودان عجلتين حربيتين تقودان أي مجتمع إلى الطائفية والانقسام والتخلف ونهب الثروات ورهن قراره الوطني بيد أشكال استعمارية سرطانية. وللأسف هما العجلتان الأكثر صخباً وحضوراً، وطنيناً، بقيادة ملاك الحقيقة وحائزي الثروات والمناصب.

كان، ومازال بقائي، في عراء تلك الفئة الثالثة ممتعاً بالنسبة لي، يتناسب مع حس صوفي خفي يحاول أن يتسامح مع الزمن ومع الخصوم. وبرغم أن هذه الفئة لا تملك لنفسها نفعاً ولا ضراً، ولا جاهاً تغري به، لكنه الرهان الذي فضلته لنفسي، حتى لا أكون ترساً صغيراً في عجلتين قاتلتين، تذهبان بنا منذ عقود إلى المأساة ذاتها.

لا أدري ما الذي يراكمه نبلاء مثل: مصطفى محمود، طارق البشري، وعبد الوهاب المسيري. ربما هم صمام أمان الشخصية المصرية التي تتعرض لأعنف أنواع الاستلاب وتذويب الهوية. ربما هي قيمة النزاهة في المبدأ والسلوك في التعامل مع الحياة والخصوم.

ومع الوقت أدركت أن نصر أبو زيد هو أحد فرسان هذا التيار الثالث غير النافذ والبعيد عن الاستقطاب الدموي. فهو خريج المدرسة الصناعية وفني اللاسلكي، وريفي فقير مثلي، جاء إلى القاهرة مع أحلام واسعة في الأدب والفكر والحياة، وإحساس عميق بمعنى الوطن وقيمة العقل. إنه الأقرب إلي حتى من أستاذي إسماعيل سالم، ليس لأنني ضد القيمة الروحية النبيلة لأي دين، بل لأنني أحوج ما يكون إنساناً ومواطناً لقيمتي العقل والوطنية، هذا ما تفرضه عليّ لحظتي التاريخية. ولعلني في لحظة أخرى، ومسار آخر، أتحفظ على خطاب أبي زيد أو أنقضه، والرجل نفسه لم يقل إن كلامه مقدساً مثلما قال خصومه، وهذا بالضبط ما أبحث عنه.

عن خطاب صادق وقابل للتغيير، لا عن خطاب مقدس يضعني باستمرار في مواجهة الدم والعنف والخواء. لقد كنت أريد أستاذي عبد الصبور شاهين عالم اللغة الجليل لا الداعية التلفزيوني الشهير. أريد تصالحاً مع تراثي الدارعمي والإسلامي، كنص قابل للتأويل والتفسير لا كنص مقدس مغلق يؤول بي في خاتمة المطاف إلى غوانتامو وحكم طالبان.

كنت ومازلتُ مدركاً أن الانتهازية الحكومية وتحالف المصالح السري يقتاتان على استغلال المقدس الدموي، والأخير بدوره يجد في سوءات الحكومة مرتعاً لكسب أرض جديدة، وصولاً إلى أسلمة "ناعمة" لفقراء المجتمع وقد ازدادوا عدداً، وجهلاً، وفقراً، وعدوانية، في مقابل سرقات "ناعمة" أيضاً لثروات الوطن على يد الانتهازيين الجدد.. مُلاك الحقيقة ومُلاك الميديا، يتقاسمان الغنيمة على جثثنا ويرهنون مستقبلنا للمجهول!

هكذا أصبحت الصراعات التي دارت مطلع التسعينيات وراء أسوار الجامعة، تُعرض اليوم صوتاً وصورة، وتسخر لخدمتها أجهزة اتصال أسطورية، تفتت الحدث الواحد إلى ملايين الأحداث وتداعياتها.

قديماً كانت "سكة" أبو زيد الهلالي "كلها مسالك" فهو فارس شجاع وصاحب حيلة، ومثل أي بدوي يبحث عن المياه والمرعى. أما أبو زيد المصري ف "سكته كلها مغالق"، فهو يُبعَد عن البلدان والقنوات الفضائية والجمهور، منبوذاً من مُلاك الميديا المتفرغين فقط لتجييش الغوغاء في حروبهم الصغيرة، ومنبوذاً أيضاً من مُلاك الحقيقة المتفرغين فقط لتجييش الغوغاء في حروبهم الكبيرة.

أبو زيد "منبوذ"، لأنه لا يخوض حرباً نيابة عن أحد، ليس لأنه أقل شجاعة من سميه العربي، بل لأنه يبحث عن العقل، عن تلك القيمة الأسمى من مجرد الحصول على المياه والكلأ.. يبحث عن هذا العصب الشفاف المنوط به وحده أن ننتقل من خانة الحيوان إلى جنة الإنسان.

بينما أقطاب الحروب الصغيرة والكبيرة، لا يريدون لنا سوى السعي الحثيث وراء المرعى، بظهور محنية، بانتظار اللحظة المواتية لإشعال حربنا المقدسة الموعودة.


شريف صالح

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى