د. عادل الأسطة - ظلمتُ القطة والحق كل الحق... على الحمام

في تموز من العام الحالي استأتُ من القطة الوليدة. كن ثلاث قطط ولم أعد أرى سوى واحدة مع أمها. ما الذي ألمّ بأختيها... ربما كن ذكوراً، فلم أميّز، حتى اللحظة، بين الذكر والأنثى، إلاّ حين ألاحظ القطط تتسافد، وما أكثر ما تسافدت هذا العام في العلن! هل تأثرت القطط بمعطيات عصرنا؟ هل هي قطط قادمة من الشمال، حيث الحريات هناك أكثر مساحة. الشرفة ما عادت نظيفة، كما كانت، ولم أعهدها توسخ، فهي تذهب إلى حيث التراب، وهناك تقضي حاجتها.
برازها الذي ظننته برازها كان يلصق بالبلاط، وهات تنظيفاً! أنا بالكاد أنجز ما عليّ إنجازه: أنظف شقتين لي، وأنظف أرضية الساحة، وأجمع، من الحديقة، بقايا أوراق، وظروف الشيبس التي يلقيها الأطفال ومن أبناء وبنات إخوتي وأخواتي، وأجمع علب الكولا وزجاجات السفن أب وزيت القلي و.. و.. فأبناء إخوتي وأخواتي يفضلون الراحة التي لا تنال على جسر من التعب، على الراحة التي أشار إليها أبو تمام في مديح المعتصم:
بصرت بالراحة الكبرى، فلم ترها تنال إلاّ على جسر من التعب
وأدرك أن بذور المعتصم ليست موجودة في أي من أبناء إخوتي أو أخواتي، وأدرك أكثر صعوبة نجدة أية مسلمة أو تكرار فتح عمورية في زمننا. رب وامعتصماه.
لم ألتفت إلى عش الحمام الذي أقامته حمامة ما بين الواجهة والمكيّف ـ المكيّف إسرائيلي الماركة، ومن ركّبه لي، وهو لاجئ فلسطيني قال لي: إن الصناعة الإسرائيلية أفضل صناعة في العالم، وقلت له: يا سبحان الله ـ، وكنت أظن أن البراز هو براز القطة الصغيرة الوليدة حديثاً. قلت لعلّها لم تتعلم من أمها أين تفعلها. وقررت ألاّ أطعم القطط لما اعتقدته خطأ. يعني أردت أن أعاقب القطة عقاباً جماعياً، متأثراً بأبناء عمنا ـ أي والله أبناء عمنا ـ الإسرائيليين، هؤلاء الذين يعاقبون شعبنا عقاباً جماعياً على ما يفعله فرد واحد أو مجموعة أفراد، وقلت: من عاشر اليهود أربعين يوماً صار منهم، فكيف إذا عاشرهم أربعين عاماً وأكثر.
هل أنا في طريقي لأن أصبح صهيونياً، بل وصهيونياً متطرفاً، وأعتقد أنني لو أصبحت كذلك فلن ينظر إليّ على أنني مواطن له حقوق المواطنة، وقد أدرك عزمي بشارة هذا، فغادر إلى سوريا ولبنان، وتحسس بوادر حرب أهلية، فآثر قطر، وفيما بعد سارت على خطاه قيادات حماس بعضها.
بعد يومين ثلاثة من ملاحظة البراز أبصرت عشّ الحمامة، فأيقنت أنني لم أكن عادلاً، وكان الأولى بأهلي أن يسموني: ظالم. هل هدمت العش؟
كان الحمام يبني أعشاشه على شبابيك شقتي باعتبارها آمنة، فلم أكن أنظفها يومياً، وباعتباري لم أتصهين بعد، فأعاقبها على الاعتداء على حق الغير وعلى برازها المقرف. كنت، سابقاً، أنظف الشبابيك وأترك بيض الحمام على حاله. تكتمل البيضة ويخرج منها فرخ الحمام وتطير. تطير حتى تأتي حمامة أخرى وتبني عشاً جديداً فأكرّر عنوان قصيدة محمود درويش: يطيرُ الحمام.. يحطُّ الحمام، في تموز من العام الحالي كانت الطائرات الاسرائيلية تغير على غزة وتدمر، وكانت الدبابات تقصف ووجدتني أتبع، مع عش الحمام، سياسة مماثلة: هدمت العش قبل أن تكمل البيضة دورتها، فسقطت وانكسرت. هل كان على الحمامة أن تستأذنني لتصدر رخصة بناء عش؟ وهل كنت، بلا وعي، أتصرف تصرف الحكومات الإسرائيلية؟
يطيرُ الحمام.. يحطُّ الحمام.
هل انتهت الحكاية؟
قبل أسبوع تقريباً أردت تنظيف الشرفة. كان براز الحمام يلصق بالبلاط. هكذا قررت ثانية أن أهدم العش علّ الحمامة تجد مكاناً آخر، بيتاً آخر فيه ربّة بيت تنظف بيتها يومياً. لم ألاحظ أن هناك فرخيْ حمام ولدا حديثاً ـ خرجا حديثاً من البيضة/ ين.
ولم أراع وجود قطة حولها أربعة من أبنائها ـ أو بناتها ـ ولدوا/ ولدن، حديثاً.
كانت القطة ضامرة هزيلة بسبب الولادة، وكانت تموء طالبة الطعام الذي ما عدت أحضره لها، لأنها عالم ثالث: تخلُّف وتخلُّف وتخلُّف، وأنا فرد وبقايا طعامي لا يكفي واحدة، فكيف بعشرة وعشر؟! وما إن بدأت أهدم العش، حتى سقط فرخ حمام، وظل الثاني على بربيج المكيّف.
كانت القطة أسرع مني فالتقطته وخنقته وأخذته سريعاً إلى الحديقة لالتهامه، وأنا وقفت عاجزاً عن فعل أي شيء. غدوت مثل العرب بامتياز. هل كان فرخ الحمام يصرخ: واعادلاه، على غرار المرأة العمورية: وامعتصماه. ولم أنجد الفرخ، وأكثر ما حدث لي أنني شعرت بتأنيب ضمير لما حدث. أنا مسؤول عن قتل فرخ حمام، فماذا سيلمّ بي؟ يطيرُ الحمام.. يحطُّ الحمام.
ما حدث أعادني إلى حمامة أبي فراس الحمداني، ومنذ عقود وأنا أقرأ قصيدته وأدرّسها بين فترة وفترة في مساق المدخل إلى تذوق النص الأدبي في الجامعة:
أقولُ وقد ناحت بقربي حمامة أيا جارتا لو تعلمين بحالي
ولفترة طويلة كنت أذهب إلى أن حمامة أبي فراس هذه هي حمامة حقيقية، ولم يخطر ببالي أنها قد تكون رمزاً، علماً بأننا نحن، وأعني آباءنا وأمهاتنا، نستخدم دال الحمامة استخداماً مجازياً. طبعاً لم أفكر، حتى اللحظة، بأن أبا فراس استخدم دال الحمامة، كما استخدمته في "ليل الضفة الطويل" حين أوردت نكتة شاعت في فلسطين في فترة مؤتمر مدريد، نكتة ذات إيحاء جنسي.
مرة خطر ببالي أن دال أبي فراس "حمامة" قد يكون ذا مدلول رمزي، وقد تكون الحمامة امرأة من لحم ودم. ما الذي جعلني أذهب هذا المذهب، ودفعني من ثم للبحث والسؤال والقراءة وإعادة القراءة عن حياة أبي فراس؟
مرة شاهدت مسلسلاً تلفازياً عن الفترة التي عاش فيها أبو فراس، وأظن أن المسلسل حمل اسم الشاعر، ولاحظت أنه كان على علاقة بامرأة من قوم آسريه، ويبدو أنها وقعت في حبه، فأخذت تزوره وتتحدث معه. يومها تساءلت: أهي الحمامة في قصيدة الشاعر؟ يطيرُ الحمام.. يحطُّ الحمام.
براز الحمامة وفرخيها الساخن يلصق بالبلاط، ويحتاج تنظيفه إلى جهد، وقد نبهني إلى ضرورة الالتفات إلى شبابيك شقتي التي لم ألتفت إليها لفترة، وهكذا وجدت براز الحمام الذي جف، وحين يجف يسهل تنظيفه تقريباً، وهكذا بدأت مهمة أخرى: تنظيف الشايش ومتابعته أسبوعياً. وتذكرت مقدمة طه حسين لرواية اسحق موسى الحسيني "مذكرات دجاجة" (1943) وما أورده من أبيات شعر عربية فيها:
أبنات الهديل أسعدن أو عدْ نَ قليل العزاء بالإسعاد
إيه لله درّكن فأنتـ نَ اللواتي تحسن حفظ الوداد
وتساءلت: هل سأكتب، ذات يوم، رواية عنوانها: مذكرات حمامة؟ ومن المؤكد أنني لن أفعل هذا، حتى لا يذهب كثيرون إلى أنها رواية رمزية، وأن اللفظ ذو إيحاء جنسي، وقد يكون وقد لا يكون، ولا أدري لمَ لمْ أستخدم هذا الدال في روايتي "الوطن عندما يخون"!
ما زال منظر القطة، وهي تفترس فرخ الحمام، يلازمني ويشعرني بتأنيب الضمير.
هل كان إبراهيم طوقان أراحني حين كتب قصيدته "الحبشي الذبيح" وهي قصيدة ذات بعد رمزي، فقد قابل فيها بين الجزّار والحبشي وبين الدول المستعمِرة ودول العالم الثالث المستعمَرة؟ من يذكر القصيدة؟
برقت له مسنونة تتلهّبُ أمضى من القدر المتاح وأغلبُ
و.. و.. ظلمت القطة، والحق.. كل الحق على.. عليَّ أنا!!

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى