صلاح عبد العزيز - قراءة فى قصة قصيرة " الرجل الطويل" جمعة شنب

الواقع المعاصر ليس بمنآى عن الماضى البعيد فلغة الرمز الغالبة على نص القصة القصيرة بما تحمله من مضامين عن التحكم والاحتياج وبراءة بعض الشخصيات وبلاهة بعضها عن الرجل الطويل وذلك البقال بصفاتهما التراثية فى سطور القصة المتضمنة داخل ثنايا النص فالآخر سواء كان البقال أو الرجل الطويل متحكمان فى مصير تلك الشخصيات بالمنع أو العطاء . وتتمحور القصة كلها حول الرجل الطويل من أين جاء وإلى أين هو ذاهب إلا أنه وجه من وجوه ذلك البقال بشكل أو بآخر بسبب التواطؤ الخفى بينهما فحرية الرجل الطويل فى وضع الزبائن المقترضين على الرفوف فى استسلام تام وثقة بتمام الأمور كمعلبات لحم مع لسان البقال اللاذعة كبديل له فى معاملة الزبائن على هذا النحو دون أن تفصح القصة عن طبيعة تلك العلاقة إلا فى نهايتها عندما اصطحب البقال وسار فساروا وراءه متسائلين ومنقادين . فالإضطرار إلى الخروج لحاجة ملحة هى من أوقعت تلك الشخصيات النمطية فى تلك الورطة المبهجة لبعضها كالسيدة أو الرجل الوقور والمتسائلة للبعض الآخر لأن ماهية الاحتياج جعلتهم يسيرون وراء الرجل الطويل الذى ولا شك سيلبى تلك الاحتياجات وعلى مر العصور من ألف عام أو يزيد كما تخبرنا القصة كان البقال أبو سمير الإسم الوحيد الذى ورد فى ثنايا النص لا وصف له ولا شكل معين إنما تعريفه ووصفه جاء من بضاعته التى لا تتغير على مدار القرون ولا يزال بهيأته وتفاصيله وبضاعته التى تعرفها الشخصية المشار إليها فى القصة وهو البطل المهزوم على أى وجه والمنقاد ليس رغما عنه فقط بل لحاجته الشديدة وهى بضمير المتكلم مما يخلق حميمية وصدق على المشهد السردى باللغة الرمزية التى هى فى مقاربة واعية أن الوضع كما هو ولا اختلاف إلى أن ظهر الرجل الطويل بهيأته التراثية الشعر الطويل واللحية الطويلة فى إزاحة المشهد كله عليه فهو المتحكم والمتصرف وما فعله فى بقية المتسوقين بالاقتراض وعلى الحساب وفى انزياح وغياب ابو سمير ليحل محله الرجل الطويل جملة وتفصيلا حتى أنه هو المتحكم الفعلى وفى النهاية نكتشف جزء من طبيعة هذه العلاقة . ولو تم تحليل كل شخصية على حدة فى هذا النص القصير لأمكن القول إنه حالنا الآن ووجهنا الآن وحاجاتنا التى لن تنتهى فى ظل الاحتياج والتبعية حتى أن ما نظنه وقورا فهو تابع ومنظم لتلك التبعية فى صورتها الحالية .
صلاح عبد العزيز - مصر 🇪🇬 🇪🇬 🇪🇬
---------------
جمعة شنب - الرّجل الطّويل.. قصة قصيرة
فرغتْ علبةُ سجائري، فوجدتُني مضطرًّا للخروجِ من قوقعتي، والتوجّه نحوَ بقّالةِ الحيّ الصغيرة، حيث أبو سمير واقفٌ، وراء طاولتِه العتيقةِ، منذُ ألفيّ عامٍ أو يزيد..
ذاتُ التفاصيل، وذاتُ البضاعةِ، ونفسُ طبقةِ الغبارِ على الرفوفِ، وذاتُ الرائحةِ، حيثُ يختلطُ ما ينبعث من السردين المملّح، برائحةِ اليانسونِ والقِرفةِ والزعترِ البلديِّ والزيتِ المغشوشِ وحبِّ الحمّصِ والشّعير والمنظّفاتِ الكيميائيّةِ المزوّرة، وروائحَ أخرى من موادّ، سكنتْ هناك منذ قرونٍ، وانقرضت قبل قرونٍ أيضًا..
المسألةُ الجديدةُ كانت: ذلك الرجلَ الطويلَ، ذا الشعرِ الطويلِ والّلحيةِ الطويلةِ والأظافرِ الطويلةِ أيضًا، الواقفَ قدامِ أبي سمير، والذي أمسكَ بعنقي بأصبعين عظيمين، ورفعني، حتى صرتُ في مواجهةِ وجهِهِ الكبيرِ، وعينِهِ المغطّاةِ بجِلْدَةٍ مدوّرةٍ، خمّنتُ أنّها مُقتَطَعةٌ من بطنِ حمارٍ، أو مؤخّرةِ خنزيرٍ مقيتٍ، والذي قال باقتضاب، قبلَ أن أقولَ شيئًا: «سأمنحك سجائر» واجلسني على الرفّ، مثلَ قطِّ شوارع..
ومن على الرفّ، حيثُ يحسُّ الإنسان بالصّغر والتفاهة، رحتُ أرقبه يفعل ببقيّةِ المتسوّقين ما فعل بي، حتى امتلأت الرفوفُ بأناسٍ ذوي حاجاتٍ مختلفةٍ. وصادف أنّ السيّدة التي أُجلست جنبي، كانت جاءت تشتري نصفَ أوقيّةِ زعترٍ، على الحساب، لكن لم يبدُ عليها أيُّ استياءٍ، من جرّاءِ جلوسِها على الرفِّ عنوةً، وبدا أنّها استغلّت جلستَها تلك في الثرثرةِ، ابتهاجًا بزعترٍ مجاني، لا يقيَّدُ على دفتر البقّالِ، الذي لا يجيدُ الابتسامَ، وصاحبِ التعليقاتِ اللّاذعةِ، في حقّ زبائنِه المقترِضين، من مثلِ هذه السيّدةِ اللّدنةِ، الجالسةِ جواري باسترخاء...
سارتِ الأمورُ على هذا النحو زهاء ساعتين ونصفٍ: أناسٌ يدخلون بوابةَ المحلّ، وقبلَ أن ينطقوا بحاجتِهم، تلتقطهم أصابعُ الرجلِ الطويلِ، وتَعِدُهم بقضاء حاجاتِهم، بقدرٍ مناسبٍ من الصّلافة، ثمّ ترتّبهم على رفوفِ البقالةِ، شبهِ الفارغة. والحقّ أن أحدًا منّا لم يفعلْ شيئًا سوى الجلوس، مثلَ أيّ علبةِ لحمٍ معدنيّة...
وعندما حلّ الغروبُ، ولم يكنْ أيٌّ منا قد تململ من رفِّه، استلّ الرجل الطويلُ أبا سمير من وراء الطاولةِ، ومشى به خارجًا، ما أحدثَ فينا نوعًا من البلبلة، وبعضِ الفزعِ، لا سيّما عندما بدأنا نتقافز من أعلى، إلى أن تبرّع أحدُ السّادةِ، وكان جالسًا على الرفّ المقابلِ لي، بوقارٍ شديدٍ، غيرِ معهودٍ في رجال حيّنا، وطلب منّا أن نصطفّ في طابورٍ منظّمٍ، لنسيرَ وراء الرجلِ الطويلِ، حتّى يلبّي لنا حاجاتِنا، وبالفعل، اصطففنا، وسرنا في الشارعِ، يقودنا الرّجل الوقورُ، في أثرِ الرّجل الطّويل!!


جمعة شنب - الرّجل الطّويل.. قصة قصيرة




  • Like
التفاعلات: جمعة شنب

تعليقات

أعلى