إبراهيم محمود - النسخة المفقودة: لو أن أمل الكردفاني لم يكن شاعراً "8"

ما كنت آمل أن تكون " الحلقة" ختامية، رغم أنها كتابةً، هي الأخيرة، وفي اعتقادي أنها ليست ختامية، حيث يستمر الكلام بمعنىً آخر، وليكون للكتابة مدى آخر بالمقابل، على مستوى تلقّي الأثر، وما يمكن أن يحدث تالياً ترقباً بالنسبة إلي، وربما كان الذي أثيره هنا بصدد المنصوص عليه شعراً لدى أمل الكردفاني، وتداخله مع المنصوص عليه نثراً، أكثر سخونة مما أثرتُ سالفاً، أولاً كموقف نقدي من جملة كتاباته، وتقديري الموازي لها، وكعلاقة انبنت من خلال هذه القراءة المتعددة الموضوعات، وثانياً، لأن ما أفصح عنه شعراً أو نثراً وهو يناظر الآخر أحياناً، يثير بالمقابل، العديد من الأسئلة التخومية التي تخص صوت عرائس بحر يوليسيس.

لهذا، فإن الذي أوردُه بداية، هو في العناصر الخمسة للشعر، تلك التي أبرزه بها الكاتب والشاعر المكسيكي الكبير أوكتافيو باث، في مستهل تقديمه لكتابه " الشعر ونهايات القرن" بقوله( فالشعر حرفة في غاية الغموض، إنه مهمة ولغز، تسلية " تمضية وقت" وسر مقدس، صنعة وعشق). تقديمٌ أريدً منه، من خلال قراءة عموم الكتاب الذي هو جماع مقالات أساساً، إخبار القارىء هكذا: أريدك قارىئاً لكتابي بمقالاته التي تكونه من خلال ما استهللت به تقديمي له، أو ليتك تقرأه هكذا، أو إن لم تقرأه بالصيغة التي أفصحت عنها، فلا يمكنك التفاعل مع محتوياته. أحسب أنها عناصر تبلغ بالشاعر حد المستحيل أحياناً، ليكون لقاء الشعر بالذات، ولا بد أن هذه العناصر، كما تابعتُها تفصيلاً، تؤكد مدى أهمية الشعر، وخطورة لقائه بالمقابل .

وعندما أتحدث بالطريقة هذه، فلعلّي على قناعة ما، على إرادة واعية واعية ومتحمسة، بأن النثر الذي هو في صنعته أقرب إلى الحساب، يكون الشعر أقرب في صنعته إلى الهندسة، وتعقيدات عوالم هذه، بحثٌ عن الجزة الذهبية، إقامة فوق الهاوية واليقظة المضاعفة تجنباً للسقوط أو النزول سافلاً، وكونه في كل قصيدة معلِن قيامة معينة، وما لها من كونية صفات، حيث تكون الدهشة أول حرف في ألفباء الشعر، والكتابة في الاتجاهات كافة.

حسبي هنا، أن أورد ما أشار إليه صديقي المعرفي أمل، وأقولها بعيداً عن أي لغة دبلوماسية، في مقاله " مع احترامي... ما تكتبونه ليس شعراً، 28 حزيران 2020" ولم يخل مقاله من نبرة تهكم، ومن قسوة نيتشوية بالمقابل، ومن ذلك:

( أن تصاب باللوز والتهابات الحلق ثم تحاول ابتلاع الطوب فهذا مؤلم...لكنه أقل إيلاما من قراءة رصات الطوب التي يكتبها السذج ممن يسمون أنفسهم شعراء ما بعد وقبل وفوق وتحت الحداثة في السودان.
أنت حداثوي فأنت مثقف..

إنهم يعتقدون أن المسألة بسيطة، فكل من هب ودب أصبح يرص طوبه الطفولي الساذج ثم يطبع بضعة وريقات يسميها شعراً.

وطبعا لديهم تقديس كبير جداً للسيد لوركا... فالإسم له شنة ورنة..ناهيك عن كونه يسارياً أنشد شعراً حماسيا قبل رميه بالرصاص.. ولذلك لوركا هو مفتاح اقتحام هذه الشلليات الساذجة... كلمة السر..).

لن أخالفه رأياً فيما ذهب إلى قوله، بالعكس، ثمة الكثير مما ينسَب ليس إلى الشعر، وإنما إلى مفهوم الكتابة الكتابة " مكرَّرة للتأكيد" زوراً، ودائماً باسم رفض الوصائياً، وأو للاستبداد الآبائي، وباسم " حرية التعبير".

ومن المؤكد أن إيراد هذه المقتطفات من مقاله ذاك، ربما يوحي بأن الذي سأتوقف عنده، يندرج في هذا المنحى. كلا! إنما هو تذكير ببعض من النقد ذي العلاقة، ومن خلال ما أجده من أساسيات الشعر " في الوزن" وفي جماليات الشعر، وهو ما تراءى لي في " خمسية" باث جهة عناصر الشعر.


ما يتداخل من قول في الشعر والنثر

أنوّه إلى نقطة رئيسة، ومن خلال قراءات مختلفة لي، وهي أن الذي يُسمِعني صوت جنّيات البحر، ليس الوزن، وليس القافية، كما هو المعهود في المعتبَر: شعراً كلاسيكياً، إنما ما يخرج بالمرء من متاهة الواقع المبلّدة للروح، إلى متاهة الواقع المعزّزة للروح، ما يجعل مشهد واقع صادم بفجائعه، واقعَ مشهد معزَّز بما هو فني. حيث تعيد اللغة لذاتها خلقاً جديداً من خلال هذا النوع من التعبير المدشَّن شعراً، بما أن اللغة أساساً " خلق جمالي، بتعبير بورخيس، لتكوّن في الشعر خلقاً داخل خلق، وهذا ما سأتوقف عنده، أو ما سأحاول محاورته في نماذج مختلفة.

لدى أمل، لمن يتحرّى بنية هذه النصوص، ويقتفي كيفية تفاعله مع كونه شاعراً، أو ناثراً شاعراً، ما يندرج في نص القافية الواحدة، وما يكون في إهاب الشعر الحر، وما ينسرح خارج النوعين، ليس من قافية، وليس من وزن، تجاوباً مع إيقاع مودع داخلياً.

في " بانياسيس - أنبياء السعادة – قصيدة، 24 كانون الأول 2018" وتحت عنوان " النبي الأول" نقرأ:

ما قدم الشيطان من خير نفيس *** إلا بتزيين السعادة في الكؤوسْ
يطرح النشوة ثم يجمعها معاً *** ثم يقذفها بأوهام الرؤوسْ
فإذا بالكون وضاح السَّنَى *** وبوصل العشق قد زيجت نفوسْ
أي فحيي حضرة الكأس بقربي*** فخبال الخمر في عقلي يجوسْ

لدينا القافية الواحدة، وثمة إيحاء، ومن باب اللزوم، بوجود وزن، أو بحر معين، وهذا ما ليس أثر له البتة، كما هي معرفتي المتواضعة بالشعر وعروضه.

ربما نعثر على جذاذات من بحور مختلفة: بعض من " الرجَز" في الشطر الأول، في البيت الأول، بعض من " الكامل" في الشطر الثاني، وبعض من "الرَّمَل" في الشطر الأول في البيت الثالث ...الخ، وهذا يدفع بي إلى الاعتقاد أن أمل يستجيب لنوع من الإيقاع الموسيقي الداخلي، وليس الوزن ذا المسافات أو الأبعاد المحدَّدة تبعاً لاسمه، وما ينسيه بذلك دقة الوزن لتكون القافية قافية " في مستوى اسمها" وليس أقرب إلى السجع .

لنلاحظ وضع الشعر أو النثر في نصه " مرجل الثورة -نص نثري، 2 ك2، 2019"، وكما هو تسطير الكلمات:

والقافزون من السفينة.. مثل يونس... لا يرون الحوت قادم... وذوو الطموحات العريضة .. وتجار المنابر .. بأفئدة مريضة... ومسرور سياف الخليفة.. رمى الماضي.. وامتشق اللسان تدلها بأفخاذ الوطن...

نجد أنفسنا إزاء نص شعري جهة الوزن، وحتى على مستوى جمالية الإيقاع الموسيقي، هناك ما يلفت النظر، وصولاً إلى مفردة " العريضة" استناداً إلى بحر " الكامل"، بعدها يختل الوزن، ويفقد الوزن هذا اسمَه بالمقابل، فيختلط الشعر بالنثر، وليت أمل اكتفى بالبناء الجُملي بعيداً عن القافية الواحدة، وعن المنشود " الوزني" جرّاء الابتعاد عن تقنية الوزن .

ذلك ما نتلمسه في مثال نصه " للجميلات.. 23 أيلول 2019" أي بوصف المكتوب شعراً:

يحق للجميلات الغرور
اسع اليها...
فوق غصن الياسمين
لن تقابل وردة تمشي
نحو من طلب الرحيق
فالجميلات .. زهور...
وللجميلات
حقوق ليس عند العالمين
لهن ان يضحكن .. ان يبكين..

ما أريد قوله هنا، هو أن الرغبة الكامنة في نفس أمل بوجوب التقابل بين الكلمات من وزن واحد، أو تقفّيها، تمارس ضغطاً على مخياله الأدبي، كما يبدو لي، وأن هذه الصنعة تهدر روح التسمية لكل من الشعر والنثر معاً. لدى أمل سعي، كما هو استقصائي لكيفية بناء الكلمات بتلك الطريقة المرئية والمسموعة بإيقاع داخلي يوحي بوجود شرط الوزن، ولكنه سعي مغاير، لما هو معتقَد، تبعاً للنظرة الفاحصة لخاصية المسطور.

سأورد نماذج من النصوص المعتبرة " تقليدية ":

في " دع الكأس، 22 أيار 2019 "

دعِ الكأس دعَّاً إن دنا لا تُباعدِ = ورِقَّ بنهزِ حبيبٍ لم تواعدِ
تضمُّ حياضاً لمْ تذق لها = وطأ المياسمِ من عناقِ الأماردِ

البيت الأول من بحر " الطويل"، لكن الثاني ضائع الوزن بين شطريه .

عدا عن ذلك، فإنني أتساءل عن مغزى كتابة نص كهذا، بتلك الكلمات التي تمضي به إلى زمان سالف، موغل في القِدم، وهو يعيش جديد شعر من نوع آخر، بخاصية نفسية تضعه في مواجهة متطلبات لغة من نوع آخر، أما إذا كان المبتغى النفسي، هو تأكيد نوع من الندّية في إمكانية كتابة نص كهذا، إلى آخره:

بنا خمص ولهف ورقة
ورهبة قداس بمحراب عابد

فيمكنني القول أنه يخسر الكثير من وقته الثمين والذي أعتقده دقيقاً في هذا المجال، وحيث إن من متطلبات كتابة شعر كهذا التمكن من الوزن قبل كل شيء، وهذا ينتفي عنده، حتى في البيت الأخير، وذلك في الشطر الأول، هكذا:

مفاعلين فعولن مفاعلن

فعول مفاعيلن فعولن مفاعلن

أمل في كلماته القاموسية القديمة هذه، استجاب لرغبة نفسية معينة، غير فالحة في تأكيد واقع ليس به يكون كلام أمل، أو نشاط أمل في وسط لا بد أنه يستعجم هذه الكلمات ومغزاها.

في " ودع سباطة..30 أيلول 2019"

ودع سباطة إن العمر محدود = رجس تنجس منه الورد والعود
هي الموت لم يبلغ نهايته = حي تراه فيمشي وهو مكدود

النص يعلِم منذ بيته الأول بأنه من بحر " البسيط" لكن ثمة أبياتاً تخل بالوزن، كما في البيت الثاني والمذكور هنا، وهو يذكّر بما هو طلَلي، فيخرجه هذا التوجه من عالم مدنيته كثيراً.

في نص " البحر.. قصيدة صوتية، 2 تشرين الأول 2019 ":

أيها البحر ساكناً تتجلى = في خشوع كراهب بمُصلَّى
فإذا جفت ينابيع روحي = واستوى البؤس بَعداً وقَبلا

***

أيها البحر ما دهى الواقفين = على الجسر وما يرقبون
أي سر بموجك يغري = لفتة القلب للناظرين
أيأملون أن تزيل حجاباً = طوق الأرض من قديم السنين

كما هي الحالة السابقة، ينبىء البيت بأن النص من بحر " الخفيف" لكنه ينكسر في أبيات مختلفة، كما في الأمثلة التالية على البيت الأول، ومن جهة ثانية، ثمة استفسار حول مفهوم " القصيدة الصوتية" وكيفية الربط بينها وبين القصيدة الأخرى، إذ الصوتية التي تتحكم بها حنجرة الشاعر، فلا يكاد المستمع يشعر بخلل معين، لا يعني ذلك أنها في بنيتها منزوعة الوزن، إنما هي صوتية، أي تكون القصيدة مسموعة، بصوت الشاعر، أو من يقرأها باسمه .

في نص " غرابا عك، 5 تشرين الأول 2019 "

دغدغ عواطف عامة الغوغاء
بالدين او بالثورة البلقاء
إن الشعوب إذا تفكر عقلها
نفث الدماغ روائحا لفساء
وإذا تفكر منهمو بعض ناشز
بالوا عليه وليثوا بخراء

النص مقام من بحر " الكامل"، لكن السطر الثالث مخالف للوزن عموماً، ومن جهة التعبير، لا يخفى على قارئه أن هناك سخطاً لديه، وأكثر منه، من خلال المفردتين " بالوا- بخراء"، وهما دالتان على تصور معين للجاري واقعاً، وحتى على مستوى تصريف الكلمة، فثمة ما لا يصرَّف من الكلمات، كما في حال " روائحا" وهي " روائح" من باب الدقة، ولعل أمل رسم الكلمة هكذا استجابة لذائقة الوزن الذي انساق له.

أو في قصيدته " مالي أرى خمراً بلا خمرِ، 16 آذار 2020"

مالي أرى خمراً بلا خمرِ
لا يطفئ القدْح لوعة الجَمْرِ
والكأس فيها كالأيامِ خاويةٌ
تمضي وترشف من سُدى العمرِ
تمضي وتطوى لُجَّتي عبثاً
تنأى بعيداً دونما اثرِ

لا يخفى على المعني ببحور الشعر، أن أمل استعان ببحر " الكامل" ولكن ليس من " الكامل" هنا ما يعزّز به حضوره ، إلى جانب أنه " استبد" ببعض الكلمات جهة التشكيل، وكيف أن المعنى يختلف تماماً، كما في مفردة " القدْح" وأظنه أرادها " قدَحاً" وليس " قدْحاً" الكلمة ذات المعنى السلبي: الذَمّي، ىحيث الكأس ما كان فارغاً، والقدح ما كان ممتلئاً من الكأس.

ولنأخذ هذا النموذج الآخر، والذي ينتمي إلى الشعر الحديث " لحظة 22 تموز 2020"

منقوعة في إناء خلْ
لكي تظلْ
حية بلا أملْ

لا شيء
يشبه ابتسامة النهير
الفاترة
عابراً أضرحة الصمت
والأزمنة الغابرة

الصورة الشعرية لافتة، ولعلها تكون أجمل لو خلت من المعتبَر" قافية" نظراً لعدم وجود الوزن العام، وأحسب أن أمل في كتابته " النهير" وليس " النهر" تصرف هكذا تحت وطأة الوزن، وبطريقته أضعف الحمولة الدلالية للكلمة، حيث إنها ليست للتحبب أو التصغير تحبباً.

في الجانب الآخر، ما اندرج في نطاق النثر، ثمة ما يشذ عن هذا المسار.

في " كردية.. محاولة نثرية، 13 تموز 2018 "

صوت الدانة
يغوص على قلب الرمانة...
فينجب زهر الغضب العاشق...
طفل الحرية...
انا امرأة كردية...
انا من انبت من رائحة الغسق الأحمر
من صوت الرصاصة..
بنهدي الطازج...
بضفيرة شعري..
وحذاء الجندية...

لا يخفى على القارىء ذلك الانشغال بوحدة القافية في بعض الجمل، وأحسب لو أنه استرسل في الكلام لجاء المنساب أكثر عذوبة، وأنا هنا أشدد على حيوية المعنى أحياناً، استناداً إلى بنية الموضوع، وهو بطابعه الوجداني، كون المضمون يصل بهذا البعد الإنساني العميق لديه .

أو في نثريته " بانياسيس - شمس ديسمبر القديمة، 4 كانون الأول 2018 "

ازرع..
ادغالا من الأوهام في رأسي
ويأكلها الصباح..
وأقول
حين يغمرني غروب الأمس
لا شيء راح
فأعيد صياغة التاريخ
وفلسفات العالم الموبوء
بالترهات..
تنمو أشجار الدليب
على صحارى الغد
وبعد الغد..
وما بعد بعد الغد..

حيث إن السؤال المطروح هنا هو: أكان أمل لحظة كتابته لنصه هذا يعيش لحظة الشعر أم النثر، وأي صورة كانت تتشكل لديه، وهو متقاسَم بين الاثنين، وكيف؟

نعم، لكل منا قاموسه من المفردات والصيغ، إنما شريطة عدم تجاهل ما لا ينبغي تجاهله، وحين يقول أمل في مقاله " أنا واللغة العربية، 28 تشرين الثاني2019" ما يشير إلى هذا الحراك اللفظي:

) لا تسلني عن إعراب جملة ؛ فهذا أمر لا معرفة لي به. وقد يتساءل متسائل: فكيف تكتب كما تشاء؛ تارة ببساطة وتارة بتعقيد وتارة بتبئير وتعقير وتارة تكتب كما لو كنت لا تفقه شيئا في اللغة.

أقول: لكل مقام مقال. ولكن من يفعل ذلك في الواقع ليس أنا.. من يفعل ذلك رجل عاصرته قبل ثلاثين عاما حيث تلقيت على يديه دروس اللغة ؛ اللغة العربية. اللغة العظيمة والمهزومة ثقافيا ، ومع ذلك تظل معشوقتي الأولى

مع ذلك فلا يعني انهزام اللغة العربية نهايتها فهي لغة شديدة الصعوبة ؛ وحتى اليوم لا يستطيع أحد إكمال معرفته بها ، فنحن نستهلك منها جزء يسيرا قد لا يتجاوز عشرة في المائة من مخزونها الثري أو ربما أقل.).

أشدّد على يديه، حيث لا يُطلَب من أيّ منا أن يعرِب كلمة أو جملة ما، أو ما يكون عليه وضعها قواعدياً، إنما هناك ما يخل بالقاعدة، وهو ما ينبغي التوقف عنده، في بعض من المفردات التي يستخدمها أمل ليس في موضوعنا هنا، وإنما في حلقات سابقة، والأمثلة قليلة في هذا الجانب كثيراً، أعني بذلك ما يتصل الحال ببعض التركيبات غير الدقيقة نحوياً.

وبصدد ما تقدم، حيث أكتفي بالنماذج المذكورة، لعلّي، وتبعاً لتقديري، أشعر بالفراغ الذي يعيشه أمل، وهو بمفهومه الزمني، وأن الذي لديه على مستوى التعبير، ربما يحفّز فيه طاقة من نوع آخر، تشده إلى ما هو شعري، وأنه يستجيب لنداء روح خفية، روح طائفة في دائرة متخيلة لديه، على علاقة قوية بدافع نفسي معين لديه، وأنه بإجرائه هذا، يتملكه اعتقاد بما هو تنفيسي أكثر من أي ممارسة كتابية أخرى: كيف يقاوم الرتابة في محيطه، وتكلس الصادم له في روحه مجدداً، كيف يحيل الأشباح الضاغطة على سماء ذهنه جرّاء واقع كابوس، إلى نص شعري أو نثري، وليس إلى مقال ما، وكيف يتناغم مع صوته شعرياً وليس سواه، ويصعد بصورة إنسانه المحلي، الإقليمي، والعالمي كذلك إلى تلك السوية التي ينهمُّ بها، فصعود " الجلجلة" والجلبة الحادثة، معهود شعري، أكثر من أي آخر من الفنون والآداب.

أقولها، ومن خلال ما تطرقت إليه من نماذج أو أمثله من " الحلقة" الأولى، وأنا كلّي يقين، وبعيداً عن أي كلام مجاني، أن بين جنبي أمل، وداخله، روح كاتب متعدد الأصوات، ومقدرة مركَّبة في معايشتها، أي " مسألة قدرة" كما أشار إلى ذلك في مقاله " الاستبصار .. جنيالوجيا العمق الكتابي، 20 آب 2019"، أي ما يجعله كاتباً له صوته الذي يؤمّن على مستقبله أكثر، فيما لو نحّى المعتبَر شعراً، أو نثراً، ومن خلال مجموعة من النصوص التي قرأتها في هذا الموقع الأثير، وأنا أكتفي ببعض ٍ كأمثلة، وأظنه سوف يربح نفسه الواعية، المثقفة أكثر، أعني بذلك فراغه بمفهوم الزمن، والذي أتصوره دقيقاً في معايشته، وهو في غمار نهر هيراقليطس الذي لا يتوقف عن الجريان والتبدل: سعة، وعمقاً، وتموجات ٍ، وسرعة كذلك ...الخ.

ومن هذه القدرة، ووصولاً إلى هذه القدرة، وتأكيداً عليها، كان الذي كان أولاً، وحين شدَدتُ عليه، فإنما من هذه القدرة المعتبَرة، وليس كما يتصرف البعض، وربما الكثيرون، في تناول من يُعتبرون " نجوماً" وما في ذلك من إساءة إلى خاصية الفكر والأدب والفن معاً، وثانياً، لأن الكتابة عن الآخر، وهو البعيد جغرافياً، ربما يكون التعبير الأمثل عن أنه بعيد بمفهومه الجغرافي فقط، وموضوعات أمل الكردفاني خير تأكيد على مثل هذا الاعتبار أولاً وأخيراً.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى