بنسالم حميش - فوضى الألفاظِ الفخاخ

دعونا نتأمل في ألفاظ فخاخ منتشرة بقدر ما هي حمّالة أضرار صميمية وأخرى جانبية، ألفاظ تجثم على الفكر والنظر فالسلوك، فتعيقهم، أو على الأقل تخل بوظائفهم وتعمّيها، فكيف ذلك؟

1/ فئة ألفاظ جرت مجرى العادة، إذ تكرّرت فتقررت بما هي عليه ويحسن ترويضها قدر الإمكان. فبعضها متولد من مكر اللغة، أو إن شئنا من أفعالها القياسية (performances) وتتجلى مثلا في ما سماه قدماء اليونان أكسيمرون (oxymoron)، كقولنا: الحلو المرّ، الواضح المعتم، الضياء المظلم، غامض كالماس... ويشبهه عند العرب من دون أن يطابقه ما سموه الأضداد، وهي قسم من المشترك اللفظي (polysémie)، وخلفوا لنا حولها مصنفات (الأصمعي، الأنباري، ابن السكيت...)، وذلك لأن المسمى المذكور يدل على تضاد دلالي في الكلمة المفردة، كما في مولى (العبد والسيد) هوى (أحبَّ وسقط)، بشّر (ويعني أيضا أنذر، كما في ﴿وبشرهم بعذاب أليم﴾ وآيات أخرى) بصير (راءٍ وأعمى في العامية المغاربية)، عليل (زكي ومريض)، فنتة (امرأة فاتنة وحالة اضطراب وصدام)، أتربَ، بؤبؤ، وغيرها كثير. أضف إليها مصطلح المتشابه في التفاسير القرآنية، وكذلك في البلاغة المجازات والاستعارات والكنايات والتوريات (métonymies، métaphores)، كقولك: شرب كأسا، سقط على أم رأسه، ضاجع الخوف، اتخذ الليل جملا، هام على وجهه، ركب رأسه، بلع لسانه...

هذا علاوة على ألفاظ سيئة الوضع: سن اليأس، "العيالات"، متقاعد، على قيد الحياة، بائرة (كمرادف لكلمة عانس)، ضريبة (من ضرب)، ممرضة (والأصوب هو مسعفة، ونقول سيارة إسعاف)، نحْر (كمرادف لعنق وجيد) "أناس ملونون" (السود تخصيصا، كما لو أن البياض ليس لونا)، التمييز الإيجابي والأصح هو الميز (discrimination)، وليس التمييز الذي مقابله الأدق هو (distinction)،

أما تسويغ هذا التركيب اللفظي المتنافر ثم تسويقه فيمكنه بالقياس والممثالة أن يفتح الباب مشرعا لتخليطات أخرى، تصف بالإيجابية مثلا المحسوبية والريعية، وربما -لِـمَ لا!- الإستبداد والعنف؛ هذا في حين أن "الميز الإيجابي" يُعبّر عنه في اللغة الأنجليزية بلفظتي الفعل الإيجابي (positive action)؛ وكلُّ ما ذكرت إنما هو غيض من فيض.

أما ما يلزم معرفيا التنبيه إليه فهو فشو ألفاظٍ فخاخ قلما يُنظر إلى فوضاها ومضاعفاتها السلبية، وهي رائجة في إنشائيات وكلاميات جماعات من أهل القلم والصحافة والسياسة:

2/ فئة ألفاظ فاسدة

إنها الأخطر والأدهى فكريا وتواصليا، وهذا بيانه:

في ظل الواقع اللغوي السيّار وما يعتريه من فوضى عارمة، كمْ يطالعنا، حتى على صعيد الوطن الواحد، استعمال إسهاليٌّ مفرط لألفاظ مثل التنوع، التعدد، الاختلاف، وحتى الانفتاح الكثير الرواج (وذلك حين يضحو بمثابة عزوف عُصابي عن الذات المرجع والأصل وافتتانٍ بالمتغلِّب الأقوى، فاقدٍ لحاسة التمييز وممارسة النقد).

وقس على ذلك لفظ التعدد الذي قد يصير مُفسدَ كل حوار إيجابي مثمر إذا ما أسيئت مراقبته وإدارته. ففي وسط مبلقنٍ سياسيا وحامل لكسور ثقافية خطيرة، وبمحضر قنوات تواصل مهشمة، فإن ذلك اللفظ، كعلامة غنى مفترض،لا يعدو أن يكون محارة فارغة ويافطة خادعة، تترتب عليه عواقب وخيمة، منها أن الحق في الاختلاف (la différence) المطلوب بالهتاف والإلحاح، يتحول في الممارسة الفعلية إلى حق في اللامبالاة (l’indifférence)، وبالتالي إلى التمهيد للكراهية بين الذوات وخطابات البارانويا والانظواء الفصامي.

والحال أننا في هذا المجال نواجه أيضا تصورات سائبة ولا منتجة، بحيث تنتهي إلى إقامة حيطان عازلة بين الأوعاء الجماعية وحتى الفردية، لعلها الأخطر من سواها، بسبب انتمائها إلى دوائر الرمزي واللامادي.

بناءً على ما تقدم، نخلص إلى أن عينة الألفاظ الثانية لا ترقى إلى مقام المفاهيم، إذ أنها في تركيبتها البدئية إنما تخضع لتسخيرات يومية جارية ولقواعد الإختزال والإدغام والجهد الأدنى؛ فيما المفاهيم، عكس ذلك، تبدو كنتاج الفعل الفكري وعملياته.

3/ عن التنوع الخراق

إن كل من يجهلون في ذلك الشأن عطاءات الفلاسفة وكبار المفكرين، أو يقصِّرون في استحضارها، يخطئون المنهج والمرمى، مثلهم كحاطبي ليل، فلا يُجيدون ولا يفيدون. وعليه فإن تلك العطاءات لا يجوز تحييدها والقفز عليها، وذلك لكونها منشئة ومضيئة. وهكذا فإن المقاربة الفلسفية للكلمات المذكورة تحوّلها إلى مفاهيم من خلال ربطها عضويا بالمكون الذي يؤسسها وينعشها، وهو التواصل أو ما يسميه الفيلسوف الألماني يورﭼـن هابرمس "الفعل التواصلي"، الذي به تقوم وتتحقق شروط الندية والإستعراف وبالتالي التنوعِ الخلاق؛ وفي غيابه تؤول تلكم الألفاظ -التي يتعبدها الكثيرون ويلهجون بها- إلى الضمور والتلاشي، فنكون بمحضر التنوع الخرّاق، أي المليء بالشروخ والفتوق. وهكذا حال تلكم الألفاظ في أوساط إعلاميين ومثقفين من هواة التبرج والطبخات الملفقة السريعة، وتنضاف إليها أخرى، مع وجود الفارق، تعلو أسهمها اليوم في بورصات الكلام المستهلك الذائع، وتتطاير في أفواه أولئك وغيرهم، بلا رقيب لغوي ولا حسيب معرفي، ومنها: القيمة المضافة، الرافعة، المثقف العضوي، الحوار الثقافي، الحكامة، القوة الناعمة، إلخ.

إن التنوع (وأردافه) حين لا يتمخض إذن عن التمثل المفهومي وعملية الفكر، فإنه يغدو مسخا وعامل سلبٍ لأنموذج التنوع البيولوجي نفسه (biodiversité)، فيولِّد عناصر مرضية من طبيعتها أن تنخر، كسرطان، جسم مجتمع كله بتعريضه لمخاطر شتى: تفكك العلائق وتقطعها، احتقان قنوات التواصل والتبادل، تفشي التنابذ والتصامم والتباغض، وسوى ذلك من الـمضاعفات المفضية إلى مجتمع عصائبي متشظٍّ، ضعيف التماسك والتضامن. وهكذا يصير فيه مفهوم الوحدة أو الاتحاد مخفَّضا، بل مهملا وغير مُدْمَجٍ ومبرمج، هذا في حين أنه في البلدان المتقدمة يقوم كعُملة قوية وإسمنت تمسيكي، وكغاية مثلى في حد ذاتها، كما الحال في الولايات الأمريكية المتحدة والمملكة البريطانية المتحدة والإتحاد الأوروبي وفي بلدان متقدمة أخرى.

إن الأخطر في الأمر أن تلك الكلمات المعلّبةِ الجاهزة تُخِلُّ بمفهوم الهوية نفسها كمفهوم محوري تأسيسي، وذلك بالترويج لما يسمى "الهوية المتنوعة المتعددة" من طرف جهات متنفذة في بلدان المغرب العربي خصيصا، علاوة على النزعات الطائفية والعشائرية، ودعاتها الذين لا همَّ لهم ولا مبتغى إلا تعطيل الهوية الإجماعية وإفراغها شيئا فشيئا من نوابضها الحيوية، ومن مناعتها المكتسبة ومقوماتها التاريخية والثقافية واللغوية الثرية العميقة.

إن أسوأ التراجيديات هو أن يصير الإنسان حتى في البلاد الواحدة عصيا على الإنسان في حقل الإدراك والتعرف، وأسوأ منه أن يحدث ذلك بين أناس عاشوا تاريخا مشتركا، ومعا كافحوا ونشدوا وأنشدوا وشيدوا...

إن إرادة الحياة معا وتشكيل مجموعة اتحادية قوية، حرة كريمة: هناك زمرٌ يرومون عرضها على الهدم؛ زمر ليس في أفواههم سوى كلمات لا تتسع إلا لبضع أفكار قارة متصلبة، سليلةِ انخراطات بئيسة مستلَبة، تدور حول القطعيات العقدية والسلوكات العنيفة، وحول العرق والقبيلة والإثنية.

والمستخلص أن مفهوم التنوع الحق هو ما يمكننا تعريفه كقانون إطار حيث التواصل التعارفي والتبادلي يكون بمثابة قاعدة لا يستقيم سيرها ووظيفتها إلا بضمان السواسية والاستعراف المنتج الحق. وعليه، فإذا كان العلم من دون وعي (أخلاقي) عبارة عن خراب الروح كما قال فرنسوا رابلي، فكذلك الأمر في التنوع من دون البعد التواصليِّ الملازم والتناسج المقويِّ اللاحم الرتقي. وللحديث صلة...

بنسالم حميش.jpg

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى