محمد فايز جاد - في ذكرى رحيل العقاد.. الصراع بين "الأستاذ" و"الدكتور"

رجل قرأ آلاف الكتب، حسبما يروي تلاميذه، قرر أن يكرس حياته للقراءة والكتابة فقط دون زواج، يصارع أفكارًا شتى، ويصارع معها مصرانًا غليظًا، مصاب أجبره أحيانًا على تغيير إيقاع كتابته، هكذا كان الكاتب الراحل عباس محمود العقاد، الذي رحل عن عالمنا في مثل هذا اليوم، 12 مارس من عام 1964، عن عمر يناهز 74 عامًا.

في الساعات الأخيرة من حياته، يتضح لتلاميذه أن حالته تسوء ولا أمل في التحسن؛ فالعقل الذي ظل منتبهًا طوال أعوام يغيب ويتوه في نوبات كالإغماء، في تلك الساعات تدور مكالمة بين الراحلين د.طه حسين، وأنيس منصور، ليمطئن حسين على صحة العقاد، قبل أن يخبره منصور بأن الأمل بات معدومًا، وأن "الأستاذ"، كما كان يناديه تلامذته دائمًا، يحتضر.
مقالات للكاتب
"الجماعة 2".. الفن في حقل ألغام التاريخ
أنا لستُ واحدًا من صوري
"مغامرة رأس المملوك جابر".. متى يسقط الحائط الرابع تمامًا؟


ربما لو أن العقاد كان في كامل وعيه ليخبره أحدهم بأن حسين اتصل ليطمئن على صحته لما صدق؛ فحياة طويلة من النزاع جمعت بينهما، ينفعل العقاد عدة مرات غاضبًا من أنه لا يحظى بتقدير، كالذي يحظى به طه حسين، لأن الأخير حاصل على الدكتوراه، يقلل من شأن الدكتوراه والشهادات الأكاديمية، مقارنة بثقافته التي حصلها بالاطلاع وحده، بل ويصر على الحصول على أجر مكافئ لما يحصل عليه صاحب "في الشعر الجاهلي" عند دعوته للقاء تليفزيوني (هذا حسب رواية أنيس منصور في "في صالون العقاد كانت لنا أيام" وشهادات بعض أصدقاء العقاد بعد ذلك).

هذا الخلاف بين الاثنين، الذي كان كثيرًا ما ينقله تلاميذ هذا لذاك، لم يكن صراعًا بين شخصين، رغم أنهما كانا قطبا الأدب العربي آنذاك، إنما فضلًا عن ذلك، كان خلافًا بين منهجين؛ فالعائد من فرنسا، الدارس في السوربون، قرر أن يخضع الأدب العربي وتراثه لدراسة أكاديمية تراعي ما بلغته العلوم التي درسها فيما وراء "البحر"، في حين يرى الكاتب الذي لم يغادر مصر أن "العبقرية" هي الفيصل لا الشهادات الأكاديمية، وأن الاطلاع معها قادر على الخروج بكتابات أفضل.

المقارنة بين كتابات صاحب "الفتنة الكبرى" ونظيراتها عند صاحب "العبقريات" ربما تسفر عن جلاء هذه الفرضية.

كلاهما كتب في التاريخ الإسلامي، ولكن كلًا منهما اتخذ طريقًا مغايرًا للآخر؛ ففي حين كان طه حسين يخضع الحقبة أو الشخص محل الدراسة لقراءة أكاديمية تفحص الروايات، وتستبعد الضعيف منها، وتربط بينها لتنتج صورة متكاملة موضوعية ما استطاع الكاتب، كان العقاد يبحث عن كتابة ذاتية، نابعة من تحليله الناتج عن اطلاع على المصادر الرئيسة، وهو ما قاله في مقدمة إحدى عبقرياته من أنه لا يسعى للتأريخ، وإنما يسعى للتحليل النفسي للشخصيات التي يخضعها للدراسة.

في العبقريات استخدم العقاد هذا النهج، فقدم كتابات ما زالت مرجعًا للباحثين حتى الآن، في حين جانبه التوفيق في بعضها، حسبما يرى البعض فلم تحظ هذه الكتابات بالاهتمام نفسه الذي حظيت به مثيلاتها.

يحاول العقاد في عبقرياته أن يرجع أفعال شخصياته إلى صفات موروثة، وهو الذي كان مؤمنًا بتوارث العبقرية وانتقال الصفات عبر الأجيال، فيشير في مفتتح كل كتاب، أو عند خاتمته إلى مفتاح يمكن رد سلوك الشخصية إليه، "مفتاح للشخصية"، وهو الأمر الذي، وإن نجح في مواضع، فإنه لم يحظ بالرضا في مواضع أخرى.

في عبقرية الصديق مثلًا، يرى العقاد أن مفتاح شخصية الصديق يكمن في الإجاب بالبطولة، وهو الذي دفعه للإعجاب بالنبي محمد – عليه السلام- وتصديقه، بل واتباع سنته في كل ما جاء به دون تغيير "إنما أن متبع ولست بمبتدع"، في حين يرد الأستاذ سلوك الفاروق عمر في "عبقرية عمر" إلى طبيعة الجندي، ليفسر حماسة عمر، واندفاعه بلا هوادة لتنفيذ ما يراه حقًا.

ربما كان الكتابان المذكوران هما الأشهر بين عبقريات العقاد، بيد أن الكتابين اللذين أظهرا مجهودًا تحليليًا واسعًا هما "عبقرية الإمام"، و"معاوية"؛ ذلك أنه في الأول رد إلى حد بعيد شبهة الضعف عن الإمام علي – كرم الله وجهه- بل واختار الفروسية مفتاحًا لشخصيته ليبرز مواضع أظهر فيها الإمام شجاعة وقوة، ربما لم يكن من الممكن أن يظهرهما غيره، ولعل هذه هو ما جعل الكتاب يحظى بشعبية واسعة لدى المجتمعات الشيعية، التي رأت في العقاد كاتبًا أنصف الإمام حيث خذله غيره، ربما خوفًا من تهمة التشيع.

في "معاوية" يبرز العقاد شجاعة مماثلة حين يحلل شخصية معاوية بن أبي سفيان، أول حكام الدولة الأموية. ففي حين يتخذ معظم الباحثين الإسلاميين موقفًا محايدًا في التعرض لمعاوية، ربما خوفًا أيضًا من تهمة إهانة الصحابة، رد العقاد سلوك معاوية إلى تاريخ قبيلته "بني أمية"، وما اشتهرت به من حب للزعامة والسلطة وشهوة للمال، واضعًا أساسًا للمعركة التي دارت بين الإمام علي من جهة، ومعاوية وطلحة والزبير من جهة الأخرى، مقارنًا بين تاريخ القبيلتين لا تاريخ الشخصيتين.

ومن عجب، أن العقد اتخذ موقفًا لو أن غيره اتخذه، وبخاصة طه حسين، الذي تعرض لهجمة عنيفة بعد كتابه الشهير "في الشعر الجاهلي"، بلغت حد اتهامه بالكفر، وتعمد الإساءة للإسلام، والقرآن تحديدًا، كان هذا الموقف هو تحليله لمبررات انحياز السيدة عائشة - رضي الله عنها- لمعاوية في مواجهة الإمام علي.

ويرى العقاد في "عبقرية الإمام"، أن هذا الموقف جاء لعدة أسباب، أولها: أن أم المؤمنين كانت ما تزال حانقة على الإمام علي، بسبب موقفه في حادثة الإفك، حين أشار على النبي – عليه السلام- بتطليقها. أما السبب الثاني، حسبما يرى الأستاذ، فهو أنها كانت تفضل أن تستتب الأمور لطلحة، أحد أنصار معاوية، لأنه من تيم، قبيلة الصديق، ليأتي السبب الثالث مشابهًا: وهو أنها كانت تحبذ وصول الزبير للحكم، على الأقل حكم أحد الأقطار الكبرى، لأنه زوج أختها _ أسماء رضي الله عنها.

أما الكتاب الذي لم يحظ بالاهتمام نفسه – على غير المتوقع- فهو "عبقرية محمد"، الذي حاول فيه تحليل شخصية النبي. ويرى البعض، أن سبب ضعف الكتاب، على الأقل مقارنة بما كتبه غيره من العرب والمستشرقين، يكمن في أنه لم يقدم جديدًا يذكر، إنما اكتفى بذكر محاسن النبي ومآثره المعروفة.

في حين يرى البعض الآخر، أنه كان متعسفًا في بعض المواضع، مثل مقارنة النبي بالقائد الفرنسي الشهير نابليون بونابرت غير مرة، للتدليل على عبقرية النبي الحربية. فمن جانب: لا يحتاج النبي للمقارنة بغيره للتدليل على عبقريته، ومن جانب آخر: لم يراع الكاتب الفارق الزمني والتطور الرهيب الذي شهدته حقبة نابليون فرنسي على المستوى العسكري، الأمر الذي يجعل المقارنة تعسفية.


محمد فايز جاد

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى